إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
منذ أول أيام الصدور، وجد الإنسان نفسه محاطا بقوى هائلة، متجلية له في مظاهر شتى.. كان يرى سيطرتها عليه وضعفه الشديد أمامها، فساقته إليها مشاعر مركبة كثيرة، من خوف، واحتياط وحذر، ورغبة في سبر أغوار المجهول والإلمام به.. كل هذه الأسباب، على نسب متفاوتة عبر التاريخ، كانت المحفز الأساسي للبشر لاختراع الأديان، وكذلك تولدت العلوم التجريبية والمجتمعات، منذ صورها البدائية السحيقة.. فالدين في الأصل هو صناعة بشرية، أو أداة اخترعها البشر للإستعانة بها على تلمس الطريق نحو المجهول، وبناء علاقة مع المطلق الذي تفوح دلائله في كل أركان الوجود دون أن يكون كنهه (عينه) معروف ومستوعب للإنسان.. ولكن ظهور الدين من الأرض لا يعني بالضرورة أنه لم ولن يبلغ مبلغا أبعد من حيز الأرض خلال تطوره عبر التاريخ، ولايعني ذلك بالضرورة أيضا عدم وجود إرادة قديمة، سيرت الإنسان عبر إرادته الحادثة (عبر عقله المتأثر بانعكاسات المادة)، لتلهمه ذلك المنهاج الذي يلتمس به الطريق نحو المجهول، حتى يبلغ المبالغ العظيمة في معرفة مساحة كبيرة من ذلك المجهول مع الزمن وتراكم التجربة..
لن أحاول تناول موضوع ظهور الأديان وتطورها في هذه الورقة بالتفصيل، فهو أمر جليل ويتطلب من الوقت والمساحة أكثر بكثير من هذه الورقة.. وحسبي في ذلك أن أشير لأطراف من بعض النصوص التي تؤسس لهذه الفكرة، من كتابات الأستاذ محمود محمد طه.. يقول الأستاذ في كتابه "الدين والتنمية الإجتماعية" تحت عنوان "نشأة الدين والعلم والمجتمع" الآتي:
"وجد الإنسان الأول نفسه، في البيئة الطبيعية، أمام قوى رهيبة، يأتيه من قبل بعضها النفع، ويأتيه من قبل بعضها الآخر الضرر، فاهتدى إلىالمناجزة والتمليق، في آنِ معاً.. أما المناجزة فقد هدته إلى إتخاذه الآلة البدائية، وإلى إفتنانه شتى الأفانين التي بها ييسر حياته، ويؤمنها، فكانت تلك نشأة العلم التجريبي الذي تطور الآن إلى إرتياد الإنسان الفضاء بمركبات الفضاء.. وأما تمليقه فقد تمثل في تقربه، وفي تزلفه، إلى تلك القوى التي فاقت قدرته، وأعجزت حيلته.. وكان دافع التمليق الخوف منها حيناً، والطمع فيها حيناً آخر، فكانت تلك نشأة الدين.. فالدين، والعلم التجريبي، نشآ معاً، وفي وقت واحد.. وهما إنما نشآ كوسيلتين متكاملتين.. ونشآ نتيجة لمحاولة الإنسان أن يتلاءم مع بيئته.. فكلاهما -العلم التجريبي، والدين- إنما نشآ بدافع الخوف والطمع الذين استوليا على الإنسان الأول، وبخاصة الخوف.. ذلك بأن الإنسان قد وجد نفسه في بيئته الطبيعية، محتوشاَ بالعداوات من جهاته الست، فكان، من ثم، كلتا الوسليتين -العلم التجريبي، والدين- وسيلة الإنسان إلى تيسير حياته، وتأمينها..
