إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (١١)
خالد الحاج عبد المحمود
بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته
(11)
السنة
بعد هذا الحديث الموجز عن القرآن، في إطار حديثنا عن مفاتيح قضية أن العصر الذهبي للإسلام أمامنا، يجئ الحديث عن السنة، المصدر الثاني للإسلام.. وحديثنا عن السنة، ليس مغايراً لحديثنا عن القرآن، وإنما هو بسبيل منه.. فالسنة هي حياة النبي صلى الله عليه وسلم.. وحياة النبي هي مفتاح القرآن، فقد كانت تلك الحياة الخصبة تجسيداً لمعاني القرآن ولقيمه.. والنهج وفقها، هو نهج التقوى، الذي عن طريقه، دون أي نهج سواه، يتم فهم القرآن والتخلق به.. ولذلك يعتبر حديثنا عن السنة هو مواصلة لحديثنا عن القرآن، وهو أيضاً مواصلة لحديثنا عن المثاني، بمعنى وجود مستويين: مستوى عمل النبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه، وهذا هو مستوى السنة، ومستوى عامة الأمة من المؤمنين وهذا هو مستوى الشريعة.. وهذا يعني أن هنالك اختلاف مقدار بين السنة والشريعة، هو نفسه الاختلاف بين النبوة والرسالة، وكل هذا مما سيتم بيانه.
فالتفريق بين السنة والشريعة أمر ضروري جداً لبعث الاسلام، ولفهم أن هنالك مستوى من الإسلام مدخر لمستقبل البشرية، به يتحقق الإسلام في الأرض على المستوى الجماعي، بأكبر مما تحقق في التاريخ.. ولذلك نحن سنبدأ بتعريف السنة.
فالسنة ديناً ولغة تعني شيئاً واحداً، فهي: النهج والطريقة التي كان عليها عمل النبي في خاصة نفسه، يقول د. صبحي الصالح "السنة – في الأصل- ليست مساوية للحديث، فإنها – تبعاً لمعناها اللغوي- كانت تطلق على الطريقة الدينية التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته المطهرة، لأن معنى السنة لغة الطريقة.. فإذا كان الحديث عاماً يشمل قول النبي وفعله، فالسنة خاصة بأعمال النبي عليه السلام، وفي ضوء هذا التباين بين المفهومين ندرك قول المحدثين أحياناً: "هذا الحديث مخالف للقياس والسنة والإجماع"، أو قولهم: "أمام في الحديث، وامام في السنة، وامام فيهما معاً" وأغرب من هذا كله ان أحد المفهومين يدعم بالآخر، كأنهما متغايران من كل وجه، حتى صح أن يذكر ابن النديم كتاباً بعنوان: "كتاب السنن بشواهد الحديث".
وحين عبر الإسلام عن الطريقة بالسنة لم يفاجئ العرب، فلقد عرفوها بهذا المعنى، كما عرفوا نقيضها وهي البدعة وكان في وسعهم أن يفهموا منها هذا المعنى حتى عند إضافتها إلى إسم الجلالة في مثل قوله تعالى: "سنة الله في الذين خلو من قبل".
أما الذين سمعوا لفظها من النبي صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: "عليكم بسنتي" فما كان لهم حينئذ أن يترددوا في إنصرافها إلى أسلوبه عليه السلام وطريقته في حياته الخاصة والعامة" ص6. ورغم هذا الوضوح، إلا ان معظم فقهاء المسلمين وعامتهم يعرفون السنة بأنها: عمل النبي وقوله واقراره، وحتى د. صبحي الصالح الذي أوردنا منه النص السابق يقول في موضع آخر: "إذا تناسينا موردي التسميتين كان الحديث والسنة شيئاً واحداً، فليقل اكثر المحدثين: أنهما مترادفان.. ".. وهذا التخليط، والتهاون في تحديد الأمور، أضر بقضية بعث الاسلام أشد الضرر.. فالإسلام لا يمكن أن يبعث إلا ببعث السنة، وليس ببعث الشريعة، وهذا هو معنى قول المعصوم: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبي للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله!؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد إندثارها!!".. وهذا التخليط هو طرف من إندثار السنة.. فهو قد قال "سنتي" ولم يقل "شريعتي"، فالإسلام لا يبعث ببعث الشريعة، وانما يبعث ببعث السنة، وبداية البعث هو تصحيح الفهم، وتمييز السنة عن غيرها، حتى يقوم العمل في البعث على واضحة.
وحتى نرد الأمور إلى أصولها نقول أن السنة في الحقيقة واحدة، هي سنة الله، وهي الإسلام.. فسنة الله في خلقه أنهم جميعاً مسلمون له، في الحقيقة يقول الله تعالى: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون) فسنة الله في خلقه إسلام خلقه له وهذا هو الذي أسميناه الإسلام العام .. (وإليه يرجعون) يرجعون عن طريق الإسلام الخاص، إسلام البشر المكلفين وهنا تجيء سنة النبي فهي تعني إسلامه له والذي تدل عليه سيرته وطريقته في حياته كلها (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) .. فحياته كلها لله وبذلك هو أول المسلمين .. فالسنة هي حالة قلبه من الله ، هي توحيده لله، وعمله كله يدل على هذه الحالة، وقوله الذي يدل على عمله وعلى حالة قلبه يلحق بالسنة.. أما قوله لغيره فهو شريعة.. أما إقراره فكله شريعة.
