إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

عن الحزب الهاشمي، وحول جذور الأديان

قصي همرور


عن الحزب الهاشمي، وحول جذور الأديان


(3)


لعله من المعروف، والمهم، أن التعامل مع التاريخ بطريقة انتقائية، بلا منهاج، لا يعدو كونه نسجا لقصة موجودة منذ البداية في ذهن القارئ أو الباحث، ثم لا يفعل إلا أنه يختار من التاريخ ما ينسجم وقصتة المنسوجة مسبقا، أو يبدو وكأنه يؤيدها..

يبدو لي أن الدكتور القمني قد مارس هذا النوع من التعامل مع التاريخ، في جوانب كثيرة من "الحزب الهاشمي".. فمرة، في حديثه الذي حاول أن يؤسس منه لأن عبد المطلب، جد النبي، كان حنيفيا، بل كان زعيم الأحناف، أراد أن يدلل على أن أبي طالب، عم النبي، كان أيضا حنيفيا.. يورد القمني في ذلك في كتابه، رواية لابن هشام عن عبدالله بن عباس: "ثم يؤكد أن عبد المطلب كان مؤسساً لملة واعتقاد ، فيروي عن ابن عباس وابن عمرو ومجاهد والشعبي وقتادة.. (عن ديانة أبي طالب بن عبد المطلب): "هو على ملة الأشياخ…هو على ملة عبد المطلب"..".. هنا نرى قراءة انتقائية واضحة، بدايتها أن تعليل القمني لقول ابن عباس "على ملة عبد المطلب" أن فيه تأكيد أن عبدالمطلب كان مؤسسا لملة واعتقاد، هو تعليل سطحي من الناحية اللغوية، وضعيف جدا من الناحية التاريخية، فكون ابن عباس قال ذلك عن ملة أبي طالب لا يعني ذلك بحال من الأحوال أنه كان يعني أن عبدالمطلب كان مؤسس ديانة، فلغة العرب لا تحتمل هذا التعليل فقط، بل هي تحتمل غيره أكثر منه.. والدليل على أن ابن عباس لم يكن يقصد أن عبدالمطلب كان مؤسسا لديانة مدعوم تاريخيا أكثر من قراءة القمني الانتقائية هذه، فالحنيفية، والتي يزعم القمني أن عبدالمطلب كان مؤسسها، كانت معروفة قبل عبدالمطلب بكثير في أرض العرب، من بديهة ارتباطها بالنبي إبراهيم، وحيث يورد القمني ذلك بنفسه، ومن ثم يحاول أن يجعل عبدالمطلب مجددا لها بعد اضمحلالها، وهو لم يذكر دليلا على اضمحلالها قبل عبدالمطلب، وتجديدها به.. ولم يذكر لنا أيضا عن ورود أي علاقة مباشرة بين عبدالمطلب، وأمية بن أبي الصلت (أحد أشهر الأحناف العرب) وقس ين ساعدة، وغيرهما من الأحناف الذين اشتهروا في أرض العرب في تلك الفترة.. البديهة تقول "إن كان عبدالمطلب هو مجدد الحنيفية، وأن هؤلاء قد عاصروه كما يخبرنا التاريخ، فلماذا لا ترد لدينا أي حكاية تاريخية عن علاقة لهم ببعض؟ ولو حتى في حدود المعرفة العابرة؟

وإذا عدنا إلى استدلال القمني بما قاله ابن عباس، فسنجد أن القمني قام بقراءة انتقائية واضحة، ولنص واضح.. يرد هذا الحديث عن ابن عباس في تفسير ابن كثير للآية (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) الآتي: "وَهَكَذَا قَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَمُجَاهِد وَالشَّعْبِيّ وَقَتَادَة إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِب حِين عَرَضَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُول لا إِلَه إِلا اللَّه فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ وَقَالَ أَيْ اِبْن أَخِي مِلَّة الأَشْيَاخ وَكَانَ آخِر مَا قَالَهُ هُوَ عَلَى مِلَّة عَبْد الْمُطَّلِب".. فالنص هنا يرينا القصة كاملة، وفيها أن النبي قال لعمه أن يقول (لا إله إلا الله)، اللفظة التوحيدية الواضحة، فأبى أبو طالب، وقال "أي ابن أخي ملة الأشياخ".. فإذا كان أبو طالب حنيفيا، فلم يرفض قولها، وهي لا تتعارض مع حنيفيته التوحيدية؟ القمني هنا لم يورد القصة كاملة، وبعد كل ذلك فهو أراد أن يؤسس من تلك العبارة الناقصة لتقرير خطير جدا، هو أن عبد المطلب كان مؤسس ملة..

