إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

جنوب السودان
المشكلة!! والحل!!

موقف الجمهوريين من مشكلة الجنوب


نحن هنا سنبين الموقف السياسي والفكري للجمهوريين من مشكلة الجنوب، ويهمنا، بصورة خاصة، ان نبرز الحل الحضاري الذي يقدمه الجمهوريون لهذه المشكلة.. هذا الحل الذي هو الحل النهائي لها، وهو، في نفس الوقت، الحل الذي يقدمه الجمهوريون لمشاكل الإنسانية المعاصرة، والتي ما مشكلة الجنوب الا صورة مصغرة لها.. فنحن نري أن: (المشاكل الراهنة لأي بلد من البلاد هي، في حقيقتها، صورة لمشاكل الجنس البشري برمته، وهي، في أسها، مشكلة السلام على هذا الكوكب الذي نعيش فيه، ولذلك فقد وجب ان يتجه كل بلد الي حل مشاكله على نحو يسير في نفس الاتجاه الذي بمواصلته تحقق الإنسانية الحكومة العالمية، التي توحد ادارة كوكبنا هذا وتقيم علائق الأمم فيه على القانون، بدل الدبلوماسية، والمعاهدات، فتحل فيه بذلك النظام والسلام) – من الديباجة لكتاب (أسس دستور السودان لقيام حكومة فدرالية ديمقراطية اشتراكية)، للأستاذ محمود محمد طه، الصادر في 1955 –