ولقد نشأ الدين مع نشأة أول فرد بشري، وكذلك نشأ العلم التجريبي.. وأما المجتمع فإنه قد نشأ بعيد ذلك -نشأ مع نشأة شريعة الدين- وتلك نشأة قد كانت مبكرة، ذلك بأن الإنسان الأول، بحكم ما ورثه من طور حيوانيته، قد كان نزاعا للعيش في القطيع.. وهو، الى ذلك، قد كان يحتاج هذا العيش في الجماعة لما توفره له الجماعة من أسباب الأمن في وجه جوائح البيئة، ومن أسباب التعاون على منادح كسب الرزق، ومضانكه.. فحاجته إلى العيش في المجتمع قد كانت من قبيل حاجته إلى تيسير حياته، وتأمينها.. وتلك هي الحاجة التي كانت، كما سبق أن قررنا، وراء نشأة الدين، ونشأة العلم.. ولقد إضطر الإنسان، من أجل العيش في المجتمع، إلى التنازل عن قدر كبير من حريته.. وهو، بالطبع الذي ورثه من طور حيوانيته، قد كان شديد الشغف بتحصيل شهوتي البطن والفرج، ولذلك فما كان للمجتمع أن ينشأ إلا على تقييد هاتين الشهوتين.. وكذلك قام العرف الأول على تنظيم الغريزة الجنسية، وعلى تنظيم حب التملك.. ولقد كان هذا العرف هو جرثومة القوانين، وبداية شريعة الحرام، والحلال.. ولقد كان هذا العرف الأول عنيفاً بالفرد، أشد العنف، وذلك لمكان حاجة الفرد، في ذلك الطور من أطوار النشأة، إلى الترويض، والتهذيب.. ولقد أعان ذلك العرف البدائي الإنسان الأول كل العون، على تقوية إرادته، وسيطرته على نفسه، كما خدم المجتمع، في ذات الوقت، أجل خدمة، بحفظ كيانه، وبصيانة حقوقه، مما جعل إستمراره، لمصلحة الفرد، ولمصلحة الجماعة، ممكناً..
فالعلاقة بين الفرد والمجتمع قد قامت، من الوهلة الأولى، على التوفيق بين حاجة الفرد إلى الحرية، وحاجة المجتمع إلى العدالة.. وهو توفيق موزون، ومتمش مع ما يطيق الفرد، وما يطيق المجتمع، ومع ما يحتاجانه في ذلك الطور البدائي من أطوار نشأة الفرد، ونشأة الجماعة.. ولقد كان للدين، ثم للمجتمع، كل الفضل في نشوء الوازع الداخلي (الضمير) في الإنسان، إذ صار له إعتبار لغضب المجتمع، ورضائه، ولغضب الآلهة، ورضائها.. ودخلت، من ثم، القيمة المعنوية في إعتباره.. فهو قد يؤجل اللذه العاجلة طمعاً في اللذة الآجلة، وهو قد يستعصم عن اللذه الحسية طمعاً في اللذة المعنوية.. فمد كل أولئك في سعة تخيله، وأعانه على تنمية عقله بزيادة سيطرته على نوازعه الشهوانية..
وهذا العرف الأول الذي نظم الغريزة الجنسية، وفرض إحترام الملكية الفردية، والذي قام عليه المجتمع، أول ما قام، قد كان شريعة إسلامية، كما كانت عقيدة التعدد عقيدة إسلامية، وكلاهما قد كان مراداً، و مرضياً، من الله.. فالإسلام هو الدين، منذ بدء الدين، ولكنه إتخذ صوراً مختلفة، في الأزمنة المختلفة، حسب حكم الوقت.. ذلك بأن الله يبدي ذاته لخلقه على قدر طاقتهم.. وإنما كان العرف الأول إسلامياً لأنه حقق غرض الإسلام بتحقيق حرية الإنسان وكرامته.. ولقد ورد الحديث في متن المحاضرة عن دين الإسلام العام، ودين الإسلام الخاص، وجاء تعريف الدين بأنه الجزاء، كما ورد الحديث عن مستوى الجزاء في الإسلام العام، ومستوى الجزاء في الإسلام الخاص، وعن العرف الأول الذي قام عليه المجتمع، أول ما قام، وهو تقييد غريزة الجنس، وتنظيمها، وتقييد حب الملكية، وتنظيمها.. وجاءت الإشارة، في متن المحاضرة، إلى علاقة هذا العرف بشريعة الحدود الراهنة في الإسلام، وهي: الزنا، والقذف، والسرقة، وقطع الطريق، مما يغني عن الإعادة ها هنا..
