إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
في صحيفة الناشونال جيوغرافيك (National Geographic) في عدد مارس 2005، كان ملف المجلة الرئيسي عن الدماغ، والعقل.. باعتبار أن العقل هو وظيفة الدماغ.. قام بعض الباحثين الغربيين المتخصصين في دراسة الوظيفة العضوية للدماغ بإجراء بعض الدراسات على رهبان بوذيين من التبت، حيث قاموا بدراسة نشاط أدمغة بعض المتبرعين من الرهبان، وبرعاية الدالاي لاما، زعيم التبت..
قامت الدراسة على أساس نتائج معطاة أثبتتها دراسات سابقة لنشاط الدماغ، وهذه النتائج تقرر أن النشاط الملحوظ في الغشاء الأمامي الشمالي للدماغ (Left Pre-Frontal Cortex) يدل على مشاعر أكثر إيجابية (سعيدة) لدى صاحبه.. وعلى العكس، فإن النشاط الملحوظ في الغشاء الأمامي اليميني للدماغ (Right Pre-Frontal Cortex) يدل على مشاعر أكثر سلبية عند صاحبه.. أثارت النتائج التي أجريت على الرهبان شيئا من دهشة المتخصصين، حتى قال أحدهم عن أحد الرهبان الذين خضعوا للتجربة (باعتبار هذه الدراسة، فهذا الراهب، علميا، هو أسعد رجل في العالم!)..
ما أردنا الإشارة به من هذه الدراسة هو أن البوذية عندها منهج معين في الوصول إلى السعادة، وهو منهاج ديني، بالمعنى الأصيل للدين، أي أنه منهاج فكري يصل بنا إلى الأصول القائمة وراء ظواهر الشكول.. ومنهاج البوذية أساسه هو تخليص العقل من قيد الجسد، أو قيد شهوات الجسد، بالمعنى الأدق، ليصبح العقل حرا فعلا، فيصبح مستعدا لتنعكس عليه أسرار المعارف الكونية.. هذا الأساس المنهاجي هو نفس الأساس عند سائر الحركات الصوفية في الأديان، وخصوصا الحركة الصوفية الإسلامية، وهو منهاج مستمد من أصول الدين الإسلامي، في سنة النبي الكريم، حين ذكرنا عاليه ضروبا من عبادته الشديدة والطويلة قبل بعثته، وبعدها، في الصلاة، وقيام الليل، وإكثار الصيام، وقلة الطعام والكلام والمنام..
وهذه الدراسة التي أجراها المتخصصون، لم يجروها على أصحاب منهاج تصوفي آخر غير البوذيين، ولهذا فإن نتيجتها لا تعني أنها متعلقة فقط بالرهبان البوذيين، وإنما هي متعلقة، في الأساس، بنوع المنهاج الذي يسلكه هؤلاء الرهبان في تحرير العقل، وهذا المنهاج في أصله واحد عند بقية المتصوفة في العالم، غير أن تفاصيله تختلف.. وتختلف تفاصيله من ناحية الشرع، أي من ناحية تشريع العبادات والمعاملات.. وبهذه التفاصيل تتفاوت هذه المناهج في قدرتها ونجاعتها..
فالبوذيون مثلا، عندهم شرائع تعبدية معينة مرسومة عندهم في دينهم، من تلاوة الصلوات، والصيام، وغيرها من الرياضات الروحية المعروفة لديهم.. وهذه الشرائع ليس عندها تبرير موضوعي واضح منذ الوهلة الأولى، فتلاوة الصلوت التي يقوم بها الرهبان في المعابد ليس عندها تبرير موضوعي واضح يري الشخص كيف هي مفيدة في عملية تحرير العقل، ولكن هذا العمل التشريعي يأتي بنتائج واضحة، كتلك التي أثبتتها الدراسة المذكورة أعلاه.. ونفس الأمر يمكن أن يقال عن صلاة المسلمين، في تقليد النبي الكريم، وصيامهم، وغير ذلك من التشاريع التعبدية التي أتى بها الإسلام..