أنا شخصيا ليس عندي اعتراض، من الناحية التاريخية، على أن يكون عبدالمطلب حنيفيا، أو أن يكون أبو طالب كذلك حنيفيا.. بل وليس عندي اعتراض على أن يكون النبي قد أصبح حنيفيا، قبل الظهور بدعوته، بسبب ذلك، فكل هذه الإحتمالات واردة، ولا أجد غضاضة في أن يتبناها أحد إذا رأى الإقتناع تاريخيا بها، إذ أن هناك فعلا مصادر تاريخية تذهب في تأييد هذا القول.. المشكلة هي أن سيد القمني يحاول أن يوحي أن التاريخ لا يقول بغير ذلك القول، وهذا غير صحيح، كما هو واضح..

لقد كان ابن كثير، كمؤرخ، مثلا، على درجة مشرفة من النزاهة في هذه النقطة، حين أورد الروايات التي تواترت عنده -موضحا بذلك أن هناك أكثر من رواية- ومن ثم كان له الحق بعد ذلك في أن يؤيد إحدى الروايات أكثر إن شاء.. أما القمني، فهو لا يريد أن يوحي للقاريء سوى بأن ما يقوله هو لم يقل التاريخ غيره.. وأنا أجد في ذلك صعوبة فهم، فالقمني، كدارس تاريخي، من المؤكد أنه يمر على مثل هذه الروايات التاريخية المتضاربة، فعلى أي أساس يتبنى إحداها ويلفظ الأخر؟ أي هل هناك منهاج علمي يستخدمه القمني في عمليته الانتقائية هذه؟.. يرد عن الكاتب والباحث منصور أبو الشافعي، في مقاله "سيد القمني ومركسة الإسلام" أن القمني يقول "مهمتنا أبدا ليست تدقيق معلومة يعطيها لنا علماء"، وأن "المعلومات سواء كانت خطأ أم صوابا فهي ذلك المعطى الجاهز لنا من أهل التاريخ"[1].. هل هذا حقا هو منهاج القمني في استقراء التاريخ؟.. فعلى أي أساس ستكون لدراساته التاريخية مصداقية إذا، إذا كان لا يضع في اعتباره كون المعلومات خطأ أو صوابا؟ وهل للدارس التاريخي مهمة أكبر من تدقيق المعلومات التاريخية، قدر المستطاع؟.. ولعل هذا سيسوقنا إلى التساؤل: من هم "أهل التاريخ" هؤلاء الذين يقصدهم القمني، ويأخذ منهم ذلك المعطى الجاهز؟ وهل يمكننا، كقراء، أن نثق، بعد هذا التصريح، إن صح، في كتابات القمني، كمراجع تاريخية؟.. إن القمني، بمثل هذه التصريح، يناقض أكبر مبادئ الدارس التاريخي، والدارس التاريخي المادي بشكل خاص، فالماديون، إذا اعتمدوا مثل هذا التصريح للقمني، لا يمكنهم بعد اليوم أن يشككوا في أساطير الكتب المقدسة، وحكايات الشعوب، كما يسمونها، ولن يستطيعوا أن ينكروا المعجزات المتواترة في الكتب التاريخية القديمة (والكتب المقدسة منها خصيصا) كما فعل القمني نفسه.. الغريب في الأمر أن القمني نفسه قد بنى الكثير من مجده على تحليل تاريخ "الأساطير" وجرها إلى تعليلات الظواهر الطبيعية المادية، وها هو اليوم يتنكر للمنهاج الذي سمح له بفعل ذلك، وأعطى كتاباته مصداقية..