وخلاصة الأمر، في هذا الباب، إن نشأة الدين، ونشأة العلم، ونشأة المجتمع، إنما كانت بدافع من حاجة الإنسان إلى تأمين حياته، وتيسيرها، مما يضع الإنسان -من حيث هو إنسان- موضع الغاية من كل سعي.. فكل شئ في الوجود إنما هو وسيلة الإنسان، كما قال تعالى، في سورة لقمان:(ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات، وما في الأرض، وأسبغ عليكم نعمه، ظاهرة وباطنة.. ومن الناس من يجادل في الله بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير) هكذا!! كل ما في الوجود إنما هو وسيلة الإنسان".. انتهى النقل..
من هذا النص الطويل بعض الشيء، والذي كان نقله ضروريا، نجد سردا مختصرا لتأسيس الرؤية التاريخية التي تضع الإنسان في موضعه الأصيل كالغاية من وراء كل الوسائل، من دين وعلم مادي تجريبي ومجتمع.. وتفصيل هذه النظرة مبذول في كتب الأستاذ محمود محمد طه التي تفوق الثلاثين كتابا، كتبت في الفترة بين العامين 1945 و1985..
(2)
كانت هذه البداية ضرورية، في نظري، لتحديد نقطة الإنطلاق لهذه الورقة.. فهذه النظرة الدقيقة التي قدمها الأستاذ محمود لنشأة الأديان والمجتمعات غير متوفرة سوى في أعماله والأعمال المستقية منها، من تلاميذه وغيرهم، وهي ليست ذات شعبية كبيرة بين الأوساط المهتمة بأمر الأديان والمجتمعات اليوم، سواءا كانت تلك الأوساط دينية عقائدية، أو كانت مادية إلحادية، أو أقرب لأحد الطرفين.. وهذه الورقة تستقي بالدرجة الأولى من هذه النظرة التي قدمها الأستاذ محمود، بفهمي الشخصي لها، وعليه فهي لن تكون في معظمها ورقة مدافعة عن أحد التيارات الكبيرة المعروفة اليوم في هذه القضية، بقدر ما هي تحاول إبانة جوانب من الفكرة التي استطاعت التوفيق السلس بين تلك التيارات، وربطها جميعا إلى جذر واحد وأصل واحد..
يقول الأستاذ محمود أيضا في كتابه"الرسالة الثانية من الإسلام"، في جانب من تلك النظرة التوفيقية، الآتي: "وكما أن الزمان، على كوكبنا هذا، يسير على رجلين، من ليل ونهار - ظلام ونور- وكما أن الإنسان يمشي على رجلين من شمال ويمين، فكذلك الحياة تتطور على رجلين من مادة وروح.. وعندما يقدم المجتمع البشري، في ترقيه، رجل المادة، ويثبتها، ويعتمد عليها، يكون في حالة تهيؤ ليقدم رجل الروح، وهو لا بد مقدمها، (كان على ربك حتما مقضيا.) ذلك بأن تقدم الحياة لا يقف إطلاقا، ولا يتأخر، ولا يكرر نفسه، وإنما يسير قدما في مدارج مراقيه، حيث تطلب الحياة أن تكون كاملة في الصور، كما هي كاملة في الجوهر. وهيهات!!"..
شخصيا، أرى أن الإتجاهين العامين اليوم (دينية ومادية) متزمتين، كلاهما، وعقائديين، كلاهما، ومشتطين، كلاهما.. والفرق الوحيد بينهما يظهر في جانب الشطط، فعندما اشتطت الإتجاهات الدينية نحو الغيبيات والتقديس البحت، اشتطت الإتجاهات المادية نحو المادية البحتة بصورة تقديسية للمادة في حد ذاتها..
