الأخوان المسلمون ومشكلة الجنوب
نحن سنتناول موقف الاخوان المسلمين من مشكلة الجنوب من جانبين، الجانب السياسي والجانب الفكري.. فأما بالنسبة للجانب السياسي، فلم يكن للإخوان المسلمين وجود يذكر في السودان قبل الخمسينيات.. فقد نشأت حركة الأخوان المسلمين في مصر على يد الشيخ حسن البنا.. وبحكم الاتصال الثقافي، والسياسي، بين مصر والسودان بدأت هذه الحركة تظهر في السودان بين الطلاب، فحتي بداية الخمسينات كان نشاط الأخوان المسلمين في السودان محصورا في نطاق الطلاب، ولذلك هم لم يشاركوا في الحركة الوطنية كتنظيم سياسي، ولم يكن لهم موقف من السياسة الانجليزية تجاه جنوب السودان..
لم يظهر الأخوان المسلمون في العمل العام، بصورة واضحة، الا بعد ثورة اكتوبر 1964م.. فبعد ثورة اكتوبر اشترك الاخوان المسلمون في حكومة السيد سر الختم الخليفة الانتقالية.. وعندما تآمرت الاحزاب التقليدية على حكومة اكتوبر، وأطاحت بها، كانوا هم ضمن تلك الاحزاب المتآمرة.. وقد كونوا لهم تنظيما اسموه (جبهة الميثاق الإسلامي)، وكان الغرض من تكوين هذا التنظيم، هو استغلال الإسلام لكسب المزيد من المؤيدين، عن طريق ضم فئات أخري إليهم..
وقد اشترك الاخوان المسلمون مع الأحزاب الأخرى في مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب، وقد رأينا كيف ان ذلك المؤتمر فشل في حل المشكلة..
وبعد اكتوبر أدي سلوك الأحزاب السياسي، وفشلها في الحكم، الي زيادة تأزيم مشكلة الجنوب، وتعميق عدم ثقة الجنوبين في الشماليين، وتصعيد الحرب الأهلية.. وقد كان للإخوان المسلمين، دورهم في كل أولئك، فهم مثلا قد كانوا وراء تعديل الدستور، وحل الحزب الشيوعي، وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية.. وقد كان لهذا الاجراء أثره السيء على الجنوب، فقد بدا للجنوبيين، أن أي اتفاق مع الاحزاب الشمالية لحل مشكلة الجنوب سياسيا، أمر غير مضمون العواقب، فربما تنكرت هذه الاحزاب لمثل هذا الاتفاق، وغيرته بالصورة التي تخدم أغراضها هي كما فعلت مع الحزب الشيوعي!!
الدستور الإسلامي المزيف
والأمر الآخر الذي قام به الأخوان المسلمون، وزادوا به عدم ثقة الجنوبيين في الشماليين، وباعدوا به بين المشكلة والحل، هو رفعهم لشعار الدستور الإسلامي، الذي تبنته الاحزاب الطائفية.. ذلك الدستور الذي دللنا، في العديد من كتبنا، أنه في الحقيقة، ليس بدستور، وليس بإسلامي.. وقد اسميناه (الدستور الإسلامي المزيف).. فقد استخدمت الطائفية موضوع الدستور الإسلامي المزيف هذا في استغلال الدين لأغراض السياسة، حتى تمكن لنفسها من رقبة الشعب.. وقد كان الأخوان المسلمون في هذه الفترة ذيلا لطائفة الأنصار، التي وظفتهم لخدمة أغراضها.. وقد بدأ للجنوبيين في تلك الفترة ان اتجاه الاحزاب الشمالية الي الدستور الإسلامي ما هو الا عمل قصد به فرض الإسلام، واللغة العربية، على الجنوب، حتى تتم الهيمنة التامة عليه.. وقد لاقت محاولة فرض دستور يستغل قداسة الإسلام، مقاومة شديدة من النواب المسيحيين في الجمعية التأسيسية آنذاك.. ومما جاء في هذا الأمر بجريدة الصحافة عدد 25/1/1968 قولها: (فشلت أمس للمرة الثالثة اجازة مسودة الدستور في مرحلة القراءة الثانية. أصر النواب المسيحيون على الانسحاب رغم كل المحاولات التي بذلت لإقناعهم).. وجاء بالصحافة ايضا عدد 29/1/1968: (النواب المسيحيون يطالبون بإدخال 25 تعديلا على الدستور. التعديلات تنادي بإلغاء النصوص الإسلامية وتطالب بعلمانية الدستور، وانتخاب نائب رئيس الجمهورية من الجنوبيين).