من المعروف محاولات سيد القمني لنسب المعجزات إلى الظواهر الطبيعية، مثل حادثة انشقاق البحر للنبي موسى، ولكنه أيضا لم يستطع أن يحلل كل المعجزات التي أوردها التاريخ إلى الظواهر الطبيعية، والأدهى من ذلك أنه استخدم بعض تلك الروايات عن المعجزات لكي يدلل بها على صدق سرده التاريخي.. فها هو يتحدث في "الحزب الهاشمي" عن أن مكة صار لها صيت ورهبة بين العرب بعد حادثة الفيل، وحجارة السجيل.. يورد القمني ذلك في سياق تأكيده أن مكة كانت تسعى لتحقيق سيادتها على العرب، ويقول بأن تلك الحادثة المروية زادت من تأكيد تميز مكة عند العرب.. إذا كان القمني لا يعتمد الأسطورة في دراسته التاريخية، فكيف فات عليه تحليل هذه الحادثة؟ بل كيف يستشهد بها، ويحاول بعد ذلك أن يبدو وكأنه إنما يسرد سردا تاريخيا من مصادر "أهل التاريخ"؟ كان ماركس، كمثال على الدارس التاريخي المادي المدقق، يرى أن قصص الكاثوليك الأسطورية عن قديسيهم ليست إلا أساطير مسروقة من العهد الوثني.. يقول في ذلك، مع إنجلز، في "البيان الشيوعي": "ومعروف كيف استبدل الرهبان عناوين المخطوطات، المنطوية على الأعمال الكلاسيكية للعهد الوثني القديم، بعناوين حكايات سمجة لقدّيسين كاثوليك"[2].. إن موقف ماركس وإنجلز هذا هو موقف دارس تاريخي مدقق، بغض النظر عن اتفاقنا مع نتائجه أم لا.. أما موقف سيد القمني، فأنا لا أدري بماذا أصفه، إن صحت تلك الرواية عن منصور أبي الشافعي..

وعموما، أتوقع أن أعود لتناول بعض القضايا المتعلقة بالسرد التاريخي في "الحزب الهاشمي" في النقاط التالية..

(4)


كان النبي على ملة إبراهيم، الحنيفية، قبل أن يظهر برسالته.. هذا أمر موثق جدا، وهو أيضا كان يرى أن رسالته هي امتداد واضح للحنيفية، وتزخر آيات القرآن بهذا المعنى، لدرجة جعلت بعض الطوائف الدينية (جماعة رشاد خليفة مثلا) ترى أن محمدا هو الرسول الثاني للإسلام، وليس الرسول الأول، حيث كان إبراهيم هو الرسول الأول.. يقول القرآن في ذلك ((ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه فى الدنيا وإنه فى الآخرة لمن الصالحين)).. ويقول ((وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين)).. ويقول ((قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين)).. ويقول ((ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا)).. ويقول ((وجاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفى هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)).. وهذا قليل من كثير يمكن أن يورد، وما أردت بإيراده إلا التوكيد والتأسيس لما بعده.. ويرد في السيرة أن النبي نفسه كان يدعو الناس إلى الإسلام على أنه هو هو الحنيفية، دون لبس، يرد عن ابن كثير في ذلك، في نفس تفسير الآية ((إنك لا تهدي من أحببت.. الآية)) الآتي: "عَنْ سَعِيد بْن أَبِي رَاشِد قَالَ كَانَ رَسُول قَيْصَر جَاءَ إِلَيَّ قَالَ كَتَبَ مَعِي قَيْصَر إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا فَأَتَيْته فَدَفَعْت الْكِتَاب فَوَضَعَهُ فِي حِجْره ثُمَّ قَالَ: "مِمَّنْ الرَّجُل ؟ "قُلْت مِنْ تَنُوخ قَالَ : "هَلْ لَك فِي دِين أَبِيك إِبْرَاهِيم الْحَنِيفِيَّة؟ "قُلْت إِنِّي رَسُول قَوْم وَعَلَى دِينهمْ حَتَّى أَرْجِع إِلَيْهِمْ فَضَحِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَظَرَ إِلَى أَصْحَابه وَقَالَ: "إِنَّك لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت وَلَكِنَّ اللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَاء".."..