فدليل الشرع لا يوافق دوما دليل العقل، ولكن غايته تكون في الأساس هي تحرير العقل.. ولأن العقل البشري، عند المناهج الصوفية، قاصر جدا في بداياته، بسبب تقيده برغبات الجسد، فإنه يحتاج إلى منهاج يحرره من رغبات الجسد هذه قبل أن يصح الإعتماد عليه في تحصيل المعارف الكونية.. مثلا، لا يعرف المسلم العادي اليوم الحكمة في كون صلاة العصر أربع ركعات، وصلاة المغرب ثلاث، وصلاة الفجر اثنان، ولا يعرف كذلك الحكمة من الحركات المعينة التي يقوم بها في كل ركعة، كما أنه لا يعرف الحكمة من الوضوء، مثلما لا يعرف الراهب البوذي المبتدئ الحكمة من وراء شرائعة التعبدية المفروضة عليه.. ورغم ذلك، فإن متابعة هذه الشرائع التعبدية، بإيمان والتزام وتفكر مستمر فيها، هو منهاج في حد ذاته، يخرج العقل من الإنقياد للعادة، ويدخله في مجال إعمال الفكر في ما يأتي وما يدع..
فالعبادة، إذا، في الأديان، ليست مجرد شعائر تؤدى دليلا على اعتناق الدين، ولكن غايتها أسمى من ذلك بكثير، ومن المؤسف أن معظم أصحاب الأديان اليوم، والمسلمين منهم بكل تأكيد، لا يعون هذه المسألة، فتجري ألسنتهم وجوارحهم بما يمليه عليهم دينهم من عبادة، دون أن يتفكروا فيها، وتصبح عندهم مجرد عادة.. وآفة كل عبادة أن تصبح عادة، لأن العبادة هي في الأساس منهاج ينتقل به الفرد من حياة العادة -حياة الحيوان- إلى حياة الفكر –حياة الإنسان- فالفكر، في واقعنا اليوم، أجنبي عن الإنسان.. معظمنا اليوم يعيش بالعادة، وليس بالفكر.. والمنهاج الديني هو المنهاج الذي يدخل الفكر في حياتنا، بحيث نتفكر في كل حركاتنا وسكناتنا، لترتاض عقولنا، وتقوى، وتستحصد، وتكون بعد ذلك جديرة بتحصيل المعرفة الكونية.. لهذا كان النبي يعلمنا حتى عندما ندخل الخلاء، ندخل بأي قدم، وعندما نخرج، نخرج بأي قدم، وغير ذلك من التفاصيل الدقيقة في حياة الشخص.. والغرض من هذه الأمور ليس هو فعلها في حد ذاته، وإنما هو إعمال الفكر بشكل دائم، بحيث يكون فكرنا متصلا، دون فجوات، أو سهوات.. هذه القيمة، بطبيعة الحال، غائبة اليوم عن الأغلبية الساحقة من المسلمين.. ولعل أفضل المصادر التي تبين قيمة العبادة اليوم، كمنهاج فكري، هي كتب الأستاذ محمود محمد طه، وبعض كتب تلاميذه، ونحن نرشح كتاب "تعلموا كيف تصلون" و"رسالة الصلاة" و"طريق محمد".. وكتاب "الصوم ضياء والصلاة نور" للأخوان الجمهوريين.. وكل هذه الكتب موجودة في موقع الفكرة الجمهورية على شبكة الإنترنت [3]..