وكليهما يعودان في شططهما بالنسبة لي إلى أصل واحد، هو محاولة تقييد المطلق.. فالمطلق، بشكل عام، موحش ومحير ومزعج للعقول بشكل كبير، لأنه يتحداها بشكل دائم ومستمر، ويعييها دوما دون أن تبلغ فيه مأربا ذي بال، مقارنة بما لم تبلغه.. لهذا أصبحت بعض العقول تحاول الإلتفاف والتحايل على المطلق! وهي في الواقع لا تتحايل إلا على نفسها.. أصبح البعض يقيد المطلق في صور عقائدية متصلبة، تدعي لنفسها الحق المطلق والمعرفة المطلقة في شتى الجوانب بشكل محسوم ولامجال فيه للنقاش.. وأصبح البعض، في الجانب الأخر، يحاول أن يضع المطلق تحت إمرة العقل، فيجعل العقل هو المقيم الأول والآخير لانعكاسات المطلق على البيئة المحيطة، بحيث يصبح المطلق نفسه لا وجود له –من الناحية الإعتبارية- خارج منطقة المادة، حيث يعمل العقل، هذا على الرغم من أن العقل نفسه لم يوجد قبل المادة، وإنما وجد بعدها، كما تقر الأديان وكما تقر الفلسفات المادية أيضا(وأكبرها الماركسية)، وهذه النظرة التقييدية للمطلق بالعقل، في تقديري لا تعدو كونها دينا جديدا وعقيدة جديدة، تسعى لتقييد المطلق أيضا كما التصورات الدينية العقائدية الغليظة، ولكن بطريقة مختلفة.. فالهدف واحد، والوسيلة تختلف..
والمطلق لم يكن يوما في متناول أيدي البشر، ولكنه كان دوما موجودا في الصورة كعامل محفز لزيادة المعرفة وزيادة الإلمام بطرف من الغيب لم يكن معلوما من قبل.. ببساطة، إلغاء وجود المطلق يقود إلى قفل باب المزيد من المعرفة والإدراك، فالكائن البشري بديهيا لن يعمل من أجل المزيد من المعرفة إذا لم يكن لديه إيمانا بأن هناك المزيد من المعرفة التي يمكن أن يتحصل عليها.. بدون هذا الإيمان لا يوجد حافز للبشر لأن يتعلموا أي جديد، وهذا الإيمان لن يعمل ولن يكون له وجود بطبيعة الحال إلا في منطقة المطلق، فإذا حاول البعض تقييد المطلق، فهم إنما يقيدون الإيمان، وتقييد الإيمان يعني تقييد البشرية عن المزيد من المعرفة والإدراك.. لهذا لا أفهم كيف يدعي البعض أنهم يؤسسون للمزيد من المعرفة الإنسانية في نفس الوقت الذي يقومون فيه بهدم مقومات هذه المعرفة!
ومن أعظم صور تقييد المطلق محاولة تقييد وإنكار تجارب الآخرين ورؤاهم، ومحاولة تفصيلها، قطعا ولزقا، لتواءم نظرتنا المسبقة للأمور، دون أن نعطيها الفرصة في أن تؤثر فينا أو تضع مجالا رحبا أمامنا للتفكير في ما نحمله من معتقدات مسبقة.. هذه الصورة من تقييد المطلق قام بها أهل التيارين المذكورين عاليه، فالعقائديون الدينيون ينسبون كل المنتوج الفكري لخصومهم على أنه مجرد خطرفات غير صحيحة، دون الإلتفات إلى ما عند خصومهم من دلائل مدعومة ومستساغة.. وكذلك يفعل الماديون عندما يحاولون قراءة المنتوجات التاريخية للحركات الدينية قراءة انتقائية لا تزيدهم إلا ارتياحا بقناعاتهم المسبقة بهيمنة المادة على الكائن البشري بشكل لا يملك معه فكاكا أو بصيص أمل بتكوين علاقة متجاوزة للمادة ومتعمقة في المطلق.. وكأن كلا الطرفين يستنكران على بعضهما أن يكون عند الآخر ما يمكن أن يضيفه لأخيه مما ليس في نطاق معرفته الحالية.. هنا تصبح القضية مجرد "مكابرة" نفوس متعنتة، وقاصرة عن شأو تلك المعرفة العظيمة التي تنتظر الطالبين لها..
في هذه الورقة، سأحاول تناول صورة من صور تقييد المطلق هذه، وردت في كتاب الدكتور سيد محمود القمني (الحزب الهاشمي).. وليس الغرض من هذه الورقة صب مجمل الكتاب في خانة "الخطأ" وإنما تقييمه بمعيار محايد قدر الإستطاعة، لنرى ما له وما عليه..