وقد كان محمد سائرا على درب الحنيفية في العبادة والتأمل والاختلاء بشكل أكثر توكيدا في قرابة الخمسة عشر عاما التي سبقت بعثته.. كان يخرج ويختلي في الغار لما يقارب أو يزيد عن الشهر، في مواسم متعددة، ويصوم صياما قاسيا لأيام وليالي، ويصلي كما ترد الصلاة في الحنيفية، ويتجافى عن النوم في الليل البهيم.. حتى أن الصوفية، عبر التاريخ الإسلامي، قلدوه في هذا الأمر، واعتبروه من سنته، حتى ولو كان قبل بعثته، فسنة الرجل لغة هي "عمل الرجل وسيرته في خاصة نفسه".. والصوفية يرون أن نبوة محمد لم تبدأ عند نزول الوحي، بل بادئة منذ ولادته، ومنذ إعداده منذ ذلك الحين بواسطة الإرادة الإلهية اللطيفة ليقوم لأمره، فهو لم يصبح نبيا بين يوم وليلة، وإنما كان يعد لأمره ذاك منذ ولادته، بل ومن قبل ذلك، باعتبار بعض النصوص، حيث يرد من أقواله "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين" وقوله لصاحبه جابر "أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر".. ولعل هذا قريب جدا إلى ما أراد أن يشير له القمني، حين ذكر في مقدمة كتابه الآتي: "رغم أننا لو استخدمنا منهج الدين ذاته بشكل أكثر احتراماً للدين نفسه، ولله صاحب هذا الدين، لأدركنا أن فهمنا للدين سيكون أكثر جمالاً وفهماً عندما يكون الرب متسقاً مع ذاته، لا يخالف قوانين المفترض أنه هو واضعها، وأنه كي يتم المراد من رب العباد وقيام نبي الإسلام بدعوته، فإنه كان لابد من تمهيد الواقع كي يفرز نتائجه المنطقية التي تتسق مع تلك المقدمات، وتتفق مع كمال ذلك الرب، ذلك الكمال الذي يفترض اتساق قراراته مع قوانينه وسننه، ناهيك عما سيحققه مثل ذلك الفهم على المستوى التربوي للعقل".. أنا شخصيا أتفق مع قول القمني هذا، بشكل عام، حسب فهمي له..

وقد كان محمد سائرا على درب الأخلاق الحميدة، وتنقية النفس من الرعونات، منذ حداثة سنه، حتى عرف بأخلاقه في مكة قبل البعثة، وسمي "الصادق الأمين".. ويمكن أن نعتبر حياة محمد أكثر حياة مرصودة، بتفاصيلها، لقائد تاريخي، سواءا كان نبيا، أو ملكا، أو فيلسوفا، أو غيرهم.. مثل هذه السيرة التي سارها محمد قبل بعثته بسنين، كانت داعمة له عندما خرج بدعوته للناس، فهم عندما عرفوا عنه الصدق والأمانة ودماثة الخلق لم يكن من السهل لهم أن يتهموه بالكذب والتلفيق.. وقد كان ممن عرفوه من قرب أول من آمن به، لأنهم جربوه وخبروه، وحتى الذين لم يؤمنوا به ممن عرفوه عن قرب كانوا لا ينكرون ما له من الشمائل..

