ثورة مايو واتفاقية اديس ابابا
لقد كانت مشكلة الجنوب من أكبر الأسباب التي أدت الي الاطاحة بنظام الحكم القائم يومئذ، وقيام ثورة مايو.. ولذلك اهتمت الثورة بالمشكلة اهتماما كبيرا، واعطتها الاولوية على القضايا الأخرى، فلم يكد يمضي اسبوعان على قيام الثورة الا وقد أعلن الرئيس نميري ما سمي (بإعلان يونيو)، وقد جاء فيه أن حكومته تعترف بالاختلافات القائمة بين الشمال والجنوب، وتؤمن بأن وحدة البلاد لا بد أن تنبني على هذه الحقائق الايجابية، (فللجنوبيين الحق في تطوير ثقافتهم، وتقاليدهم، في إطار سودان اشتراكي موحد).. واتجهت ثورة مايو الي الاعتراف بحق الجنوبيين في اقامة حكم ذاتي، إقليمي، في إطار السودان الموحد.. وأقامت الحكومة وزارة خاصة لشئون الجنوب، على رأسها وزير جنوبي، رصدت لها الحكومة مبلغ ثلاثة ملايين جنيه لإعادة تعمير الجنوب.. وتم تعيين بعض الجنوبيين في المناصب الهامة في الجنوب، خصوصا في البوليس.. وقد أدت بعض الأحداث الي تأخير تنفيذ الحكم الذاتي للجنوب، منها محاولة الانقلاب الشيوعي في يوليو 1971.. وبعد محاولة الانقلاب الشيوعي الفاشلة، عين أبيل ألير وزيرا لشئون الجنوب.. وقد وضع أبيل مشروع الحكم الذاتي الإقليمي للجنوب، فوافقت عليه الحكومة، وعرض على زعماء الجنوبيين خارج البلاد، وعرض حتى على الأنانيا.. وبذلك انفتح الباب للمفاوضات بين الحكومة والقيادات الجنوبية، وتمت اتصالات بين الزعماء الجنوبيين الذين في داخل البلاد، واولئك الذين كانوا في الخارج، في العاصمة الاثيوبية اديس ابابا.. وأخيرا تم الاتفاق، بعد مفاوضات سرية بين الحكومة، وحركة تحرير جنوب السودان، على عقد مؤتمر بأديس ابابا، لإيجاد حل سياسي للمشكلة.. وقد أعان مجلس الكنائس العالمي، بعد أن أطمأن لحسن نوايا الحكومة، على انعقاد المؤتمر، كما لعب الإمبراطور هيلاسلاسي، امبراطور الحبشة، دورا هاما كذلك..
معالم اتفاقية الحكم الذاتي
انعقد مؤتمر اديس ابابا الذي ضم ممثلي حكومة السودان وزعماء حركة تحرير الجنوب.. وبعد التداول، والمناقشات، تم التوصل الي اتفاقية اديس ابابا.. وقد أعلن في 26 فبراير 1972 انه تم التوصل الي اتفاق ينهي الحرب الأهلية، التي استمرت لحوالي سبعة عشر عاما.. وقد جاء في الاعلان انه تم التوصل بين الطرفين الي اتفاق، وتم وضع إطار للمسائل السياسية، والقانونية، والادارية، التي يتم من خلالها تحقيق التطلعات الإقليمية للجنوبيين الي جانب المحافظة على المصلحة القومية، وسيادة الدولة.. وأعلن أن المفاوضات التي تمت بأديس ابابا بين حكومة جمهورية السودان الديمقراطية، وزعماء حركة تحرير جنوب السودان، للوصول الي حل سلمي لمشكلة الجنوب، قد تمت بنجاح.. وقد اتسمت المفاوضات، حسب الاعلان، برغبة الطرفين المتفاوضين بالحرص على المحافظة على وحدة البلاد، ومراعاة التطلعات المشروعة للجنوب..
وقد تم التوقيع على الاتفاقية بواسطة الرئيس نميري في 3 مارس 1972، وذلك بعد أن وضعت في صيغة قانونية سميت (قانون الحكم الذاتي الإقليمي 1972).. ونحن هنا سنورد بعض المعالم العامة لاتفاقية اديس ابابا في ايجاز:
1) اصبحت المديريات الجنوبية تعرف بالإقليم الجنوبي، وستكون له اجهزته التشريعية والتنفيذية بالصورة التي نص عليها القانون.. وقد اشترط ان تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية للسودان على ان يسمح بأن تكون اللغة الانجليزية هي اللغة الاساسية في الإقليم الجنوبي.. واستعمال اللغة الرسمية واللغة الاساسية لا يؤثر على استخدام لغة، او لغات اخري إذا دعت الضرورة..
