إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (١٠)

خالد الحاج عبد المحمود


الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته


القرآن بين التفسير والتأويل:


يقول الأستاذ محمود: "القرآن لا يزال بكراً، لم يفض الأوائل منه غير ختم الغلاف".. وختم الغلاف هذا هو ظاهر القرآن كما تعطيه اللغة العربية في التفسير، وهو المدخل على حضرة القرآن، وحضرة القرآن تكاد تكون كلها وراءه.. وحتى تفسير ظاهر القرآن، لا يمكن أن يتم بمجرد فهم اللغة وحدها، ولابد فيه من تعاون اللغة مع التوحيد.. واللغة إنما تأخذ دلالاتها من التجربة في الحياة، والتجربة في العبادة بالنسبة للقرآن.. فاللغة مصطلحات ليست لها دلالة تنبع من طبيعتها، وإنما دلالتها مستمدة من استخدامات المجتمع الذي يستخدمها لها حسب تجارب هذا المجتمع، وتجارب أفراده، في الحياة، وفي استخدام اللغة.. واللغة - أي لغة - لا تنفصل عن المتكلم والمتلقي للكلام، والموضوع الذي يتم نقله عن طريق اللغة.. والمتكلم في القرآن هو الله، والمتلقي هو الإنسان، والموضوع الأساسي في جملته هو معرفة الله.. فالأطراف الثلاثة مرتبطة بقضية التوحيد.. فمجرد أن الكلام منسوب إلى الله، أصبحت كلمة "كلام" لا يمكن أن تكون بنفس الدلالة اللغوية التي نستخدمها فيه، عندما يكون الكلام منسوبا للإنسان..فكلام الله تعالى في حقيقته لا يكون بأصوات من الحناجر، وهو تعالى لا يتحدث بجارحة، كما سبق لنا أن ذكرنا، وهذا لا يستفاد من مجرد كلمة (كلام) في إطار دلالتها اللغوية، وإنما يستفاد من التوحيد، الذي يعطي بداهة أن الله لا يتكلم بجارحة، وليست له في ذاته لغة مثل لغة البشر، ولذلك قلنا أن القرآن في حقيقته ليست له لغة، وإنما صب في قوالب اللغة العربية، لنفهم نحن الذين نفهم عن طريق اللغة.. وهكذا، في كل ما يتعلق بالله، والكلام المنسوب إليه، لابد من أن تتعاون اللغة مع التوحيد.. فإذا حصرنا أنفسنا في إطار فهم القرآن وتفسيره، نجد مثلاً قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) نجد أنه لغة عبارة (لتبين للناس ما نزل إليهم) يمكن أن ترجع للذكر، فيصبح المعنى، وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس الذكر، وعلى هذا الفهم يكون النبي مأمور ببيان القرآن كله، ولكن هذا يمتنع توحيداً!! فالنبي هو نفسه لا يملك أن يفهم القرآن كله، حتى يبينه كله- وهذا ما سنبينه بعد قليل- كما يمكن أن يكون معنى (لتبين للناس ما نزل إليهم)، يعني ما نزل إلى مستواهم من الذكر، وهذا يستقيم مع اللغة، ويستقيم مع التوحيد.. فالمعنيان يستقيمان مع اللغة ولكن الأول منهما لا يستقيم مع التوحيد، وهذا يجعله معنى غير محتمل، ويجعل المعنى الثاني هو المعنى المراد، بصورة لا لبس فيها.. وكون النبي صلى الله عليه وسلم، لا يحيط بعلم القرآن كله، يجئ من أن القرآن هو علم الله المطلق، وهذا هو معنى أن القرآن كلام الله، فصفة الكلام هي صفة قائمة بذات الله، هي عند التناهي ليست غير الذات.. فلا يمكن للمحدود أن يحيط بالمطلق.. يقول المعصوم: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً، ولعلمتم العلم الذي لا جهل بعده، وما علم ذلك أحد!! قالوا: ولا أنت يا رسول الله!؟ قال: ولا أنا!! قالوا: ما كنا نظن أن الأنبياء تقصر عن شيء!! قال: إن الله أخطر وأجل من أن يحيط بما عنده أحد..).. ويقول تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله.. والراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا.. وما يذكر إلا أولو الألباب).. (وما يعلم تأويله إلا الله) تعني لا يحيط بعلم القرآن إلا الله في ذاته.. هذا من جانب، ومن الجانب الآخر فإن النبي لا يمكن أن يبلغ كل ما علم هو عن ربه، وهو القائل: (لي ساعة مع ربي لا يسعني فيها نبي مرسل ولا ملك مقرب).. وهو القائل: (ليلة عرج بي انتسخ بصري في بصيرتي فرأيت ربي... فوضع كفه على كتفي فأحسست بردها بين ثديي، فأورثني علوم الأولين والآخرين.. وعلمني علوماً شتى فعلماً أمرت بتبليغه إلى الخاص والعام من أمتي، وعلماً خيرت فيه، أبلغه من أشاء، وعلماً أمرني بكتمانه إذ علم أنه لا يقدر عليه أحد غيري) وفي رواية أخرى: (أوتيت ثلاثة علوم، فعلماً أمرت بتبليغه، وعلماً خيرت في تبليغه، وعلماً نهيت عن تبليغه).. فهنالك علم نهي عن تبليغه، لأنه لا يطيقه غيره.. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم).
فبيان القرآن ليس على النبي، وإنما هو على الله، يقول تعالى (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل ربي زدني علماً) طه (114) ويقول: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه)... القيامة (16-19) (ثم إن علينا بيانه) تعني أن بيانه على الله، وكلمة "ثم" تفيد التراخي في الزمن، فبيان القرآن يتم في الزمن، فكلما علمنا من آيات الآفاق، ومن آيات النفوس، علمنا عن الله من القرآن، علماً جديداً، وهذا من غير انتهاء، في السرمد، وهذا هو معنى قوله تعالى: (كل يوم هو في شأن).. فشأنه هو إبداء ذاته لخلقه ليعرفوه، ويومه هنا هو الوحدة الزمانية في التجلي، وهي وحدة تدق حتى لتخرج من الزمن.. ففي كل لحظة الله تعالى يبدي ذاته لخلقه ليعرفوه، وهذا أمر إلى غير انتهاء، وجميعه من القرآن.. نخلص من كل ذلك إلى أن القرآن حتى في ابسط مستوياته، مستوى التفسير، في حدود ما يعطيه ظاهر اللغة، لا يكون إلا عن طريق التعاون بين اللغة والتوحيد، فالتوحيد هو الذي يفيض المعاني على اللغة، ففهم القرآن، وتفسيره في المستويات المختلفة يقوم على: اللغة، والمعرفة النظرية بعلوم القرآن، والتوحيد الذي يقوم على التجربة الفردية في العبادة والمعاملة "التقوى"، وثقافة العصر.. وتخلف أي عنصر من هذه العناصر، يؤثر على فهم صاحبه للقرآن.. وهذه العناصر ليست متساوية في قيمتها، فالتوحيد هو الأكثر أهمية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (واتقوا الله، ويعلمكم الله، والله بكل شيء عليم).. فالتقوى هي إعداد لأواني المعرفة- العقل والقلب- لتلقي المعرفة، عن طريق تنظيف هذه الأواني، وتوسيعها، وشحذها، وبالتالي زيادة طاقاتها لتلقي المعرفة، وزيادة سرعتها في التلقي، يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً...) "فرقاناً" يعني نوراً في عقولكم، تميزون به، وتفرقون، بين قيم الأشياء.. ويقول تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)، ولا سبل إليه تعالى، إلا سبل المعرفة.. ومما يؤكد أولوية دور التوحيد في فهم القرآن، قوله تعالى في حق المشركين: (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقرا).. فمشركو العرب هم أهل اللغة العربية، ولو كان القرآن يفهم عن طريق اللغة وحدها، لكانوا هم أولى الناس بفهمه، ولكن شركهم جعل بينهم وبين القرآن حجباً، لا يفهمونه إلا إذا رفعوها.
