النذير العريان
في ذلك الوقت البعيد ، ومنذ فجر الحركة الوطنية ، فطن الجمهوريون الى طريق الهلكة الذي تنحدر فيه الحركة الوطنية على أيدي رجال المؤتمر والأحزاب ، فأطلقوا صيحة الحق داوية ، وقدّموا النذير العريان مبتدرين الدعوة ، والعمل لعزل الطائفية عن الحركة الوطنية ، ومؤكدين التوجه الى الشعب مباشرة ، لاستنهاضه حتى يمسك قضيته في يده ، فيكافح ، ويتحمل مسئولية تحرير نفسه ، فاذا تم له التحرر من الأستعمار ، وهو لابد تام ، كانت الحرية عزيزة لديه ، لايفّرط فيها أبدا ، ولايدع المجال لعابث ليعبث بها وقد تقدم الجمهوريون الصفوف في صدق ، وشجاعة ، وواجهوا الاستعمار ، فضربوا المثل الحي للثائر الذي لايضعف ، ولايهادن ولايساوم .. ومع أن الجمهوريين كانوا قلة ، قياسا بالأحزاب الأخرى ، الأمة ، والأشقاء ، وغيرهم الا أن مواقفهم الصامدة ، الشجاعة ، في مواجهة المستعمر ، كانت تثير الاعجاب ، وتلهب الحماس الوطني عند الشعب وقد دخل الأستاذ محمود محمد طه السجن ، كأول سجين سياسي ، في الحركة الوطنية في الأربعينات ، لرفضه التوقيع على تعّهد يمنعه نشاطه السياسي .. وفي داخل السجن كان الأستاذ يعصي ، ويخالف أوامر السجن ، نكاية بالمستعمر ، وتقليلا من شأنه ، وتصغيرا له . فكان يودع الزنزانة ، لأيام ، عقوبة على هذا العصيان ، وهذه المخالفات .. فتشيع أخباره خارج السجن ، فيتلقفها الشعب ، فتحرك فيه كوامن الوطنية والغيرة . لقد ضرب الجمهوريون -على قلة عددهم – مثلا فريدا في قوة المواجهة ، والشجاعة ، فكانوا يخطبون فى المساجد ، وفي المقاهي ، وفي الأندية .. ويقومون بتوزيع المنشورات التي تهاجم المستعمر ، على الشعب ، وحتى على المسئولين من الحكام الأنجليز.
ومن الوهلة الأولى اتجه الجمهوريون أيضا الى المذهبية ، فرشحوا الاسلام الواعي ، وكانوا يعيبون على الأحزاب تفريطها في المذهيبة ، وكانوا يحذّرون بأن عاقبة غياب المذهبية هي التخبّط بعد الاستقلال ، والسير في التيه ((فقد يخرج الانجليز غدا ، ثم لانجد أنفسنا أحرارا ، ولا مستقلين ، وانما متخبطين في فوضى مالها من قرار )) هكذا كانوا يقولون .. ذلك بأن الاستقلال ليس هو ((استبدال الانجليز بانجليز في أسلاخ سوداني)) ولقد وقع ماكان يخشاه الجمهوريون .. فجاءت تجارب الحكم ، نحوا من عشرين عاما ، كلها سير عشوائي متأرجح ، تارة الى اليمين ، وتارة الى اليسار .. والآن !! وبعد هذه التجارب المريرة ، والضياع الفادح الذي تحملّه الشعب من عرقه ، وشقائه ، وعلى حساب مستقبله – الآن !! وبعد هذا كله ، حصحص الحق ، وتبين أن الطريق الطويل هو الذي سلكه المتعجّلون الذين لامذهب لهم ، ولاأصاله – أولئك المثقفون الذين ارتضوا أن يسلمّوا زمامهم للطائفية وتأكد أن الطريق القريب ، حقا ، الموصّل الى حرية الشعب ، ورفاهيته ، هو طريق المذهيبة المستبصرة ، المحركة للشعب ، المجندة له ، ليخوض معركة حريته ، ومستقبله .. وذلك ماكانت الرؤية حياله واضحة ، تمام الوضوح ، لدي الجمهوريين فلم يلتفتوا عنه أبدا ، ولم يتقهقر خطوهم فيه .. ((انهم يرونه بعيدا ، ونراه قريبا ))
الميزان
لقد اتخذ الجمهوريون ميزان ((لا اله الا الله)) مقياسا يقيسون به كل ما يعرض لهم من المواقف ، ويقوّمون به التراث البشري ، من فلسفات ، ومذاهب ، فاستطاعوا ، بفضل الله ، ثم بفضل هذا الميزان الدقيق ، أن يقفوا دائما ، الموقف الوسط ، موقف الكتله الثالثة التي تطرح الطالح ، وتبقي على الصالح .. فهي من جانب قد أقرت الدراسة الاشتراكية ، واستبعدت ماشابها من التطبيق الديكتاتوري ، والاعتقاد الالحادي ، الذي شوهتها به الماركسية .. ومن جانب آخر أخذت هيكل الديمقراطية الغربية وتركت جانبا الاقتصاد الرأسمالي المزيف للديمقراطية .. وبذلك تأسست ركائز الكتلة الثالثة العالمية التي تقف موقف الحياد الايجابي بين الكتلتين : الشيوعية ، والرأسمالية ، ذلك بأنها تسد النقص في كليهما فينشأ عن ذلك النظام الديمقراطي الاشتراكي الذي يتطلع اليه الانسان المعاصر ، وتتطلع اليه الانسانية ليتوحد به العالم فكريا ، كما توحد مكانيا ، فيحل السلام ، والعدل ، والرخاء ، بين أفراده وأممه .. ولقد عجزت الماركسيه كما عجزت الرأسمالية الغربية عن أن تحقق هذا الحلم ، وما ينبغي لها أن تقدر على هذا التحقيق .. على هدي هذا الفهم كان نقد الجمهوريون لدعوة ماسمي بالحياد الايجابي ، والكتلة الثالثة ، التي تزّعمها نهرو وتيتو وجمال عبد الناصر .. فهي خديعة للشعوب ، وانصرافية عن الاتجاه الجاد .. ذلك بأن الحياد بين الكتلتين الشرقية والغربية ، يستحيل تحقيقه بغير مذهبية تعصم عن الانحياز ، وتصفّي في نهاية الأمر الكتلتين التقليديتين ، وماكان دعاة الحياد أولئك يملكون هذه المذهبية .