وبناءا على ما ذكرنا هنا، فإن حديث القمني عن التشاريع التعبدية عند المسلمين، من صلاة ووضوء وصوم، وعن أنها تشبه إلى حد بعيد تلك الصور التعبدية عند الديانة الحنيفية، حديث القمني في هذا المضمار لا عبرة به.. فماذا لو كان فعلا هذا صحيحا؟ إنه ببساطة لن يزيد إلا توكيدا على حصافة المنهاج التعبدي الذي طرحه النبي الكريم، وعلى حصافة المنهاج الذي اتبعه هو – منهاج إبراهيم- قبل أن يخرج بمنهاجه التعبدي الخاص في رسالته الجديدة.. فالمعروف عن النبي أنه كان يصلي قبل ليلة الإسراء والمعراج، وهي الليلة الوارد في التاريخ أنها الليلة التي فرضت فيها الصلوات عليه وعلى أمته.. والمعلومتان هاتين في واقع الأمر لا تناقضان بعضهما إطلاقا، فالنبي كان يصلي قبل المعراج، والذي حدث أن صلاته اتخذت شكلها المعروف اليوم بعد ليلة المعراج، حيث تم تصحيحها له لتفي بقامته، ووضعها في قالب أصيل غير مسبوق لأحد قبله، وليس هو نفس القالب الذي كان به يقلد عبادة إبراهيم الخليل، ولا مانع من أن تكون هناك تشابهات كثيرة بين القالبين، ولكنها ليست نفس الصلاة تماما بأي حال من الأحوال، أو حتى الوضوء، أو التيمم.. كما أن الوضوء والصلاة هما في الأساس ليستا صيغتان تعبديتان اختص بهما الإسلام والحنيفية فقط، بل الحق أن الكثير من الأديان من قبل الإسلام، وربما من قبل الحنيفية، عندها صور، يومية أو موسمية، من الوضوء والصلاة، والصوم، والحج أيضا..
ومن ما يرد عن عائشة أيضا أن الصلوات الخمس كانت قبل الهجرة قد فرضت "ركعتين ركعتين" بمكة، فلما قدم النبي إلى المدينة زاد مع كل ركعتين ركعتين، "إلا المغرب فإنها وتر النهار، وصلاة الفجر لطول قراءتها، وكان إذا سافر صلى صلاة الأولى (أي التي فرضت بمكة)"[4].. وهذا الأمر أيضا، إن صح، فليس فيه ما يثير الشك أو الجزع.. بل هو مما يجب أن يثير التفكر في أصل المنهاج التعبدي، والغاية من ورائه..
(6)
ونفس ما يقال عن حديث القمني عن الصلاة والوضوء والصوم، يقال أيضا عن حديثه عن الكعبة المشرفة بمكة.. فهو أيضا حديث لا عبرة به.. فالكعبة لم تكتسب تشريفها في الإسلام أساسا لأنها كانت الكعبة الوحيدة في أرض العرب، ولم يقدس الحجر الأسود لهذا أيضا، أو لغيره من الأسباب التي ذكرها القمني في فصل (الكعبات) في كتابه.. لقد قام تقديس كعبة مكة، في الإسلام، وتمييزها عن باقي الكعبات في أرض العرب بدليل الشرع، لا بدليل العقل.. ولكي نبين هذا الأمر بصورة أفضل يحسن بنا أن نتحدث عن مواقف للنبي الكريم، ولبعض كبار الصحابة، تجاه الكعبة، حتى تظهر الصورة جلية..
يرد حديث مشهور للنبي، من صحيح البخاري، أن النبي قال لعائشة: "ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم"، قالت: فقلت يا رسول الله أفلا تردها على قواعد إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت".. فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم".. انتهى..