وقد فشل الأخوان المسلمون، والطائفية، في إجازة الدستور الإسلامي المزيف.. وقد سعت الطائفية في النهاية الي فرضه بالقوة، ولكن الله قيض للبلاد، وفي لحظة الصفر، ثورة مايو، لتنقذها من هذه الفتنة.. وبعد فشل تجربة الدستور الإسلامي المزيف، أصبح الأخوان المسلمون يشعرون ان الجنوبيين يشكلون أكبر عقبة أمام طموحهم السياسي، كما شعر الجنوبيون بخطر هذا التنظيم على تطلعاتهم السياسية، ولذلك أصبح هنالك شعور من العداوة متبادل بين الفريقين.
مهزلة محكمة الردة
عندما انزعجت الطائفية، والاحزاب التقليدية، والأخوان المسلمون، من نشاط الجمهوريين، في كشف تزييفهم للدين، واستغلاله لأغراض السياسة، دبروا في 18/11/1968 ما سمي (بمحكمة الردة) للتخلص من خطر الجمهوريين عليهم.. وقد سعت تلك المكيدة السياسية الخاسرة الي حل الحزب الجمهوري، ومصادرة كتب الجمهوريين، ولذلك جاءت قرارات المحكمة متضمنة لهذين الأمرين!! والأمر الذي يهمنا هنا عن مهزلة محكمة الردة انعكاسها على مشكلة الجنوب.. فقد اعطت تلك المكيدة الجنوبيين تصورا كافيا، لما يعنيه الأخوان المسلمون والطائفيون بالدستور الإسلامي.. فأصبح الجنوبيون يتصورون، أنه إذا كان هذا هو موقف هذه الأحزاب ممن يخالفونهم الرأي في إطار الدين الواحد، وحتى قبل اجازة الدستور الإسلامي، فكيف يكون الحال بالنسبة لهم هم، كغير مسلمين، إذا اجيز ما سمي بالدستور الإسلامي!!
الترابي وحقوق غير المسلمين
لم يكتب الأخوان المسلمون، بصورة مباشرة، عن مشكلة الجنوب.. وهم لم يفعلوا، تفاديا للحرج الذي ستضعهم فيه مثل هذه الكتابة.. إذ أنهم لو كتبوا عن مشكلة الجنوب، فانهم اما ان يتنكروا للشريعة، التي يزعمون انهم يدعون الي تحكيمها، وذلك لإرضاء غير المسلمين في الجنوب.. أو أن يفصحوا بكل الصدق والوضوح عن موقفهم من غير المسلمين، فيخسروا بذلك الجنوبيين.. ولذلك فقد آثروا الصمت، في هذا الموضوع، تفاديا للحرج.. ولكن الأب فيليب عباس غبوش أفسد عليهم محاولتهم هذه للصمت. فهو قد حاصر زعيمهم الترابي، أثناء مداولات اللجنة القومية للدستور الدائم، حتى اضطره اضطرارا للإفصاح عن رأيه..
فقد جاء في محضر مداولات اللجنة القومية للدستور الدائم الحوار التالي:
(السيد موسى المبارك: جاء في مذكرة اللجنة الفنية نبذة حول الدستور الإسلامي في صفحة (7) أن يكون رأس الدولة مسلما، أود أن أسأل هل لغير المسلمين الحق في الاشتراك لانتخاب هذا الرئيس؟
السيد حسن الترابي: ليس هناك ما يمنع غير المسلمين من انتخاب الرئيس المسلم، الدولة تعتبر المسلمين وغير المسلمين مواطنين، أما فيما يتعلق بالمسائل الاجتهادية فإذا لم يكن هناك نص يترك الأمر للمواطنين عموما، لأن الأمر يكون عندئذ متوقفا على المصلحة، ويترك للمواطنين عموما أن يقدروا هذه المصلحة، وليس هناك ما يمنع غير المسلمين أن يشتركوا في انتخاب المسلم، أو أن يشتركوا في البرلمان لوضع القوانين الاجتهادية التي لا تقيدها نصوص من الشريعة.
السيد فيليب عباس غبوش: أود أن اسأل يا سيدي الرئيس، فهل من الممكن للرجل غير المسلم أن يكون في نفس المستوى فيختار ليكون رئيسا للدولة؟؟
الدكتور حسن الترابي: الجواب واضح يا سيدي الرئيس فهناك شروط أهلية أخرى كالعمر والعدالة مثلا، وأن يكون غير مرتكب جريمة، والجنسية، وما إلى مثل هذه الشروط القانونية.
