احكام الردة والإنكار على العارفين
انّ الإنكار على العارفين أمر عرفه التاريخ الإسلامي منذ الفتنة الكبرى، بل قبل ذلك، فقد روي انّ الصحابة قالوا لأبي هريرة ذات مرة (لقد أكثرت القول على رسول الله)، فكان أن ردّ عليهم ابو هريرة بقوله انّه كان يلازم النبي صلّى الله عليه وسلّم بجوع بطنه، في حين كان بقية الأصحاب يذهبون الى الأسواق طلبا للرزق الأمر الذي جعله يسمع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما لم يسمعوا.. ولقد عرف ابو هريرة الإنكار عند بعض الصحابة للقدر الذي جعله يقول: (حملت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعائين فأما الأول فبثثته، وامّا الثاني فلو بثثته لقطع منّي هذا الحلقوم!).. هذا فقط في مضمار ما سمعه ابو هريرة من النبي صلّى الله عليه وسلّم. فما بلك بمعرفة العارفين من سائر الناس، ممّن يعملون بجد واخلاص في الطريق النبوي ويجدون فيوضات المعارف ويحدثون الناس بما لا يعلمون!؟
انّ أحكام الرّدة انّما تمثل أسوأ وأبشع صور الإنكار على العارفين، ولقد اشتهر الفقهاء، عبر التاريخ الإسلامي، بالإنكار على أهل التصوّف، وما ذاك الاّ انّ الصوفية يعلمون من الدين ما يجهله أولئك الفقهاء فلا يجد هؤلاء الفقهاء شيئا سوى اعلان الاحكام بردتهم. فالفقهاء يعتقدون انّ الدين هو ما يعلمونه هم وذلك لفهم خاطيء وساذج للمعرفة في الدين، وللغفلة المطبقة التي تجيئهم من نقص التطبيق الصحيح للنهج النبوي، وهذا ما نحب لهذا الكتيب أن يتوّفر عليه، باذن الله...
الدين ليس معارف جاهزة
وانّما هو منهاج دائم لتحصيل المعرفة
انّ الدين، في حقيقته، انّما هو منهاج لتحصيل المعارف الإلهية، وذلك بمعنى انّ الشريعة انما هي نهج لترويض العقل ليعقل عن الله.. ومخطيء، خطأ شنيعا، من ظن انّ النبي قد ابلغ الناس كل ما وعي عن ربه.. ذلك امر يمتنع تماما، ونحن عندما نقول بذلك يدفع السلفيون في وجهنا بأن في ذلك اتهاما للنبي صلى الله عليه وسلّم بالكتمان.. وما الأمر كذلك بطبيعة الحال.. فالنبي قد جاء بالقرآن الذي حوى كل شيء (ما فرطنا في الكتاب من شيء).. وفصّل من القرآن في النهج، في الشريعة، وفي الطريقة، ما به تطّرد المعرفة بالله، وما به تجيء الزيادة المستمرة.. وقال هو في هذا الشأن: (انما انا قاسم، والله يعطي، ومن يرد به الله خيرا يفقه في الدين).. وقوله (والله يعطي)، انّما يعني انّ الله يعطي الحقيقة.. وقوله: (ومن يرد به الله خيرا يفقهه في الدين) لا تعني الفقه بالمعنى الشائع عند الفقهاء، وانّما تعني التفقّه في دقائق المعاني، في التوحيد، ومعرفة اسرار الألوهية.. ولقد اشرنا نحن من قبل كثيرا في كتاباتنا الى الآية القرآنية: (لا تحرّك به لسانك لتعجل به، انّ علينا جمعه وقرآنه، فاذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم انّ علينا بيانه) .. وقلنا أنّ بيان القرآن ليس كله على النبي صلّى الله عليه وسلّم.. فهو مأمور ببيان الشريعة منه.. امّا معاني القرآن، والتي لا تنفد، ولا يقع الفراغ من بيانها، في يوم من الأيام، لكون القرآن انّما يمثل علم الله المطلق، فانّما هو على الله.. وذلك بنص القرآن (ثم أنّ علينا بيانه).. وذلك لسبب بسيط، وهو انّ الزمن انّما يمثل بعدا من ابعاد الفهم بما يهيء من استعداد له لدى الناس على غرار الآية: (سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق!! أولم يكف بربك انك على كل شيء شهيد!!) .. فليس في الأمر اتهام للنبي بالكتمان – حاشا لله – وانّما الأمر في عمق الفهم وفي معرفة الله تعالى، ولكن الفقهاء عندما يعييهم الفهم، وتضيق بهم السبل يتجهون الى مثل هذه المناحي الساذجة، من كيل للإتهامات الباطلة، وخوض في دقائق التوحيد بمثل هذه الجهالات..