ولم يتوقف محمد عن سيرة العبادة والتأمل بعد البعثة، فكان يقوم ليله دواما، حين الناس نيام في العتمة، في حضر أو سفر، وكان في المرات القليلة جدا التي لا يقوم فيها الليل يقضيه باثنتي عشر ركعة في النهار.. وموضوع قيامه صلاة الليل هو من أكثر الموثقات في سيرته المرصودة، وكذلك صيام التطوع المستمر من غير رمضان، وصيام المواصلة (صيام أكثر من يوم وليلة بشكل متواصل دون إفطار).. وقيام الليل كان مفروضا على محمد في واقع الأمر، في حين لم يفرض على أحد من أمته.. يقول القرآن في ذلك ((يا أيها المزمل.. قم الليل إلا قليلا)).. ويقول ((أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل، وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا.. ومن الليل فتهجد به نافلة لك، عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا)).. وكان محمد يصلي في بيوت أزواجه كلها، لهذا ورد عن كل أزواجه تأكيد قيامه الليل، بهيئات متنوعة، وأنه كان يتلو بصوت لا يتجاوز حجرات أزواجه حول المسجد النبوي، وكان أحيانا كثيرا يندب أهله لقيام الليل، ويحثهم عليه، غير أنه لم يفرضه عليهم.. وكان محمد، في مستواه الشخصي ومستوى آل بيته، لا يدخر أبدا، حيث كان أكبر اشتراكي عرفه التاريخ.. لم يكن محمد يدخر مالا ليوم الغد، بل أكاد أقول أنه لم يكن يدخر حتى للوجبة المقبلة، أو الساعة المقبلة، حتى أنه كان يكره أن يلقى الله في الصلاة وهو خازن، ولو درهم، كما ترد الرواية عنه.. وفي حديثه عن الأشعريين: "كان الأشعريون إذا أملقوا، أو كانوا على سفر، فرشوا ثوبا، فوضعوا عليه ما عندهم من زاد، فاقتسموه بالسوية، أولئك قوم أنا منهم وهم مني"..

وكان عندما يبكي وهو يصلي، ويكثر من الإستغفار، ويسأل عن "لماذا يبكي ويستغفر وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟" يقول "أفلا أكون عبدا شكورا؟".. ومن الحوادث المعروفة عن أيام دعوته في مكة، خروجه لأهل الطائف لدعوتهم، ورفضهم له، وإيذائهم له قولا وفعلا، حتى تمخضت نعلاه الشريفتان بالدم، فخرج من الطائف، يناجي الله ويقول: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي.. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟.. إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي.. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك.. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك".. وكان في تواضعه لا يحب أن يشبه بأحد غير العبد، يقول "لقد خيرت بين أن أكون نبيا ملكا، وبين أن أكون نبيا عبدا، فاخترت أن أكون نبيا عبدا".. ويقول "والله ما أحب أن يكون لي مثل جبل أحد ذهبا أنفقه في سبيل الله" ..ويقول "يا آل محمد إنكم أول من يجوع وآخر من يشبع".. ويرد في جانب من إيراد خلقه الكريم، هذا المقطع من كتاب الأستاذ محمود محمد طه "طريق محمد": "وكان دائم البِشْر سهل الخلق.. أرأف الناس بالناس، وأنفع الناس للناس، وخير الناس للناس، فكان يتلطف بخواطر أصحابه، ويتفقد من انقطع منهم عن المجلس، وكان كثيرا ما يقول لأحدهم ((يا أخي وجدت مني أو من إخواننا شيئا؟؟)) وكان يباسط أصحابه، حتى يظن كل منهم أنه أعز عليه من جميع أصحابه، وكان يعطي من يجلس إليه نصيبه من البشاشة، حتى يظن أنه أكرم الناس عليه وكان لا يواجه أحدا بما يكره، ولا يجفو على أحد مهما فعل، ويقبل عذر المعتذر مهما كان فعله. وقال أنس خادمه ((خدمت رسول الله عشر سنوات، فما قال لي لشئ فعلته، لمَ فعلته ؟ ولا لشئ تركته، لمَ تركته ؟)) ((وكان بعض أهله إذا لامني، يقول: دعوه فلو قضي شئ لكان)).

وكان يقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، ولم يكن يتميز على أصحابه أو يستخدمهم، ولا حتى يدعهم ينفردون بالخدمة بحضرته، وقد كان يعمل معهم في بناء المسجد، وفي حفر الخندق، ومشى على قدميه إلى بدر، حين كان يناوب بعض أصحابه على راحلته، وشارك أصحابه في إعداد الطعام بجمع الحطب، وحين قالوا له ((نكفيكه)) قال ((علمت أنكم تكفونيه، ولكني كرهت أن أتميز عليكم)) وحاول أحد أصحابه أن يحمل عنه متاعا كان يحمله من السوق لأهل بيته فأبى، وقال ((الرجل أولى بخدمة نفسه)) وكان يقول ((إن الله يكره من عبده أن يتميز على أصحابه)) وفي مرة قام بين يديه رجل، في بعض حاجته، فأخذته هيبته، فلجلج، فقال له ((هون عليك، فإني لست ملكا، وإنما أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد.)) فسكنت نفس الرجل، وأفصح عن حاجته، فقال المعصوم، ((أيها الناس، إني أوحي إلي أن تواضعوا.. ألا فتواضعوا حتى لايبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد وكونوا عباد الله إخوانا))".. انتهى النقل..

