الجذور التاريخية لمشكلة الجنوب
فترة ما قبل الحكم الثنائي
أفريقيا والسودان
إن أفريقيا هي القارة البكر، التي لم تتفجر طاقاتها البشرية والطبيعية بعد.. فهي أقل القارات تحضراً، وقد كانت تسمى القارة المظلمة.. وقد بدأت أفريقيا الآن تتحرك حركة نشطة، في اتجاه التقدم، والتحرر.. وقد جاء تحرر أفريقيا هذا في وقت يمر فيه العالم أجمع بمنعطف حضاري كبير، فقد فشلت الحضارة الغربية المادية القائمة الآن، في استيعاب وتوجيه طاقات الحياة المعاصرة، وتتويج تطور الحضارة البشرية بإقامة مجتمع السلام والرخاء، الأمر الذي يؤذن بميلاد مدنية حديدة، تقوم بتحقيق ما فشلت الحضارة الغربية في القيام به.. ونحن نعتقد أن أفريقيا ستكون هي صاحبة هذا الدور، في إعطاء العالم هذه المدنية الجديدة التي تتطلع إليها..
فلقد كانت أفريقيا هي الموطن الأول للإنسان، فيها ظهرت حياته في البدء، في مرحلته البشرية.. وستكون أفريقيا هي الموطن الأول أيضاً للإنسان، في مرحلته الثانية، مرحلة (الإنسانية)، التي يرتفع بها عن مرتبة البشرية الحاضرة، فيقيم مدنية السلام والرخاء والمحبة التي تسود جميع بقاع الأرض..
والسودان يقع من أفريقيا موقع القلب، وذلك من حيث الشكل، ومن حيث المعنى.. وفي السودان تلتقي الطاقات، والخصائص البشرية، والطبيعية، البكر، والتي بتفجيرها، يتم افتتاح عهد المدنية الجديدة، مدنية السلام، وسيادة القيم الإنسانية الرفيعة، تلك المدنية التي قلنا ان افريقيا هي موطنها.. والسودان يمثل أفريقيا بصورة كبيرة فهو، في شماله، وفي جنوبه، تكاد تجتمع فيه جميع الخصائص السلالية والطبيعية، لشمال القارة الأفريقية وجنوبها.. والمشاكل التي ظلت تواجه السودان، وعلى رأسها مشكلة الجنوب، انما هي المحك، والتحدي، الذي يمخض الخصائص الأصيلة، ويفجر الطاقات الكامنة.. ولذلك فإن هذا التأخر في الأخذ بأسباب الحضارة الغربية، وهذه المشاكل التي تحتوش البلاد، انما هي في الحقيقة نعمة، وهي لخير أريد بهذه البلاد، فهي قد حفظت لتقوم بالدور التاريخي المنتظر لها القيام به في بناء الحضارة الإنسانية الجديدة.. وفي عبارات للأستاذ محمود محمد طه، كتبت في يناير 1951، في التبشير بالدور العظيم الذي ينتظر للسودان أن يقوم به، جاء قوله: (أنا زعيم بأن الإسلام هو قبلة العالم منذ اليوم.. وأن القرآن هو قانونه.. وأن السودان، إذ يقدم ذلك القانون في صورته العملية، المحققة للتوفيق بين حاجة الجماعة إلى الأمن، وحاجة الفرد إلى الحرية المطلقة، هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب.. ولا يهولن أحدا هذا القول، لكون السودان جاهلا، خاملا، صغيرا، فإن عناية الله قد حفظت على أهله من أصايل الطبائع ما سيجعلهم نقطة التقاء أسباب الأرض، بأسباب السماء..).. وهذه البشارة قد جاءت في نفس المعني الذي جاءت فيه بشارة النبي الكريم حيث قال في تفسير الآية: (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين): (يا عمر تعال فاسمع ما قد أنزل الله، ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، الا وأن من آدم الي ثلة وأمتي ثلة، ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الأبل ممن شهد الا إله الا الله وحده لا شريك له) – راجع تفسير ابن كثير، سورة الواقعة -
فالمدنية الجديدة التي يقدمها السودان للإنسانية هي مدنية السلام، مدنية الإسلام، في مستوى أصوله، مستوى السنة، والتي بها يرجع الناس، كل الناس، إلى أصل الفطرة السليمة.. فالإسلام في هذا المستوى هو دين الفطرة.. وهذا الدور الحضاري المنتظر للسودان هو وثيق الصلة بمشكلة الجنوب، التي نحن بصددها، إذ أنها التحدي العملي، الأساسي، الذي يؤدي إلى إبراز هذا الدور.. ولذلك فإن هذه المشكلة هي في حقيقتها ليست مجرد مشكلة سياسية، وإنما هي مشكلة حضارية تتداخل فيها النواحي السياسية، والاقتصادية، مع النواحي الدينية، والعرقية، والثقافية..