الموقف السياسي


لقد نشأ الحزب الجمهوري في اكتوبر 1945 برئاسة الأستاذ محمود محمد طه.. وهو أول حزب سوداني ينشأ خارج المؤسسة الطائفية، وهو الحزب الوحيد الذي كان يدعو الي قيام حكومة جمهورية في السودان في ذلك الوقت، اذ أن بقية الأحزاب كانت تري أن يكون نظام الحكم في السودان نظاما ملكيا.. وقد جاء في دستور الحزب الجمهوري عند نشأته، أن غرضه هو (قيام حكومة سودانية جمهورية ديمقراطية حرة مع المحافظة على السودان بكامل حدوده الجغرافية القائمة الآن).
وفي الوقت الذي اتجهت فيه الأحزاب الأخرى في تعاملها مع الاستعمار الانجليزي الي اسلوب المذكرات والمفاوضات، اتجه الحزب الجمهوري الي توعية الشعب واثارة حماسه ضد الانجليز، فاتجه الجمهوريون الي اسلوب المناجزة المباشرة للإنجليز عن طريق الخطابة، وكتابة المنشورات، التي تخاطب الشعب.. وقد نعي الجمهوريون على الأحزاب الأخرى اسلوبها في التعامل مع الاستعمار.. فقد جاء في كتاب (السفر الأول) والذي أخرجه الجمهوريون في 26 أكتوبر 1945 ما نصه: (لماذا، عندما ولدت الحركة السياسية في المؤتمر، اتجهت إلى الحكومة تقدم لها المذكرات ولم تتجه إلى الشعب، تجمعه، وتثيره لقضيته؟؟ ولماذا قامت عندنا الأحزاب أولاً، ثم جاءت مبادؤها أخيراً؟؟) (والجواب قريب: هو انعدام الذهن الحر، المفكر، تفكيراً دقيقا)..
وهكذا اتجه الجمهوريون في البداية الي ملء فراغ الحماس الوطني، وكانت سياسة الاستعمار الانجليزي تجاه الجنوب من أكبر ما استغله الجمهوريون في خطبهم وكتاباتهم ضد الاستعمار ولإثارة حماس المواطنين.. وكان مما جاء عن مشكلة الجنوب في منشورات الجمهوريين آنذاك، قولهم: (ما سكوتكم عن الجنوب أيها السودانيون- ما سكوتكم!؟ تعالوا فأتركوا هذا العبث السخيف – هذه المذكرات والوثائق – هذا التحالف والاتحاد – وواجهوا الحقائق المرة، فالجنوب هو مشكلتنا الأولي، والسكوت عنه مزر بكرامة السودانيين أبلغ الزراية.) (ان سكوتكم عن الجنوب أيها السودانيون لييئس منكم الولي، ويطمع فيكم العدو.. الجنوب أرضكم.. الجنوبيون أهلكم.. فان كنتم عن أرضكم وأهلكم لا تدافعون فعمّن تدافعون؟).. وفي منشور آخر للجمهوريين صدر في 11/2/1946، كشفوا أبعاد المخطط الانجليزي في الجنوب، ووضحوا أهداف هذا المخطط، وما يمكن ان يؤدي اليه، إذا تم السكوت عليه.. ونحن هنا سنورد بعض المقتطفات من هذا المنشور فقد جاء فيه: (هذا بيان الحزب الجمهوري للناس، وهو نذير من النذر الأولي، وستليه أخر، ترمي بالشرر وتضطرم بالنار وتتنزي بالدم. فان مسألة الجنوب لا يمكن الصبر عليها أو الصبر عنها، وان الانجليز ليبيتون له أمرا، ولئن لم نحتفظ نحن اليوم بالجنوب احتفاظ الرجال لنبكينه غدا بكاء النساء..
أيها السودانيون لماذا يقفل الجنوب في وجه الشمال وتفتح أبوابه لكل دخيل جشع ونازح أفاق؟! أهي الشفقة بأهل الشمال أم الرأفة بأهل الجنوب؟! وما سكوتكم على مسألة الجنوب على هذا النحو المزري؟؟ ولماذا هذه المرونة التي لا تتفق وكرامة الرجال؟؟).. (أيها السودانيون ان حكومة السودان ظلت تضرب على السياسة الانجليزية العتيقة، وتردد نغمتها البالية، نغمة "فرق تسد"، وان وراء قفل الجنوب واتجاهه التعليمي وسياسة التبشير هناك لخطة تبيت لفصل الجنوب عن الشمال، وليس يوم الفصل ببعيد – وسوف تعضون آنذاك بنان الندم عندما يطالب الجنوبيون بالانفصال مدفوعين بقوة ايحاء السياسة الانجليزية).. وقد رأينا كيف أن الجنوبيين فيما بعد قد طالبوا بالانفصال!! ويواصل المنشور فيقول: (أيها السودانيون ان التبشير قد أفسد عليكم الجنوب فأوغر منه الصدور، وأثار الحفيظة، وأذكي نار الشر والتفرقة والقطيعة.. وان قفل الجنوب قد مكن لتلك الحيات الرقطاء المتدثرة بثياب الأكليريوس من نفث سمومها والتشفي من دينكم وكتابكم ونبيكم..).. (أيها السودانيون هل تعلمون ان تلك الحيات الرقطاء تعان بستة عشر ألفا من الجنيهات سنويا من المال المتحصل عليه من الشمال!! وهل تعلمون أننا نعين تلك الحيات الرقطاء على تحقير ديننا وكتابنا بستة عشر ألفا من الجنيهات!؟
أيها السودانيون ان الجنوب لم يقفل في وجه الشمال الا تمكينا لسياسة فرق تسد، وان الانجليز ليضربون تلك السدود في وجه الشماليين لئلا يمكنوهم من دحض مفتريات القسس والساسة الانجليز – فلا تغرنكم اذن كلمات الساسة الرسميين عن حسن نيتهم تجاه الجنوب – ولتخسأ تلك السياسة التي تركت اخواننا الجنوبيين يعيشون في القرن العشرين حفاة عراة مراضا جياعا بمعزل عنا.
أيها السودانيون ان الانجليز ليرمون الي جعل الجنوب مهجرا بريطانيا ومزارع بريطانية على غرار كينيا ويوغندا ولكن الحزب الجمهوري الذي يسعي الي تحقيق وحدة السودان، أولا وقبل كل شيء، يقف اليوم أمام صخرة الجنوب وقد عقد النية على ازالتها عن طريق الوحدة بالغة ما بلغ أمرها ونحن اذ ننوء بأعباء هذا الطريق الوعر ليس لنا من عتاد غير الشعب السوداني اليه نتجه وبه نهيب وله ندعو بالهداية الي صوت الحق من بين هذا النقيق الذي يزحم الأفق.)..
هذا نموذج للمنشورات التي كان يصدرها الحزب الجمهوري عن السياسة الانجليزية نحو الجنوب، بغرض كشف هذه السياسة، واثارة، وتوعية، المواطنين ضد الاستعمار الانجليزي.. وقد كانت رؤية الجمهوريين واضحة، فهم لم يغب عنهم الغرض الحقيقي لسياسة الانجليز تجاه الجنوب.. هذا مع أن أغراض تلك السياسة في ذلك التاريخ قد كانت سرية، ولم يكشف عنها الا بعد خروج الانجليز من السودان، وبعد السماح للمؤرخين باستخدام الوثائق الرسمية للحكم الثنائي في السودان..
وكنموذج لخطابة الجمهوريين عن الجنوب، نورد هنا هذا الخبر الذي أوردته جريدة الرأي العام، في عدد بتاريخ 6/6/1946.. فقد جاء فيه: (القى الأستاذ أمين محمد صديق سكرتير الحزب الجمهوري خطابا عاما أمس الاول عن الجنوب في الخرطوم بحري في جمهور كبير أمام السينما الوطنية، وأعاد القاءه مرة أخرى في نفس الليلة في مكان آخر في الخرطوم بحري، وقد استدعاه البوليس هذا الصباح وحقق معه فاعترف بكل ما حصل وزاد بأن هذا جزء من خطط كبيرة ينفذها الحزب الجمهوري)