قمت بإيراد كل هذا عن سيرة محمد، لكي أدخل به على أمر مهم جدا، وهو أن أمر الأخلاق ليس أمرا يستهان به، أو يوضع موضع التكتيك والتمثيل، فهو من أصعب الأمور على النفوس، ولا يجدي فيها إلا الصدق.. وكذلك فإن منهاج التعبد القاسي في كبح جماح شهوات الجسد وتجنيات الخواطر ليس بالأمر الذي يمكن تطفيفه على الإطلاق، وأنا سأحاول العودة بتفصيل أكثر لموضوع المنهاج التعبدي للنبي وأصوله، ولكن في هذه النقطة أحب أن أتجه لأمر آخر، ألا وهو تطفيف سيد القمني لعامل الأخلاق بصورة غريبة، وكأنه يريد أن يقول أن تحلي محمد بتلك الأخلاق التي رفعت شأنه في التاريخ لم يكن إلا جزءا من تكتيك و"مؤامرة" كانت تحاك بحنكة وأناة على مدى سنين طوال، أي ببساطة أنه كان جانبا من "التمثيلية" الكبيرة التي تتيح للحزب الهاشمي سيادة العرب.. صحيح أن سيد القمني لم يقل ذلك بالحرف، ولكن كتابه ينضح بهذا التصور.. أنا لا اعتراض عندي لأن يكون تحليل القمني لكون زواج النبي من السيدة خديجة قد أعطاه راحة نفسية ليتفرغ لعمله في التأمل والإنشغال بقضايا أكبر، فهو أمر ممكن جدا، وهو ليس غريبا على معظم مؤسسي الأديان وأصحاب الفلسفات عبر التاريخ، وكذلك فمن الروايات ما يؤكد أن السيدة خديجة هي التي رغبت في النبي الكريم أولا، وكان أن استطاب النبي ذلك، وتزوجها.. ومن المعروف أنه كان لا يذكرها إلا بخير، وكان يبر كل من كانت له علاقة بها، قرابة أو صلة، في تقدير ومحبة شديدتين.. ولكن تصوير القمني لا يخلو من محاولة أخرى لجعل موضوع زواج النبي من خديجة جزءا من المؤامرة الكبيرة، المحبوكة غاية الحبكة..
ما أعنيه بكلمة "المؤامرة" هو المعنى الحرفي لها، أي أن النبي، وجده وعمه، كانوا يسيرون وفق خطة مرسومة بتفاصيل كثيرة، وهو أمر لو ثبت تحليله، في ذلك المستوى الذي يريد أن يوحي به القمني، فهو في واقع الأمر سيكون طعنا في فضائل هؤلاء، وسيكون أقرب لتصويرها على أنها كانت مجرد "تمثيل" في أغلبها.. أنا لا اعتراض لي على أن يتوجه القمني إلى كون أن النبي وآله، وخصوصا آله، كانوا يطلبون لأنفسهم أمرا جللا كسيادة العرب، فحب السيادة مجبولة عليه النفوس، والنبي نفسه ما كان ليعتزل قومه ويعيش تلك الحياة المتفردة عن أقرانه قبل البعثة لو لم يكن يشعر بأنه مختلف عنهم، فكرا وشعورا، وأنه مقبل على أمر عظيم.. ولكن تصوير هذه الرغبة، المادية في جانب منها، كمؤثر مباشر على قيم إنسانية رفيعة كتلك التي تحلى بها عبدالمطلب وأبو طالب، وفي الأول محمد، هو تصوير فيه الكثير من الإجحاف لسيرة شخص واجه الواقع بقوة وصبر، وتحلى بقامة إنسانية سامقة، مشهودة له في سيرته الموثقة والمرصودة، وهي موثقة ومرصودة أكثر من أي جانب آخر من تاريخه.. لعلها القراءة الانتقائية مرة أخرى، التي جعلت القمني لا يستطيع أن يفسر مثل هذه القيم الإنسانية تفسيرا ماديا مقنعا، فصار يحاول، في عنت شديد، أن يلبسها جلبابا ماديا، لا ولن يسعها..