هذا الحديث يخبرنا أمرا واضحا، هو أن أهل مكة، عندما أعادوا بناء الكعبة، قبل بعثة النبي، لم يقيموها على نفس قواعد إبراهيم المعروفة عندهم، وإنما قصروا عنها، ويروي الإمام مالك أن "قصور النفقة" كان هو السبب وراء عدم تتميمهم للبناء ليحتوى قواعد إبراهيم.. وقد شارك النبي في هذا البناء المذكور، قبل بعثته، حيث كان هو الذي جاء بالإقتراح الشهير في وضع الحجر الأسود حين كادت تقتتل القبائل على شرف وضعه.. هذا الحديث يخبرنا أمرا واضحا، وهو أن الكعبة، حقا، لم تقدس كما هي اليوم بسبب من أنها فعلا بيت الله الذي بناه إبراهيم بحذافيره "حسيا"، وإلا لما كان يجوز عند النبي التهاون في إرجاعها لمكانها الصحيح عند قواعد إبراهيم، ولو اضطره ذلك إلى هدمها وإعادة بنائها.. ولكن النبي آثر تركها كما هي لقوله لعائشة "لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت"، فهو آثر أن لا يستثير مشاعرهم الدينية، التي ما زال فيها بقايا جاهلية، بهدم الكعبة أو جزء منها.. وفي قول عبد الله بن عمر المذكور أعلاه مع الحديث أيضا عبرة، فهو يقول أن النبي لو كان مأمورا بالشرع بأن يرد الكعبة إلى قواعد إبراهيم لفعل، ولكن الشرع لم يلزمه بذلك، وهو كان من الممكن أن لا يذكر هذا الأمر إطلاقا، ولكنه ذكره وأظهر أنه على علم به، ورغم ذلك لم يغير فيه شيئا، سوى أن المعروف أن الطواف بالكعبة اليوم يجب أن يحتوي الطواف بقواعد إبراهيم أيضا، وكأن القواعد ما زالت قائمة معنويا، ولكنها غير قائمة حسيا في الكعبة.. يقول الإمام مالك في كتابه (الموطأ) عن هذا الأمر: "والنبي صلى الله عليه وسلم كان يريد استئلافهم ويروم تثبيتهم على أمر الإسلام والدين يخاف أن تنفر قلوبهم بتخريب الكعبة ورأى أن يترك ذلك وأمر الناس باستيعاب البيت بالطواف أقرب إلى سلامة أحوال الناس وإصلاح أديانهم مع أن استيعابه بالبنيان لم يكن من الفروض ولا من أركان الشريعة التي لا تقوم إلا به , وإنما يجب استيعابه بالطواف خاصة وهذا يمكن مع بقائه على حاله".. وقد كان الإمام مالك على كبير حق في هذا التعليل..
هذه الواقعة فيها جانب كبير من تبيين أساس تقديس الكعبة، وتشريفها في الدين الإسلامي، وكذلك الحجر الأسود.. فالبيت والحجر لم يقدسا في ذاتهما، لأنهما فعلا مكان سكن الله، وإنما قدسا بدليل الشرع، وأطلق على البيت "بيت الله" كما كان يسمى في الجاهلية، بدليل الشرع، ولولا دليل الشرع لما كانت لهذا البيت أي قداسة، ولما كان يعدو أن يكون طينا وحجرا، كغيره من الطين والحجر.. ومن الوارد في التاريخ أن عمر بن الخطاب كان يخاطب الحجر الأسود، في مرة كان يطوف بها بالبيت بعد وفاة النبي، وقال له ما معناه "والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع.. ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك لما فعلت".. عمر بن الخطاب، في قوله هذا، وضع الصورة الواضحة لسبب تقديس البيت والحجر، وهو لأن دليل الشرع يقول بذلك، فلو كان تقديسهما لذاتهما لما قال عمر ما قال للحجر الأسود من أنه حجر لا يضر ولا ينفع.. ولعل هذا أيضا يشير إلى أهمية أن يعي المسلمين اليوم أن التقديس للحرم المكي ليس مقصودا في ذاته، وإنما المقصود منه اتباع دليل الشرع، حيث أن دليل الشرع هو الذي يأخذ بيد المسلم إلى تقوية دليل العقل.. فالأمر البديهي أن الله أوسع بكثير من أن تحيط به أربعة جدران وسقف، وهو القائل في الحديث القدسي "ما وسعني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن"..
