بسم الله الرحمن الرحيم
(يأيها الناس!! إنا خلقناكم من ذكرٍ، وأنثى، وجعلناكم شعوباً، وقبائل، لتعارفوا، إن أكرمكم، عند الله، أتقاكم.. إن الله عليم خبير..)
صدق الله العظيم
المقدمة
هذا كتاب نصدره عن مشكلة الجنوب.. ومشكلة الجنوب هي أكبر مشكلة واجهت السودان منذ استقلاله، وهي قد ظلت التحدي الأساسي الذي يواجه جميع حكومات العهد الوطني.. وهي مشكلة لها جذورها في التاريخ ولكن الاستعمار الإنجليزي قد عمقها، وأرثها لترثها أنظمة الحكم الوطني من بعده.. وقد استغل الإنجليز في صنعهم لمشكلة الجنوب، الاختلافات العنصرية والدينية، والثقافية، القائمة بين شمال السودان وجنوبه، وهم قد عمقوا هذه الاختلافات، وجعلوا منها سبباً للعداوة والصراع بالصورة التي أدت إلى تفجير المشكلة حتى إنها أدت إلى حرب أهلية طويلة.. ونحن لا نلوم الاستعمار الإنجليزي وحده في قيام، وتصاعد هذه المشكلة، فالأحزاب السياسية، وأنظمة الحكم الوطنية، هي أيضاً مسئولة.. فقد كانت أحزابنا السياسية التي تولت الحكم بعد خروج الاستعمار، أحزاباً طائفية، لا تملك مذهبية ترشد عملها السياسي، ولم تكن تلك الأحزاب على قدر من الوعي ومن المسئولية يعينها على تفهم أبعاد مشكلة الجنوب، والعمل على حلها، وقد فشلت تلك الأحزاب والحكومات التي قامت على أساسها، في حل مشاكل البلاد السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وجمدت وعي الشعب.. ولذلك فإن هذه الأحزاب، وهذه الحكومات، وقد فشلت في حل مشكلة الشمال، ما كان لها أن تستطيع حل مشكلة الجنوب.. فتفاقمت المشكلة، وزادت حدة، خصوصاً على عهد الحكم العسكري الذي قام في البلاد في نوفمبر 1958.. وأخيراً وجدت مشكلة الجنوب حلها السياسي في اتفاقية أديس أبابا 1972 على عهد ثورة مايو، وتم بذلك إنجاز كبير أوقف الحرب الأهلية، وأوقف نزيف الدم في الجنوب، ولا تزال أسباب العداوة والصراع، موجودة داخل النفوس، ولا يزال عدم الثقة الذي خلفته التجربة الطويلة والمريرة هو الغالب.. فليس من طبائع الأشياء أن تتغير النفوس لمجرد الوصول إلى حلول سياسية وقانونية!!
ولذلك هنالك الكثير من العمل الجاد الذي ينتظر كلا الشماليين والجنوبيين ليقوموا به، حتى يتأمن الحل السياسي، وتتوفر الثقة المفقودة، ويتم بناء القومية السودانية على أسس ثابته تقوم على وعي وتربية المواطنين بالصورة التي لا تجعلهم يرون في الاختلاف، مدعاة للصراع والخلاف.. أما دون هذا المستوى فإن النكسات ليست بمستبعدة.. بل إن المشكلة قد بدأت بالفعل تطل برأسها من جديد، خصوصاً بعد إثارة موضوع تقسيم الجنوب، الذي أصبح عليه اختلاف بين الجنوبيين، وهو موضوع لا يزال ينتظر الحل..
إن مشكلة الجنوب، في حقيقتها، إنما هي مشكلة حضارية.. وهي في ذلك نموذج للمشاكل الموجودة في عديد المناطق، في عالمنا اليوم.. فقد ظلت الاختلافات في العقيدة، أو العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو الثقافة، تشكل الأسباب الأساسية للصراع بين البشر عبر تاريخ البشر.. وإنما كان ذلك كذلك بسبب القصور، وقلة الوعي، والبعد عن القيم الإنسانية.. وعندما تأتي مرحلة الرشد، والمسئولية تتوكد القيم الإنسانية، ويلتقي الناس فيما يجمع بينهم، وليس فيما يفرقهم ـ يلتقون في العقل، والقلب، أو قل في الفكر والخلق، ويصبح كل فرد بشري هو غاية في ذاته، وتوظف كل الوسائل لتحقيق إنسانية الإنسان، وتزول كل أسباب الخلاف، والصراع، القديمة.. وعند هذه المرحلة ستكون الاختلافات الطبيعية بين البشر، هي من أهم أسباب إثراء الحياة، وإخصابها، وذلك باستثمار، وتوظيف، الملكات، والخصائص، والمواهب، المختلفة لخدمة أغراض الحياة الإنسانية الراقية التي لا تقر الاختلاف بين البشر فحسب، بل وتعين كل فرد بشري على تحقيق فرديته التي ينماز بها عن الآخرين، ثم لا يكون هناك تمييز ضد أحد، إنما جميع الناس سواسية أمام القانون، وفي الحقوق والواجبات، وفي نظرة المجتمع، تلك النظرة التي تقوم على الرأي العام السمح الذي لا يضيق بالاختلاف والتمايز..
هذا المستوى الحضاري هو ما ندعو إليه نحن، ونعمل على تحقيقه، وهو ما نعتقد أن مشكلة الجنوب، وجميع مشاكل الحياة المعاصرة ستجد حلها النهائي فيه..
ونحن في هذا الكتاب سنؤرخ بصورة موجزة لمشكلة الجنوب فنوضح اصولها، وملابساتها، ومراحل تطورها، حتى وقتنا الحاضر.. ثم نوضع موقفنا نحن من هذه المشكلة، من الناحية السياسية، التاريخية، ومن الناحية الفكرية.. فالمشكلة كانت أكبر تحدّ واجه التنظيمات، والأحزاب السياسية، التي تصدت للعمل العام في بلادنا، وهي لا تزال كذلك، بصورة خاصة لأصحاب المذهبيات، ولذلك سنوضح موقفنا نحن كدعاة إسلاميين منها. ولإتاحة الفرصة للمقارنة، سنتحدث عن موقف الدعاة الإسلاميين السلفيين، من المشكلة، وذلك من خلال إبراز موقف تنظيم الأخوان المسلمين، كتنظيم يمثل الفكر الإسلامي السلفي.