من أمثلة محاولة القمني لتصوير المسألة على أنها "مؤامرة" قوله بأن إعداد محمد كان ليكون نبيا وملكا تأسيا بسيرة داوود النبي الذي انضوى اليهود تحت لوائه.. ولكن محمد لم يكن ملكا، كما كان داوود ملكا! وأبسط مقارنة بين حياة محمد وحياة داوود كقائدين تاريخيين يمكن أن توضح الفرق.. إن محاولة تشبيه القمني لمثال محمد بداوود فيه الكثير من تسطيح الرؤية، فصيغة الملك لا تشبه أبدا ما كان عليه محمد بين أتباعه، وما كان عليه في نمط عيشه في خاصة نفسه.. والتاريخ مرصود في تأكيد هذا الأمر بشكل جلي وواضح..

الحق يقال، أن محمدا لم يتميز ذلك التميز إلا بأخلاقه، ولم يكن هناك دليل على حكمته ومعرفته ونبوته أقوى من أخلاقه، وهو القائل "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وهو لم يبلغ ذلك الشأو من الأخلاق لمجرد أنه تفرغ له، بشكل يوحي أن كل من يتفرغ لهذا الموضوع كما تفرغ له محمد سيحقق فيه ما حققه محمد.. فمحمد لم يحقق ما حققه إلا بصدق نادر، وبتجسيد واضح وظاهر لمعاني الصدق تلك، قبل البعثة وبعدها.. والإيمان برسالة الإسلام نفسها ليس إلا إيمانا بشخص محمد، فالمسلم الأول لا دليل له على صدق محمد سوى مصداقية محمد!.. أبو بكر "الصديق" مثلا، لم يصدق محمدا في رسالته، وفي حديث الإسراء، إلا لمصداقية محمد عنده، لمعرفته به.. ولكن هذا لا يعني أن المسلم لا وسيلة له للإنتقال من مرحلة العقيدة والإيمان الصرف إلى مراحل من اليقين والعلم بصدق محمد وصدق دعوته، وهو أمر سنحاول تناوله في النقاط القادمة..

لقد طفف القمني موضوع الأخلاق تطفيفا غريبا.. فالحق أن موضوع الأخلاق هذا هو المحك الأساسي، وبه تظهر دعوى صاحب كل دعوى.. كان السيد المسيح يقول لأصحابه أن يحذرو الأنبياء الكذبة، وعندما سألوه "كيف نعرفهم؟" قال لهم "بثمارهم تعرفونهم"، وهل هناك ثمار تعرف أوضح من الأخلاق؟.. والقمني يشاهد ويرى من كتب السيرة والتاريخ ما هو مكتوب وموثق عن أخلاق محمد، وهو لم يتناولها بالتشكيك في كتابه هذا، كما أن الشواهد الواقعية عليها كثيرة، فليس لشخص أن يحوز مثل التقديس الذي كان لمحمد من أصحابه، والشهادة التي كانت له من أعدائه، لو لم يكونوا قد رأوا فيه تلك الشخصية الفذة النادرة.. فالنبي، إذا، لم ينفق قرابة الخمسة عشر عاما من عمره، في العبادة والتأمل والرياضة الروحية القاسية، من أجل الخروج بتشريع مجتمعي فقط.. والدين بشكل عام، والإسلام بشكل خاص، في كتابه وسنة نبيه، لا يركز أساسا على المجتمع أكثر من تركيزه على الفرد.. ذلك لأن الدين لا يضع العربة أمام الحصان، فيجعل الفرد وسيلة للمجتمع، فالفرد كان موجودا قبل المجتمع، وهو من ثم اخترع المجتمع لمصلحته هو، أي أن الغاية الأساسية من المجتمع هي الفرد.. فالفرد هو الغاية، والمجتمع، والدين، هما وسيلتاه.. هذا الأمر الواضح فات على أكثر الماديين حنكة وذكاءا، عبر التاريخ الطويل للفلسفات المادية، والمحاولات المستقية منها..