وأهمية ثقافة العصر لفهم القرآن تجئ من أهمية آيات الآفاق، وآيات النفوس، فنحن إنما نعرف الله بخلقه، فينا، وفي الأكوان، وقد جاء القرآن، بين دفتي المصحف معبراً عن هذا الخلق، فكلما عرفنا في الآفاق وفي النفوس، واتجهنا إلى الله بتوحيده، كلما علمنا عنه تعالى، من القرآن.. ولما كانت المعرفة بطبيعتها تراكمية، خصوصاً بالنسبة للآفاق، فإن حظ اللاحقين منها، في الغالب، أوفى بكثير من حظ السابقين، ولذلك فرصهم في فهم القرآن أكبر.. والفرق بين معرفة الأوائل لآيات الآفاق، ومعرفة المعاصرين لها، هو كالفرق بين استخدام الحواس المجردة في معرفة الأكوان، عظيمها ودقيقها، واستخدام الوسائل العلمية الحديثة.. فمن يستخدم العين، مثلا، في معرفة الأكوان، عظيمها ودقيقها، معرفته لا تساوي شيئا بالنسبة لمن يستعمل الوسائل العلمية الحديثة، كالمراصد الفلكية الحديثة، والمجاهر الحديثة، وعلى ذلك قس كل معرفة متعلقة بالآفاق.
"وللقرآن تفسير، وله تأويل.. وبين التفسير والتأويل اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع.. فالتفسير قاعدة هرم المعاني، والتأويل قمته.. وتتفاوت المعاني بين القاعدة والقمة، من صور الكثافة إلى صور اللطافة.. فلكأن التأويل هو الطرف اللطيف من التفسير.
وقمة هرم المعاني عند الله، حيث لا عند"، ولذلك السير في المعرفة، في إطار القرآن سير سرمدي لا انتهاء له.. وهو سير يقع جله في منطقة التأويل، وليس منطقة التفسير.. فالتفسير يتناول القرآن فيما تعطي ظواهر الكلمات العربية.. وهذا حظ مشترك، أو يكاد يكون مشتركاً بين العارفين.. ثم تتفاوت حظوظ العارفين من القرآن في التنزلات، من منزلة صفة الكلام، إلى منزلة صفة الحياة.. والصورة العامة لهذا التفاوت ما حكته الآية: (وفوق كل ذي علم عليم)، إلى أن ينتهي العلم إلى "علام الغيوب"، في معنى الآية: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب، إلا الله) وهذا هو مستوى التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، ويؤمن به الراسخون في العلم (هو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله.. والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند ربنا.. وما يذكر إلا أولو الألباب).. ولقد أخطأ قوم، فظنوا أن التأويل من حيث هو، لا يعرفه إلا الله، وهذا غير الحق لأن معرفة العارفين لا تنقطع إلا عند الذات، فإنه، في حضرة الذات مبلغ العلم الحيرة.. وفي الحيرة خير كثير.. لأن بها يعرف العقل قدر نفسه.. و(من عرف نفسه فقد عرف ربه).. وقد اعتصمت الذات العلية عن أن يعرفها أحد معرفة استقصاء، وإحاطة، لأنها تفردت بالوحدة المطلقة، فليست ذات تشابهها، فتعرفها، ولذلك فقد قيل: "لا يعرف الله إلا الله". وإنما من ههنا، جاء قوله تبارك وتعالى، في الآية التي أوردناها قبل قليل (قل لا يعلم، من في السموات والأرض، الغيب إلا الله، وما يشعرون أيان يبعثون).. فالغيب هنا هو الله، في إطلاق ذاته، فإنه لا يعلمه أهل السموات، ولا أهل الأرض.. أما مستويات التأويل دون هذا المستوى، فهو يتعلق بتنزلات الذات، من صرافتها إلى مراتب الصفات.. وهذه الصفات أعلاها صفة الحياة وأدناها صفة الكلام.. فالله تعالى حي، عالم، مريد، وقادر، وسميع، وبصير