شمال السودان وجنوبه
السودان قطر شاسع، يمتد شمالاً وجنوباً على طور 1250 ميل، ويمتد شرقاً، وغرباً 1000 ميل، وطول حدوده 4500 ميل، وهو يحادد تسع دول، ومساحته مليون ميل مربع، أي حوالي 616 مليون فدان، وهي رقعة ذات خصائص طبيعية ومناخية متباينة.. وحوالي 450 ميلاً من حدود السودان تقع على ساحل البحر الأحمر من جهة الشرق.. ونهر النيل بفروعه المختلفة هو الشريان الذي يربط بين شمال السودان وجنوبه.. وتعداد السودان اليوم ربما يزيد على السبعة عشر مليون، موزعين على هذه الرقعة الشاسعة من الأرض، وقد كان التعداد عند الاستقلال أكثر من عشرة مليون ومائتي ألف..
ولعدة اعتبارات موضوعية أصبح ينظر إلى السودان على أساس أنه مكون من جزئين، هما شمال السودان وجنوبه.. وهذه الاعتبارات هي اعتبارات طبيعية جغرافية، متعلقة بطبيعة الأرض والمناخ.. فشمال السودان بصورة عامة هو منطقة سافنا ومنطقة صحراوية، في حين أن الجنوب، بصورة عامة، هو منطقة استوائية.. وطبيعي أن ينعكس هذا الاختلاف في البيئة على حياة المواطنين في الإقليمين.. كما أن هناك اختلافاً بين الشمال والجنوب في طبيعة السكان والنواحي السلالية، وفي النواحي الدينية والثقافية إلى جانب بعض الاختلافات الإدارية والسياسية التي تمت في بعض مراحل التاريخ.. وهذه الاختلافات، التي عمل الاستعمار الإنجليزي على تعميقها، حتى تصبح سبباً للصراع والعداوة بين أبناء البلد الواحد، هذه الخلافات هي التي تشكل الجذور الأساسية لمشكلة الجنوب.
والمجتمع السوداني في الشمال وفي الجنوب هو مجتمع قبلي زراعي رعوي، كان ولا يزال كذلك.
أصايل الطبائع
إن المجتمع القبلي في شمال السودان وجنوبه، مجتمع تقوم حياة المواطنين فيه على قيم الفروسية، من شجاعة، ومروءة، وصبر، وكرم، وعفة، إلى آخر هذه الفضائل السلوكية التي توجه حياة المواطنين في السودان، وهي فضائل وثيقة الصلة بالمجتمعات القبلية.. وهذه الفضائل منتشرة في الشمال، وفي الجنوب، على تفاوت بينهما في ذلك.. وحياة المواطنين في كلا الإقليمين حياة بسيطة، ومتقشفة، وقليلة المطالب المادية..
ولقد لعب التصوف الإسلامي، في شمال السودان، دوراً كبيراً في تعميق، وتأصيل، وتنمية، وتهذيب، قيم الفروسية هذه، إذ أعطاها محتوى دينياً ربطها بالغيب، وجعل لها منهاجاً عملياً يعين على تنميتها وصقلها، لتصبح في اتجاه خلاصة القيم الإنسانية الرفيعة التي جاءت أديان السماء لتحقيقها.. وهكذا فإن التصوف وقيم الفروسية الموروثة من المجتمعات القبلية هما اللذان حفظا على المجتمع السوداني أصايل الطبائع، وهي طبائع لم تتأثر كثيراً بتيارات خارجية، ولذلك هي لا تزال في جوهرها باقية..
وقد انتشر التصوف في السودان على عهد الفونج انتشارا كبيراً حتى أصبح هو الطابع العام للتدين في جميع أنحاء البلاد.. وقد أثرى الواقع الإفريقي في السودان، التصوف الإسلامي، فجعل له نكهة خاصة، فهو قد أمه ببعض القيم الأصيلة، مثل العاطفة القوية المتأججة، والحس الفني، الذي جعل المواطنين كلفين بالموسيقى والرقص، حتى أنهم أدخلوهما في العمل الديني، في شكل الأذكار الصوفية والطبول، والنوبات، والآلات الأخرى، التي تصحب هذه الأذكار.. وقد جذب ذلك المواطنين للدين، وساعد على انتشاره، وساعد على تعميق، وتأصيل، القيم الدينية، والحس الديني..
والمواطنون في جنوب السودان، إلى جانب قوة العاطفة، والكلف بالفن، وهي خصائص أفريقية أصيلة، هم يمتازون بتعلق شديد بالدين، والنواحي الروحية.. فهم، كما هو الشأن عند الإنسان البدائي بصورة عامة، يعتبرون لكل شيء روحاً، وينطلقون، وفي معظم تصرفات سلوكهم اليومي، من اعتبارات روحية ودينية، وهم كوثنين أساساً، يقيمون الشعائر الدينية لمختلف المظاهر الطبيعية، ولهم اهتمامات كبيرة بأرواح الآباء.. وهم يؤمنون بإله واحد، يسمونه بأسماء تختلف من قبيلة لأخرى، وبعض الجنوبين يعتقدون أن أرواح السلف تحل في زعمائهم الدينين (الكجور).. والكجور يلعب دوراً هاماً في حياة المواطنين.. خلاصة الأمر أن للجنوبيين استعدادا طبيعياً للتدين، وتعلقاً كبيراً بالقيم الروحية..
وقيم الفروسية هذه التي أشرنا إليها، والقيم الدينية والروحية السائدة في شمال السودان وجنوبه، إلى جانب الحياة البسيطة، القريبة للطبيعة والفطرة، كل هذه الخصائص، هي العناصر الإيجابية التي بتهذيبها وتنميتها يتم تجاوز الخلافات، ويتم الانصهار في بوتقة واحدة هي القومية السودانية، وبذلك يتم الحل الحضاري الجذري لمشكلة الجنوب، بل إن هذه الخصائص الأصيلة هي التي ترشح السودان ليلعب الدور الطليعي في مستقبل الحضارة الإنسانية، بالصورة التي أشرنا إليها في البشارة التي أوردناها.