إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (١٠)

خالد الحاج عبد المحمود


الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته


الإسلام إسلامان:


الإسلام، في الحقيقة هو الانقياد، والاستسلام.. ونعني بالحقيقة ما فطرت عليه الأشياء.. ولقد فطرت الأشياء، منقادة لله، مستسلمة له، يقول تبارك وتعالى: (أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات والأرض، طوعاً وكرهاً، واليه يرجعون).. فالإسلام، بهذا المعنى، هو دين الخلائق جميعها، في البداية، وفي النهاية، وفيما بين البداية والنهاية، ولا يستثنى من ذلك الإنسان. فهذا هو دين الإسلام العام، حيث الطاعة مطلقة من جميع الخلائق.. والخلائق غير واعية ولا مدركة لإسلامها هذا، ولذلك لا عبرة به، لأنه إسلام في منطقة الإرادة، وليس إسلاماً في منطقة الرضا.. وقد مدت الرحمة الإلهية، بلطفها، لطليعة الخلائق- الإنسان- أن يتوهم أنه يختلف عن بقية الخلائق، وقد أدخل الله تعالى على الإنسان هذا الوهم بما أدخل عليه من إرادة الحرية.. وهذا الوهم هو مصدر شقاء الإنسان في الحال، وهو مصدر سعادته في المآل، حين يرفع الله تعالى عن الإنسان الوهم، فيسلم لله، عن وعي وإدراك.. وهذا هو دين الإسلام الخاص، وفيه يقول تعالى: (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله، وهو محسن، واتبع ملة إبراهيم حنيفاً، واتخذ الله إبراهيم خليلاً؟).. وسر الآية الكريمة، في عبارة (وهو محسن)، وهذه العبارة، هي أيضاً سر الآية الكريمة الأخرى التي تقول: (ومن يسلم وجهه إلى الله، وهو محسن، فقد استمسك بالعروة الوثقى، وإلى الله عاقبة الأمور).. وعبارة (وهو محسن) هي سر الآيتين، لأن جميع الخلائق مسلمة وجهها لله، ولكنها غير محسنة - غير واعية ولا مدركة - فلا عبرة بإسلامها، لأنها مسلمة في منطقة الإرادة، ولم تبلغ أن تكون مستسلمة في منطقة الرضا، فذلك حظ البشر وحدهم، وهو ما من أجله أرسل الله الرسل.. فالإسلام بهذا المعنى هو دين البشرية، وغرضه مجاراة الوهم البشري، الذي أوحت به إرادة الحرية، حتى يتم الخروج عنه، بالتدرج، بحكمة متثبتة، تكون ثمرتها الإسلام الواعي، والإسلام الذي هو دين البشرية، ظهر بظهور العقل، وظل يواكب نمو العقل في تطوره الطويل، من بداية ساذجة ضعيفة إلى نهاية حكيمة مستحصدة.. وهذا الإسلام، هو الذي تتم به قمة استحصاد العقل البشري، على الأرض، وهذا هو العهد الذهبي للإسلام.. والإسلام الذي هو دين البشرية، في قمته، يسير مصاقباً للإسلام الذي هو دين العناصر، ويطالب بانقياد كانقيادها، مع الوعي وتمام الإدراك لهذا الانقياد.. هذا الإسلام ظهر بظهور الفرد البشري، وتطور إلى أن جاءت أديان الإسلام الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام.. وهذا الإسلام في المستوى الذي جاء به نبينا، محمد عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، يقع في مستويين.
فالإسلام فكر يرتقي السالك فيه على درجات سلم سباعي، أولها الإسلام، وثانيها الإيمان، وثالثها الإحسان، ورابعها علم اليقين، وخامسها علم عين اليقين، وسادسها علم حق اليقين، وسابعها الإسلام من جديد.. ولكنه في هذه الدرجة الأخيرة يختلف عن الدرجة الأولية، اختلاف مقدار.. فهو في الدرجة الأولية انقياد الظاهر فقط، وهو في الدرجة النهائية انقياد الظاهر والباطن معاً.. وهو في الدرجة الأولية قول باللسان، وعمل بالجوارح، ولكنه في الدرجة النهائية، انقياد واستسلام، ورضا بالله في السر والعلانية.. وهو في الدرجة الأولية دون الإيمان، ولكنه في الدرجة النهائية اكبر من الإيمان.. وعن درجة الإيمان يجئ الحديث المعروف، الذي يرويه عمر بن الخطاب، وقد جاء فيه: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان، قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان. ثم انطلق، فلبث ملياً، ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم ، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم!!).. ومن هذا الحديث ظن كثيرون، أن الإيمان أكبر من الإسلام، وهذا غير الحق، فجبريل إنما أتى ليعلم الأمة المؤمنة دينها.. فالإيمان أكبر من الإسلام الأول - إسلام الأعراب - الذي قال عنه تعالى: (قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا.. ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) ولكنه دون الإسلام الأخير، والذي قال عنه تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلون).. فهو هنا أقرهم على الإيمان (يا أيها الذين آمنوا)، ثم دعاهم ليتقوا الله حق تقاته، حتى يصبحوا مسلمين.. فالإسلام، كما هو وارد في القرآن، قد جاء على مرحلتين: مرحلة العقيدة، ومرحلة الحقيقة، أو مرحلة العلم.. فأما مرحلة العقيدة فدرجاتها ثلاث، وهي: الإسلام، والإيمان، والإحسان.. وهذه وردت في حديث جبريل.. أما مرحلة العلم، فدرجاتها ثلاث أيضاً، وهي: علم اليقين، وعلم عين اليقين، وعلم حق اليقين - وكلها واردة في القرآن - ثم تجئ بعد ذلك الدرجة السابعة من درجات سلم الترقي السباعي، وتلك هي درجة الإسلام الأخير، وبها تتم الدائرة، وتجئ النهاية تشبه البداية، ولا تشبهها.. فهي في البداية الإسلام - إسلام الأعراب، الذي هو دون الإيمان- وهي في النهاية الإسلام، الذي هو فوق الإيمان.. فالإسلام نهج معراج إلى الله ذي المعارج، هو نهج معراج إلى مقام العبودية لله، بفضل القرآن.. والعبودية كالربوبية لا تتناهى.. والعبودية المطلقة لله، تقتضي العلم المطلق بالله.. وهذا لا يكون إلا لله عز وجل (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) فالغيب هنا يعني الله. فكأنه قال لا يعلم الله إلا الله.. فالسير في مضمار الإسلام سير سرمدي، لا انتهاء له.. والعبودية لله هي الحرية، من كل ما عداه، ولذلك هي سير في مضمار الحرية الفردية المطلقة.
إذن الإسلام بين دفتي المصحف، مستويين: مستوى الإيمان، وفيه ثلاث درجات، ومستوى الإيقان، وفيه ثلاث درجات.. وقد جاءت درجات الإيقان الثلاث، في قوله تعالى: (كلا لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم، ثم لترونها عين اليقين).. ها هنا، وردت درجة علم اليقين، ودرجة عين اليقين، أما درجة حق اليقين فقد وردت في قوله تعالى (وأنه لحق اليقين، فسبح باسم ربك العظيم).. والإسلام الأخير هو مطلوب الدين الأساسي، الذي ظل يعمل له منذ نشأة الدين.. وهو عندما يجئ وقته، فإن الله تعالى، لا يقبل دونه، وفي ذلك يقول تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً، فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين).. وفي حق سيدنا إبراهيم، جاء قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم!! قال: أسلمت لرب العالمين).