ومتكلم.. وهو حي بذاته، وعالم بذاته، وقادر بذاته، ولا يقع منه شيء من هذه الصفات بجارحة، على نحو ما يقع منا نحن.. ومعاني القرآن الذي بين دفتي المصحف هي تعبير عن هذه الصفات، وللقرآن، في كل منزلة من منازل الذات السبع هذه، معنى يختلف اختلاف مقدار عن سابقه.. ونحن في البداية لا نعرف إلا طرفاً مما يعطيه ظاهر اللفظ.. وهذا هو ظاهر القرآن، وهو منطقة الشريعة الظاهرة.. ثم تدق معاني القرآن صعداً، من مستوى ما يحوي اللفظ من معاني، إلى مستوى ما يعطي اللفظ من إشارة.. إلى مستوى ما تعطي الإشارة، إلى مستوى تنقطع فيه العبارة والإشارة.. وهذا هو السر في أن القرآن افتتحت تسعاً وعشرين من سوره بأحرف الهجاء.. وهذا الحروف هي قمة هرم المعاني، في حين تكون الكلمات قاعدة هذا الهرم..
يتضح مما تقدم أن تنزلات الذات هي نفسها تنزلات القرآن، وأن التأويل هو ارتقاء، وصعود في سلم هرم المعاني، وهو ليس مجرد خواطر، وإنما هو واردات عقل تأدب بأدب الشريعة، ثم بأدب الحقيقة.
والتفسير مشمول في التأويل، بمعنى أن كل تأويل يجئ لا يتجافى مع ظاهر النص، وكل ما هناك أن الكلمات تنتقل إلى دقيق المعاني، ولطيفها، بدل غليظها، وكثيفها..
وقضية التأويل كلها هي قضية المعرفة، والمعرفة في جميع صورها، هي معرفة الله في تنزلاته في مراتب القرب من العباد ليعرفوه، حتى إذا انتهى الأمر في العروج إلى الذات انبهمت السبل، وظهر العجز، ووقعت الحيرة، وجاء معنى قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله).
ومن معرفة التأويل تجئ معرفة أصول القرآن، وفروعه، من الآيات المكية، والآيات المدنية، وهذا بالذات هو ما يعنينا هنا ونحن نتحدث عن التأويل.. فجل ما نريد بيانه هنا، هو أن معاني القرآن لا تستنفد، وان الأوائل لم يدركوا منها إلا ما يناسب طاقتهم وحاجتهم، وان هنالك من معاني القرآن ما هو مدخر لمستقبل البشرية، لتحقق به كمالاتها، وتدخل به عهد إنسانيتها، وبه يكون العصر الذهبي للإسلام.. والمعصوم يقول عن القرآن، في حديث يرويه علي بن أبي طالب.. (ألا أنها ستكون فتنة!! فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله!! فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم.. هو الفصل، ليس بالهزل.. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم.. هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه.. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد.. من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعي إليه هدى إلى صراط مستقيم).. فهو لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد لما فيه من قابلية، لإعطاء الجديد من المعاني، في كل حين، حسب استعداد المتلقي، وطاقته العرفانية، المستمدة من حكم الوقت، ومن إعداد أوانيه للتلقي بمقتضى عروجه في معارج التقوى، وهو عروج وضع الإسلام وسائله، وسبله البينة، وجعل حياة محمد صلى الله عليه وسلم هي الطريق، الموطأ الأكناف، والميسر لهذه السبل.. فحياة محمد هي التجسيد الحي للقرآن، والنموذج المصفى للتخلق به، ولذلك هي المفتاح لفهم مغاليق القرآن وهذا سيتضح عند الحديث عن السنة، في إطار حديثنا عن مفاتيح قضيتنا عن العصر الذهبي للإسلام.. وعند الحديث عن المنهاج.