إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الفكرة الجمهورية هي الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم
(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟!)
صدق الله العظيم..


المقدمة


لقد تعوّدنا، ولسنوات خلت أن نخرج للناس في مثل هذا الوقت، من كل عام، كتيبا، في استثمار ما أسميناه (مهزلة محكمة الردة)، وذلك في مضمار التوعية الدينية، التي تضطلع بها (الدعوة الإسلامية الجديدة)، في مجال الدعوة لبعث الإسلام.. ونحن نرى أنّه قد كان لنا ممّا أوردناه في هذا النحو، الكثير، حتى انّنا نعتبر أن (محكمة الردة) لم تكن سوى هدية ساقتها الينا يد العناية لتعجم بها عودنا في المقام الأول، ثم لتعطي شعبنا الفرصة ليدرك مدى ما كان مقبلا عليه من جهل ومن ظلام، ومن عسف، ومن بطش، لو قدّر للطائفية، ولمن يسموّن برجال الدين، أن يصلوا الى دست السلطة في هذه البلاد.. ولقد جرت كل هذه الأمور على مدى الأربعة عشر عاما التي انصرمت بيننا وبين انعقاد تلك المهزلة، على نحو، كان ولا يزال غاية في السلاسة، وفي السرعة.. والحق يقال فإنّ الثامن عشر من نوفمبر من عام 1968 قد أرّخ بداية العد التنازلي للهيبة الزائفة لمن يسمّون برجال الدين.. وسنوالي، نحن، بعون الله وبتوفيقه مجهوداتنا في هذا المضمار للقضاء على البقية الباقية منها، حتى يرد الناس موارد الدين الحق، وحتى تتحرّر العقول من تكبيل هؤلاء الرجال لها وتحجرهم عليها .. فلقد اعطت ظروف تخلّف المسلمين ونصولهم عن دينهم، هؤلاء النفر وضعا من الوصاية على الناس ما كان ينبغي لهم وبخاصة في وقتنا الراهن هذا، حيث أصبحت كل الأمور التي كانت، فيما مضى، مسلمّا بها، مجالا للبحث، وللدراسة، وللإستقصاء..
نحن نحب للمسلمين أن ينهضوا من سباتهم الراهن، ونرى أنّ أول أمر يجب ان يقوموا به، في هذا المضمار، انّما هو التخلّص من القداسة الزائفة لرجال الدين، التي جعلت من الدين حكرا لهؤلاء الرجال، وجمّدت ملكات، وطاقات، المثقفين، وجعلت من الثقافة، ومن الدين، مجالين منفصلين، للقدر الذي أصبح به المثقفون يتخلّون عن قناعاتهم الراسخة، ان هي اصطدمت بجهل رجال الدين، الذي اصبح محسوبا على الدين!! بل اصبح هو الدين عينه!! ونحن نرى أن أقوى دليل يمكنّا أن نسوقه في هذا الصدد انّما هو أمر (محكمة الردة) التي نحن الآن بصدد الإحتفال بذكراها الرابعة عشر، فقد ربكت هذه المهزلة الكثير من المثقفين فلم يبرز في مواجهتها، في وقتها من غير الجمهوريين سوى قلّة من المثقفين من القانونيين وغيرهم، وما ذاك الاّ لأن المثقفين يتهيبون أمر الدين، ويعتبرونه تخصصا لدى من يطيب لهم أن يسموا برجال الدين، كسائر التخصصات الأخرى.. بل أن بعض المثقفين لا يزال يعتقد انّه كان علينا أن نحضر تلك المهزلة، بل وان نستأنف حكمها!! يجي هذا في الوقت الذي كان فيه الأمر واضحا عندنا للغاية، اذ ليس لمحكمة حق في زماننا هذا شرعية، كما يزعمونها، كانت أم مدنية، أن تجلس لتصدر احكاما بكفر هذا، أو ذاك، أو بصحة عقيدة فلان، أو فسادها، يضاف الى كل أولئك أن قانون انشاء المحاكم الشرعية نفسه، ينص على أنّها محاكم محددة الإختصاص في مجال الأحوال الشخصية للمسلمين، فيما يخص أمور الزواج، والطلاق، والإرث، والنفقة، وهي حتى في هذا المجال، انما تعمل تحت سلطة القانون المدني العلماني..
ولا نخال أن مثقفا يستحق هذا اللقب، يشك في أنّ مهزلة محكمة الردة ليست الاّ صورة لما سميّ في الماضي بمحاكم التفتيش وبما سمّي ايضا بفرمانات البابوات التكفيرية، وهي صور قد خلّفتها الإنسانية، منذ أن خلّفت وراء ظهرها ظلام العصور الوسطى، وجهالاتها.. ونحن لا نشك أن المثقفين لا بد، وقد اطّلعوا فيما قرأوا من التاريخ، على الكثير من محاكمات التكفير هذه في التاريخ الإسلامي، وفي التاريخ المسيحي، سواء بسواء، وكيف أنّ التاريخ قد أنصف بل أضفى هالات من الشرف، والفخار، على الكثيرين من ضحايا مثل تلك المحاكمات الجاهلة، ولكن الأمر عندما برز لمثقفينا في المجال العملي، وفي مثل عصرنا هذا، ارتبكوا بمثل تلك الصورة السالفة الذكر.. وما ذاك الاّ لأن هذا الجهل قد التحف قداسة الدين، واصبحت مواجهته تقتضي حزما وصلابة، ومسئولية، وتقتضي قبل كل أولئك وضوحا في الرؤية يعطي صاحبه نصاع الحجة، وقوة الموقف...
ونحن برفعنا لمهزلة محكمة الردة الى هذا المستوى من حيث الإهتمام بها، انّما نريد أن نعيد الأمور الى نصابها بنزع الهيبة الزائفة ممّن يسمون برجال الدين، حتى ينفتح الباب للتفكير الحر، وتزول الجفوة القائمة، جهلا بين الثقافة وبين الدين.. ونحن لا نرى للمثقفين عندنا فرصة لأن يكونوا مثقفين حقيقيين، ملتزمين مسئولية الثقافة، الاّ ان هم جاءوا الى الدين، وسحبوا البساط من تحت اقدام من يسمّون (برجال الدين)