يقول الشيخ الصوفي الشهير، محي الدين ابن عربي، في أبيات له:
يطوف بقلبي ساعة بعد ساعة.. لوجد وتبريح، ويلثم أركاني
كما طاف خير الرسل بالكعبة التي.. يقول دليل العقل فيها بنقصان
وقبل أحجارا بها، وهو ناطق.. وأين مقام البيت من قدر إنسان
يريد ابن عربي هنا أن يقول أن دليل العقل يقول بنقصان هذه الأحجار التي طاف بها الرسول، وهو خير البرية.. والمغزى هنا أن دليل العقل ليس هو الأولى بالإتباع دوما في المنهاج الديني، وإنما يكون دليل الشرع هو الأولى بالإتباع، لأن دليل الشرع هو الوسيلة التي بها يقوى العقل، ويستحصد، ويصبح بعدها دليله ذي قيمة، إذ أن العقل يحتاج للترويض والتحرير من مزالق الهوى قبل أن يصبح حكما منصفا.. هذا هو السبب الوحيد لطواف الرسول حول هذه الكعبة، وهو أشرف منها بما لا يقاس (وأين مقام البيت من قدر إنسان؟)..
إن موضوع الدين، والتشريع الديني في العبادات، هو أمر دقيق غاية الدقة، وفيه حكم بالغة، يقصر عنها الكثير ممن يظنون أن العقل البشري الغير مروض قادر على سبر أغوارها ونقدها.. يقول علي بن أبي طالب: "ما شاد الدين أحد إلا غلبه".. وهذه المشادة ليست صفة من صفات الرافضين للمنهاج الديني فقط، بل هي أيضا صفة من صفات الزاعمين أنهم حماة ذلك المنهاج أيضا، وهم أبعد الناس عنه.. ولعل حديثنا هذا في هذه النقطة، رغم طوله، ليس كافيا لتوضيح دقة هذا الأمر.. وعزائنا الوحيد في أنا قد أشرنا للقراء إلى الكتابات المسهبة التي تتناول الموضوع بدقة أكثر..
(7)
انتهى الدكتور القمني إلى سرد قصة فيها من الدراما والحبكة "الأسطورية" ما هو أكبر من القصة المألوفة، في كثير من جوانبها، لحياة محمد، وحياة مكة، قبل وبعد البعثة.. فنظرية المؤامرة، البادية في كتاب القمني، هي أكثر النظريات "أسطورية" عبر التاريخ، وهي تصف الإنسان بالقدرة الخارقة على حبك الأحداث، وتسييرها في اتجاه مصلحته، بحيث "لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها"!.. نظرية المؤامرة، ببساطة، هي وثنية، قديمة جديدة، تؤله أشخاصا بعينهم بنسب تلك القدرات الغير طبيعية لهم، وتنسى الأسئلة المهمة (لماذا هم بالذات؟ ومن أين جاؤوا بهذا؟)..
فالقمني، مثلا، انتهى به الأمر لتقديس عبد المطلب، جد النبي، بشكل واضح، لا تغني في إخفائه الحيل.. فقد نسب القمني لعبد المطلب تقديرات من التآمر لا تقدر عليها جموع مجتمعة، وحاول بعد ذلك أن ينسب فضل سيادة بني هاشم على قريش بالرسالة كله إلى عبد المطلب.. إسمعه يقول: "وبما أن لكل مجتهد نصيباً؛ فقد أتت مساعي عبد المطلب وجهوده التي لم تكل بثمارها، واتبعه على ملته الإبراهيمية وعقيدته الحنفية، التي لم يستنكف المؤرخون والباحثون من نعتها بـ " دين عبد المطلب". ومن هؤلاء التابعين (وفيهم السابقون المهدون): قس بن ساعدة الإيادي، وأمية بن أبي الصلت، وأرباب ابن رئاب، وسويد بن عامر المصطلقى، ووكيع بن سلمة بن زهير الإيادي، وعمير بن جندب الجهني، وأبو قيس صرمة بن أبي أنس، وعامر بن الظرب العدواني، وعلاف بن شهاب التميمي، والمتلمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي سلمى، وخالد ابن سنان بن غيث العبسي، وعبد الله القضاعي، وكعب بن لؤي بن غالب، وعبد لطابخة بن ثعلب، وزيد الفوارس بن حصين، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأكثم ابن صيفي، وأبو قيس بن الأسلت، وحنظلة بن صفوان، وغيرهم كثير، وبانتشار الأيديولوجيا الحنفية بدأ أتباعها يتنافسون في التقوى والتسامي الخلقي؛ عل أحدهم يكون نبي الأمة وموحد كلمتها، حتى شكلوا "تياراً قويا، خاصة قبل ظهور الإسلام بفترة وجيزة"[5]..