الشريعة شريعتان:
وعلي ما تقدم يمكن القول بان الشريعة شريعتان .. شريعة في مستوى النبي الكريم ، كلف بها وحده، ولم تكلف بها امة المؤمنين .. وشريعة في مستوى الامة، و عن هذين الأمرين يجئ قول المعصوم، مثلا (أدبني ربي فأحسن تاديبي ، ثم قال: خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين) فصدر هذا الحديث نبوة، وعجزه رسالة .. والفرق بين النبوة والرسالة كالفرق بين النبي والرجل من سائر أمته .. وقد قال المعصوم (نحن معاشر الانبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم) ..
فشريعة الرسالة، تنزل من شريعة النبوة لتخاطب الناس على قدر عقولهم، وتكلفهم بالقدر الذي يستطيعون التزامه، من غير مشقة ولا عنت، ولتحل مشاكلهم التي تواجههم في معاشهم، وفي معادهم، في إطار واقعهم عندما بعث فيهم النبي، وأنزل القران في القرن السابع الميلادي.. وكلا الشريعتين تجد سندها من النص في القرآن وفي الحديث، وهذا وجه من وجوه المثاني التي تحدثنا عنها .
وهنالك تداخل بين شريعة النبوة، وشريعة الرسالة.. وهنالك نقطة في هذا التداخل يقف عندها تكليف الأمة ويستمر تكليف النبي كنبي ،وللتدليل على ذلك نسوق الامثلة التالية:
1. الصلاة المكتوبة هي حظ مشترك بين الشريعة والسنة .. والتكليف بها يتوجه للأمة، كما يتوجه للنبي، الا ان تكليف النبي يزيد علي الصلوات الخمس ، بصلاة الليل، فإنها في حقه فرض، في حين أنها في حق الامة مجرد ندب .. قال تعالى في حق النبي (يا ايها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه او انقص منه قليلا * أو زد عليه .. ورتل القران ترتيلا) فصلاة الليل في حق النبي فرض لم يتاخر عن أدائه لا في سفر، ولا في حضر .. . لا في الصحة ، ولا في المرض .. . وكانت إذا فاتته يقضيها .. وهي في حق الامة، على الندب، ومن باب التأسي بالنبي .
2. كذلك الحال بالنسبة للصيام .. فإن الصيام المكتوب في شهر رمضان يتوجه التكليف به الي الأمة، كما يتوجه الى النبي .. ولكن تكليف النبي يزيد عن هذا الصيام بصيام المواصلة في التطوع، وهو ما عرف بالصيام (الصمدي) .. يصوم ثلاثة ايام، وليلتين في اتصال لا يتخلله إفطار .. ولما اراد بعض الاصحاب ان يتأسى به في ذلك نهاهم .. فقالوا: إنا نراك تواصل، يا رسول الله!! فقال: إني لست كاحدكم ، فاني ابيت عند ربي، يطعمني، ويسقيني ..
3. اما زكاة المال فالفرق فيها أكثر وضوحا، فالخطاب يزكاة المقادير يتوجه الى الامة ولا يتوجه الى النبي .. فزكاة النبي تتعدى التكليف العادي الذي كلفت به الامة علي قدر طاقتها، الي تكليفه هو على قدر طاقته .. فآية الامة من كتاب الله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم، وتزكيهم بها، وصل عليهم .. إن صلاتك سكن لهم .. والله سميع عليم) وآية النبي من كتاب الله: (ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو!!) .. و (العفو) فسره النبي قولا، وعملا بأنه ما زاد عن الحاجة الحاضرة .. فقد كان ينفق كل ما زاد عن حاجته الحاضرة، ولا يدخر رزق اليوم الى الغد ، ولو إدخره لم يكن قد تزكي .. فالزكاة ذات المقادير ليست هي الركن التعبدي المذكور في حديث أركان الاسلام، وإنما الركن التعبدي هو زكاة النبي هذه، وقد جعلت الزكاة ذات المقادير ركنا تعبديا في حق الامة لأنها لا تطيق أفضل منها، وهذا من باب قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) ومن باب قول النبي: (نحن معاشر الانبياء أمرنا أن نخاطب الناس علي قدر عقولهم) .. فالزكاة ذات المقادير هي شريعة الرسالة متنزلة من شريعة النبوة.
وهذة الامثلة التي سقناها، توضح بصورة جلية ان السنة غير الشريعة.. وأنه في البشارة ببعث الاسلام الواردة في حديث الغرباء باحياء السنة (يحيون سنتي بعد اندثارها)، لا يمكن أن تنصرف للشريعة بدل السنة.. فهذا التصحيح في امر التفريق بين الشريعة والسنة ضروري جدا، ولا معدى عنه لبعث الدين.. فاذا كانت السنة أكبر من الشريعة، وأكمل منها في تحقيق التوحيد وتحقيق كرامة الانسان، والاسلام لا يبعث الا ببعثها، يصبح الأمر واضحا في أن البعث الجديد المنتظر هو اكمل من البعث الأول، وأكبر منه بمقاييس الدين، وبمقاييس كرامة الانسان، ولذلك يصح فيه قولنا بأنه العصر الذهبي للاسلام، وهذا ما سيتضح بصورة اكبر من بقية متن الكتاب.