السيد الرئيس: السيد فيليب عباس غبوش يكرر السؤال مرة أخرى.
السيد فيليب عباس غبوش: سؤالي يا سيدي الرئيس هو نفس السؤال الذي سأله زميلي قبل حين – فقط هذا الكلام بالعكس – فهل من الممكن أن يختار في الدولة – في إطار الدولة بالذات – رجل غير مسلم ليكون رئيسا للدولة؟؟
الدكتور حسن الترابي: لا يا سيدي الرئيس..)
واضح من الحوار التواء الترابي، فهو لم يجب على السؤال الا بعد أن حوصر، وذلك تفاديا للحرج الذي ذكرناه، وهو موقف الأخوان المسلمين بصورة عامة من حقوق غير المسلمين، فهم لا يحبون ان يعلنوا رأيهم في هذا الأمر بصورة واضحة، وهو تمويه على كل حال لا معنى له، طالما أنهم يدعون الي تحكيم الشريعة، وموقف الشريعة واضح، ومعروف..
والأخوان المسلمون في عملهم السياسي ليس لهم منهج، وتصور ثابت يلتزمونه.. وقد رصدنا نحن لهم، في كتاباتنا عنهم العديد من الأقوال، والمواقف، المتناقضة.. وهم، حتى اليوم، وفي ظل ثورة مايو - التي حاربوها بالسلاح، بحجة أنها لا تحكم بالإسلام، ثم جاءوا ليشتركوا معها في الحكم اشتراكا تاما، هم حتى اليوم، يزعمون أنهم يعملون على تحكيم الشريعة الإسلامية.. فهم قد كانوا وراء تكوين (لجنة تعديل القوانين لتتمشى مع الشريعة الإسلامية)، واليهم تنتهي رئاسة هذه اللجنة، وعملهم في هذه اللجنة هو أيضا من اسباب تصعيد التوتر في نفوس الجنوبيين، وتصعيد الصراع العقيدي بين المسلمين والمسيحيين.. ولقد كان مما قاموا به في هذا الصدد من عمل كاد يؤدي للفتنة الدينية، معارضتهم للمسيحيين في الاحتفال بمناسباتهم الدينية، واصدار المنشورات التي تدعو للفتنة الدينية بين المسلمين والطوائف المسيحية.. وقد رصدنا لهم نحن في هذا الصدد، ضمن كتاباتنا عنهم صورة لهذه المنشورات التي وزعوها، وعرضوا نماذج منها في ميدان المعارض بأبي جنزير، في معرض نظمه اتحاد طلاب الجامعة الإسلامية والذي يسيطر عليه الاخوان المسلمون.. فلقد جاء في إحدى منشوراتهم هذه قولهم: (ايها المواطنون.. لقد أصبح التحرك المسيحي المشبوه في السودان أمرا بالغ الخطورة على المسلمين وعلي العقيدة الإسلامية وصار السكوت عليه جريمة في حق المسلمين وعقيدتهم وخطرا يهدد وجودهم وكيانهم وحاضرهم ومستقبلهم. ولقد أصبح من الحقائق الثابتة أن النشاط الكنسي القائم في البلاد منذ سنوات انما هو مخطط مرسوم ومدعوم من قوي أجنبية مسيحية، خارج وداخل البلاد)..
ويمضي منشور الأخوان المسلمين في تأجيج مشاعر الهوس الديني وكأنما هناك حربا صليبية وشيكة الوقوع، فيقول: (وقد أصبح المسلمون يحسون بأنهم الآن مواجهون بعمل كبير، وخطير وأنه قد يكون مصحوبا بعمليات تدريب، عسكرية مسيحية وضحت حقائقها من مواكب للصليب التي كانت تجوب الطرقات في تحد ظاهر لمشاعر المسلمين)..
وهكذا فان مواقف الأخوان المسلمين السياسية ظلت دائما من أسباب تصعيد مشكلة الجنوب، وهي الي اليوم لا تزال كذلك..