انتهى الأمر بالقمني إلى نقل الملكية الفكرية لأصول الإسلام من محمد إلى جده! وكأنه بذلك فعل شيئا، أو قدم حلا! ولسنا بحاجة لتكرار ما ذكرناه عن تحليل القمني التاريخي لكون عبد المطلب هو مجدد الديانة الحنيفية في أرض العرب، فهو تحليل مختل وبه الكثير من الثغور، وفيه الكثير من إعمال الرأي بواسطة التخمين، والقراءة الانتقائية لكتب التاريخ، بشكل يسلب ذلك التحليل أي مصداقية علمية..
ولن يفيد القمني ذكر هذه الأسماء الكثيرة من الأحناف، إذا لم يذكر أي دليل تاريخي على لقائهم بعبد المطلب، وتأثرهم به، وهذا ما لم يفعله..
وحديث القمني، مثلا، عن تشابه ما جاء من أشعار أمية بن الصلت مع ألفاظ آي القرآن، ليس به كثير عبرة أيضا.. فقد كان بعض الصحابة، من كتبة الوحي، من يرد الوحي على لسانهم، فيكتبونه بأمر النبي، كما يخبرنا التاريخ.. الموضوع ليس "أمية بن الصلت" وحده، ولو أن شخصية بن الصلت نفسها وما ينسب لها من الشعر هي محل الكثير من الشكوك التي لا رادع لها من التاريخ الموثق.. الموضوع يتعلق بلغة القرآن ومخاطبته لأناس لا يمكن أن تكون لغته وأمثاله وتعابيره وقصصه بعيدة عنهم كل البعد، وغريبة عنهم كل الغرابة.. لو كان القرآن كذلك، لما أفلح في أن يجعل الناس ينصتون له، أيا كانوا.. القرآن خاطب قريش والعرب بلغتهم، وأمثالهم، ومعالم بيئتهم، وكثير من قصصهم.. يقول تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو السميع العليم).. إن تفسير قوله "بلسان قومه" على أنه "بلغتهم" فقط، هو قول يحتاج إلى مراجعة.. فالمرء منا يمكن أن يتحدث بالعربية لأناس عن أشياء لم يروها، وليس عندهم أي مثل يقربهم لها، وبالتالي فهم لن يفهمونه، رغم أنه تحدث معهم بلغتهم.. لقد خاطب القرآن قريش ومن حولها بلسانهم، وهم قوم النبي، وفهموا معانيه وأحاديثه لأنها ليست غريبة عليهم كل الغرابة، وليست بعيدة عن ثقافتهم، فإن كان أمية بن الصلت، مثلا، قال شعرا في حادثة الفيل، فما الذي يمنع أنه هو نفسه أخذ عباراته من لسان قومه، وتشبيهاتهم؟ وما الذي يمنع أن هذه التشبيهات والتعبيرات هي نفس التي استخدمها القرآن في سياقه ليسرد الواقعة؟ أفليست مخاطبة الناس بلسانهم تكون هكذا؟ المسألة ليست فيما إذا تطابقت تعبيرات القرآن مع ألفاظ أمية بن الصلت، أو ألفاظ الصحابة من كتاب الوحي، أو غير ذلك مما تآلف عليه مجتمع مكة ومن حولها، ولكن المسألة الأساسية تكمن في محتوى هذا الخطاب الذي قدمه القرآن للناس، وجسده لهم النبي في اللحم والدم (كان خلقه القرآن).. المسألة الأساسية تكمن في طريقة هذا القرآن في تعليم الناس، وسوقهم من أبسط وجوه اللغة، وأقربها لهم، ليوغل بهم في أمر الدين وحقائقه برفق وأناة (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق)..