2) وضع القانون أسس الصلات بين الحكومة الإقليمية والحكومة المركزية وتقسيم السلطات بينهما.. فالمسائل التي تخرج عن سلطة الحكومة الإقليمية وتتبع للحكومة المركزية هي: الميزانية العامة، والسياسة الخارجية، وطبع وصك العملة، والنقل الجوي والنهري، والمواصلات والجمارك والتجارة الخارجية، والجنسية والجوازات وتخطيط التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتخطيط التعليم..
3) أجهزة الحكومة الإقليمية التي نص عليها القانون هي، مجلس الشعب الإقليمي والمجلس التنفيذي العالي.. ولمجلس الشعب الإقليمي، وبأغلبية ثلثيه، حق ايقاف تنفيذ اي تشريع صادر من الحكومة المركزية يعتبره الاعضاء مؤثرا بصورة سلبية على مصالح الإقليم، ولكن رئيس الجمهورية ليس مقيدا بطلب المجلس القومي في هذه الحالة.. ولمجلس الشعب الإقليمي أن يطلب من رئيس الجمهورية سحب أي مشروع قانون يناقشه مجلس الشعب القومي إذا رأي ان اجازته تترتب عليها آثار سلبية بالنسبة للإقليم..
4) المجلس التنفيذي العالي مسئول عن الحكومة الإقليمية، ولكن يعين رئيسه، رئيس الجمهورية بتوجيه من مجلس الشعب الإقليمي والذي يمكنه، بأغلبية الثلثين، ان يطلب من رئيس الجمهورية اقالة رئيس المجلس التنفيذي أو أي أعضاء آخرين، وليس من حق رئيس الجمهورية رفض هذا الطلب..
5) نص القانون على أن يكون هنالك جهاز خدمة مدنية بالإقليم الجنوبي، وقبل انشائه يكون المجلس التنفيذي العالي مسئولا عن اعداد الميزانية وعن تقدير تكاليف قيام جهاز الخدمة المدنية، وعن الادارة والتنمية..
6) وقد نص الفصل السادس من القانون على ان عدد القوات الجنوبية في الجيش القومي يكون بنسبة عدد السكان في الإقليم وان استعمال القوات المسلحة في الإقليم يكون تحت سيطرة رئيس الجمهورية وبتوصية من المجلس التنفيذي العالي..
7) وقانون الحكم الذاتي الإقليمي يضمن لكل مواطني الإقليم فرصا متساوية في التعليم والعمل وممارسة المهن المختلفة، وينص على أن حقوق المواطنين لا يمكن ان تضار بسبب الجنس او العنصر او القبيلة أو الدين او مكان الميلاد.
8) القانون لا يمكن تعديله الا بواسطة 3/4 مجلس الشعب القومي، وموافقة ثلثي مواطني الإقليم في استفتاء شعبي للإقليم..
هذه بعض المعالم الاساسية لقانون الحكم الذاتي الإقليمي وقد تم تنفيذ هذا القانون بكفاءة كبيرة.. وقد كان لثقة الجنوبيين في الرئيس نميري دور كبير في تيسير عملية التنفيذ. وقد كان التنفيذ يتم من خلال أوامر جمهورية يصدرها الرئيس.. وكان أول أمر جمهوري يقضي بوقف إطلاق النار، وقد تم تنفيذه بنجاح تام، كما تم استيعاب قوات الأنانيا في القوات المسلحة.. وبعد وقف إطلاق النار اوكل للقوات المسلحة بالجنوب المساعدة في التعمير، وفي توطين اللاجئين العائدين للبلاد.. وهكذا أصبح للجيش مهمة سلمية بدل الحرب.. وقد كان التنفيذ بصورة عامة ناجحا تماما، مما أدي الي القضاء على عدم الاستقرار في الجنوب، والي انهاء الحرب الاهلية فيه، واعادة السلام الي ربوع البلاد..
وهكذا نجحت ثورة مايو في تقديم الحل السياسي لمشكلة الجنوب محققة بذلك أكبر انجازاتها، وهو الانجاز الذي فشلت جميع الحكومات الوطنية في تحقيقه..
ولكن الحل السياسي لمشكلة الجنوب، ليس هو الحل النهائي.. فالجنوب لا يمكن ان يتأمن الا إذا جاء الحل الحضاري، الذي يقضي على كل صور التمييز بسبب العقيدة، او العنصر، أو الجنس، ويقضي على جميع اسباب الصراع، وذلك بالوعي، وبالتربية، ثم بالقانون، فيحقق السلام داخل النفوس، ويقيم علائق الناس، في البلاد، على المحبة، ويجعل كل فرد بشري فيها من حيث بشريته، غاية في ذاته، فلا يستخدم، لأي سبب من الأسباب، لغيره.. وهذا الحل الحضاري لمشكلة الجنوب، هو الذي تقدمه الفكرة الجمهورية، في تصوره النظري، وتقدم المنهاج العملي الذي يجعل تحقيقه ممكنا..