موقف الأخوان المسلمين الفكري
الأخوان المسلمون يزعمون أنهم دعاة لتطبيق الشريعة الإسلامية.. وهم، على كل حال، لا يدعون الي تطوير التشريع الإسلامي، بالصورة التي ندعو لها نحن، في الانتقال من نصوص الشريعة الفرعية الي نصوص السنة الأصلية.. بل أنهم ليعارضون رأينا هذا، أشد المعارضة.. وعلي ذلك، فإن موقفهم الفكري، والديني الحقيقي، من مشكلة الجنوب، هو موقف الشريعة من غير المسلمين.. فالأغلبية الساحقة من الجنوبيين وثنيون ومسيحيون كما بينا.. وموقف الشريعة من غير المسلمين، موقف واضح، ومحدد.. وقد قام عليه التطبيق العملي في القرن السابع.. وقد كانت الشريعة، في وقتها، حكيمة، كل الحكمة، لأنها كانت المستوى الذي يناسب طاقة الناس، وحاجتهم، في ذلك الوقت.. ولكن الخطأ، كل الخطأ، في نقل الشريعة الي غير وقتها، وهذا ما يتورط فيه الأخوان المسلمون، وجميع الدعاة السلفيين، وهم بذلك يشوهون الإسلام ويظهرونه بمظهر القصور.. وليس القصور بقصور الإسلام، وانما هو قصورهم هم، ويجب أن يوضع عند عتبتهم هم، وأن تبرّأ ساحة الإسلام منه..
وموقف الشريعة من حقوق غير المسلمين، أخذا من النصوص المحكمة، ومن التطبيق العملي هو كما يلي: فأما بالنسبة للمشركين فهم بعد أن تعرض عليهم الدعوة الإسلامية لهم احد خيارين، لا ثالث لهم، فهم أما أن يسلموا فتصبح لهم ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما على المسلمين من واجبات، واما أن يقاتلوا.. وفي هذا الأمر جاء قوله تعالي: (فاذا انسلخ الأشهر الحرم، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم، وأحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد، فان تابوا، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فخلوا سبيلهم، ان الله غفور رحيم!!).. وفي ذلك جاء قول النبي الكريم: (أمرت ان اقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله، وان محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويصوموا الشهر، ويحجوا البيت، من استطاع اليه سبيلا، فاذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها، وأمرهم الي الله)..
أما غير المسلمين من الكتابيين، وهم اليهود والنصارى، فيعرفون بالذميين، وهم من أعطاهم المسلمون الأمان على مالهم، ودمهم، وعرضهم، مقابل أن يعطوا الجزية.. ولهؤلاء بعد أن تعرض عليهم الدعوة، اما أن يسلموا، أو أن يعطوا الجزية، او أن يقاتلوا.. فهي خصلة من ثلاث خصال، وقد وردت في حقهم الآية الكريمة: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون).. وقد جاء عن تفسير هذه الآية عن ابن كثير قوله: (وقوله: "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" أي ان لم يسلموا، وعن يد، أي عن قهر لهم وغلبة، وهم صاغرون، أي ذليلون حقيرون مهانون، فلهذا لا يجوز اعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين.. الخ) – ابن كثير، الجزء الثالث، صفحة 282، 283 – وبمثل هذا التفسير قال الرازي، والقرطبي، وغيرهم من المفسرين.. ومما ورد عن سيدنا عمر رضي الله عنه في هذا الصدد، ما رواه أبو موسي رضي الله عنه فقال: ((قلت لعمر ان لي كاتبا نصرانيا. قال: (مالك؟؟ قاتلك الله!! اما سمعت الله تعالي يقول: "يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم" الا اتخذت حنيفا. قال: قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه.. قال: لا أكرمهم اذ أهانهم الله، ولا أعزهم اذ أذلهم الله، ولا أدنيهم اذ أقصاهم الله.)) – ابن قيم الجوزية، أحكام أهل الذمة، الجزء الثاني، صفحة 210 – ولمزيد من التفصيل راجع كتاب (حقوق أهل الذمة في الإسلام)، لأبي الأعلى المودودي، وهو من الدعاة المعتمدين عند الأخوان المسلمين..
هذا هو موقف الشريعة من غير المسلمين، وهو موقف الأخوان المسلمين الذين يدعون الي تطبيق هذه الشريعة، فاذا حاولوا أن يظهروا بغير هذا الموقف، فإنهم لن يجدوا له سندا من الدين، طالما أنهم لا يدعون الي تطوير التشريع، ولذلك فان ظهورهم بغير هذا الموقف، انما هو عمل في التكتيك السياسي فقط..
والجنوبيون يعرفون للإخوان المسلمين موقفهم هذا، ولا تجوز عليهم أساليبهم التكتيكية، وهذا هو السر في عداوتهم الشديدة لهم..