القرآن ليس مجرد لغة، وما هو كذلك إلا لمن احتجب عنه بحجاب اللغة، وظل قابعا خلفها.. وهذا هو حال معظم المسلمين اليوم، وكثير من مدارسهم الفقهية الغابرة والحاضرة، كما هو حال الناظرين له بعين النقد المزعوم.. هذا بالرغم من أن القرآن نفسه يوضح منهاجه لمن يريدون الأخذ به بوضوح، إذ يقول (واتقوا الله ويعلمكم الله، والله بكل شيء عليم)..
(8)
من المؤكد أن هناك الكثير من النقاط التي لم يتم تناولها، مما جاء في كتاب "الحزب الهاشمي"، في هذا المكتوب.. ولعل النقاط التي تناولها المكتوب هي أهم النقاط، من وجهة نظري، وتعتمد النظرة فيها على النظرة للنقاط الأخرى التي وردت في الكتاب موضع النقد..
ولكن بصفة عامة، فتحليل موضوع ظهور الإسلام، وانتشاره، لا يستند عندي، ولا يقوم على محاولة إيجاد التبريرات، وربط القصص ببعضها، في محاولات قد تصيب أو تخطئ.. يخطيء الكثير من محللي التاريخ اليوم عندما يعاملون الظاهرة التي ظهرت في أرض العرب، في القرن السابع الميلادي، معاملة مادية بحتة، يحاولون فيها بشتى السبل أن ينسبوا العوامل التي صنعتها للأوضاع السياسية والإقتصادية وحسب.. كما يخطئ أيضا أولئك الذين يلحقون المسألة كلها بالبهموت، ويضعون لها صورا خيالية، لا تمت لأرض الواقع بصلة.. الطرفان، في نظري غير واقعيين.. فالواقع أساسا يخبرنا أن البيئة التي نعيش فيها مكونة من عنصرين، مادة وروح، وأن البشرية سائرة ومتطورة من بدايتها اتكاءا على هذين العنصرين… فإذا حاولنا نحن اليوم تحليل أي حقبة من الحقب التاريخية بواسطة عنصر واحد، دون اعتبار الآخر، فنحن خرجنا عن العلمية، والموضوعية، والواقعية، وإن ادعيناها.. ولعله من أوضح سمات الغفلة في تحليل التاريخ الإسلامي عند الكثير من المحللين التاريخيين اليوم هو تجافيهم الغريب عند دراسة الفكر والتاريخ الصوفي الإسلامي، رغم أن المدرسة الصوفية الإسلامية هي أكثر المدارس الإسلامية عمقا في الفكر، ونموذجا في التجسيد لقيم الإسلام الحقة عبر تاريخ أهلها.. حتى الكثير من أولئك الذين حاولوا دراسة تلك المدرسة من الناحية التاريخية لم يستطع معظمهم أن يكون بالعمق والحياد المطلوب، ومن كان منهم على قدر مقبول من العمق لم يحظ بالإهتمام الإعلامي الذي يستحقه.. وفي واقع الأمر، قولا واحدا، لا يوجد في تاريخ الإسلام، قبل هذا العصر، مدرسة فكرية مثلت الإسلام كما مثلته المدرسة الصوفية فيه..
قصي همرور
أبريل 2005
[1] منصور أبو الشافعي، "سيد القمني ومركسة الإسلام" – موقع "إسلام أونلاين" الالكتروني (islamonline.com)، 9 أكتوبر 2004
[2] كارل ماركس و فردريك إنجلز، "بيان الحزب الشيوعي"، 1848 – الموقع الالكتروني (Marxists.org)، القسم العربي..
[3] موقع الفكرة الجمهورية الالكتروني، لمحات من فكر وحياة الأستاذ محمود محمد طه - http://www.alfikra.org
[4] السيد سابق، "فقه السنة"، المجلد الأول - الطبعة الشرعية الثامنة، صفحة 248
[5] سيد القمني، "الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية" – سينا للنشر، يناير 1990 (الكتاب متوفر في مواقع انترنت عديدة، وقد قمنا بالاقتباسات من تلك المواقع)..