إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
حول مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي
(علماء) بزعمهم!!
د. عمر القراي
حول مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي
(علماء) بزعمهم!!
المأزق والمخرج:
ان المأزق الذي وقع فيه (العلماء) ، الذين شاركوا في هذا المؤتمر، مأزق تاريخي ، لا يمكن الخروج منه ، الا بقفزة كبيرة ، تتجاوز كل الموروث السلفي الفقهي ، الى رحاب أوسع ، من الدين .. فالفقهاء الذي درجوا على ترديد عبارة (الدين نقل وليس عقل) ، انما يعيشون بفكرهم ، في مرحلة تاريخية ماضية ، مع انهم يعيشون باجسادهم ، وكافة متطلبات حياتهم ، في المرحلة التاريخية الحاضرة . والفهم الذي تتلمذوا عليه ، يعتبر الشريعة هي الإسلام ، ولا يقبل ان يكون هناك فهم في الإسلام غيرها ، ويعتبر نموذجه الذي يتطلع الى تطبيقه ، ما طبقه الاصحاب رضوان الله عليهم .. ولكن هذا المستوى ، الذي لا يعرفون غيره ، قام على قتال المسيحيين ، واهانتهم .. ومن امثلته الواضحة ، ماورد في معاهدة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، مع نصارى من اهل الشام ، فلقد اضطرهم ان يكتبوا على انفسهم (انكم لما قدمتم علينا سالناكم الامان لانفسنا وذرارينا واموالنا واهل ملتنا وشرطنا لكم على انفسنا ان لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها .....ولا نمنع احد من ذوي قرابتنا من الدخول في الإسلام ان أرادوه وان نوقر المسلمين وان نقوم لهم من مجالسنا ان ارادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شئ من ملابسهم ...ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وان نجز مقاديم رؤوسنا... وان لا نظهرالصليب على كنائسنا وان لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شئ من طرق المسلمين ...) (تفسير ابن كثير –الجزء الثاني ص 332-333) ..
إن (علماء) المؤتمر، يودون في دخيلتهم، ان يفعلوا ما فعل عمر رضي الله عنه .. ولكن واقع الحال ، فرض عليهم في المؤتمر، ان يتبنوا رؤية مغايرة تماماً ، فاعلنوا في ما خرجوا به من توصيات انهم مع التعايش القائم على التسامح والاخاء بين المسيحيين والمسلمين!! فهم اذاً يظهرون أمرأً ويبطنون غيره ، ويخفون ما علموا من الكتاب ، حتى اشبه حالهم حال المفارقين من أهل الكتاب ، الذين قال تعالى عنهم: (ان الذين يكتمون ما انزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً اولئك ما يأكلون في بطونهم الا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب عظيم) ..
ولولا قلة الفهم الديني ، وحظوظ النفوس ، والحرص على المناصب ، والالقاب ، لأدرك هؤلاء (العلماء) بزعمهم ، بان المخرج قد جاءهم في فكر الاستاذ محمود محمد طه ، حيث أوضح بان مستوى الشريعة ، الذي من ضمنه قتال أهل الكتاب ، وعدم المسامحة معهم ، انما هو مستوى مرحلي ، قام على فروع القرآن ، وناسب حاجة وطاقة المجتمع البشري ، في القرن السابع الميلادي ، والمجتمعات التي تلته مما هي مثله .. وان المستوى الذي قرر ان اله الاديان واحد ، ودعا للتعايش السلمي بينها ، واحترام معتقداتها ، مثل قوله تعالى (ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن الا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي انزل الينا وانزل اليكم و إلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) ، انما هو أصل ديننا ، وقد قام في جملته على القرآن المكي ، الذي كانت احكامه ، أكبر من طاقة وحاجة مجتمع القرن السابع ، فنسخت بفروع القرآن ، ولم يقم عليها التطبيق .. ان فكرة تطوير التشريع الإسلامي - التي فصلها الاستاذ محمود في اكثر من ثلاثين كتابا - تقوم على الانتقال من فروع القرآن الى أصوله .. واقامة الدولة الانسانية ، التي تحترم جميع الأديان ، وتقدر معتنقيها .. وانما باقامتها ، يتجاوز المسلمون مستوى الشريعة ، ببعث اصول القرآن ، التي كانت في الماضي منسوخة بسبب حكم الوقت ، ويكون المسلمون ، قد عاشوا احسن ما انزله ربهم .. قال تعالى (واتبعوا احسن ما انزل اليكم من ربكم من قبل ان يأتيكم العذاب بغتة وانتم لا تشعرون) .. هذا هو المخرج الوحيد ، الذي اذا صرف (العلماء) الناس عنه ، ردحاً من الزمان ، حسداً من عند أنفسهم، فسيظلوا في التيه ، المكان الذي رحلوا منه ، يعودون اليه .. يقول الشاعر العارف:
وعن مذهبي لما استحبوا العمى على الهدى حسداً من عند انفسهم ضلوا
فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا
وبدلاً من خداع اخواننا المسيحيين ، كان الاجدر ب(العلماء) ، ان يعتذروا للشعب السوداني في شماله وجنوبه ويطلبوا منه الغفران ، عما سببته فتاويهم وتحريضهم على القتال ، بدعوى الجهاد ، من ازهاق للارواح ، وتشريد للبسطاء ، واهلاك للحرث والضرع .. أيعجز (العلماء) ، بعد ان ادعوا التسامح والاخاء ، ان يكونوا مثل الاستاذين باقان أموم ، و الحاج وراق الذين اعتذرا للشعب السوداني عن ما ارتكب من فظائع في الحرب من الجانبين؟!
إن ارادة الله التي فرضت السلام ، على المستوى السياسي ، هي التي ستزرعه في القلوب والعقول ، في المآل .. وحينذاك يردد الناس ، كل الناس ، بلسان الحال ، ولسان المقال ، قول الكبير المتعال (سلام هي حتى مطلع الفجر) وقوله (المجد لله في الاعالي وبالناس المسرة وعلى الارض السلام) .