إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

هؤلاء هم الأخوان المسلمون
الجزء الأول


الباب الأول

تنظيم الأخوان المسلمين في مجال الفكرة



الفصل الأول

ضعف التوحيد لدى الأخوان المسلمين


إن مبلغ الأفكار من الصحة، أو الخطل، إنما يلتمس، أول ما يلتمس، في مبلغ حظها من التوحيد .. فهي إنما توزن، عند أهل التوحيد، بميزان التوحيد الدقيق، الذي لا يضل ولا يجور.. فإن كانت ضعيفة التوحيد كانت واهية الجذور، قريبة الفروع، بادية التخليط والتخبّط، وكذلك جاءت ((فكرة)) الأخوان المسلمين!! وسنأخذ الأستاذ سيد قطب في كتابه ((معالم في الطريق)) نموذجا لضعف التوحيد لدى هذه الجماعة، وهو من أكبر مفلسفيها، إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق، وكتابه هذا أكثر المراجع تداولا بين أفرادها، وأعمقها أثرا في رسم تصورهم..
قال في الباب الثاني من ذلك الكتاب: ((نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم.. كل ما حولنا جاهلية.. تصورات الناس، وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية وتفكيراً إسلامياً.. هو كذلك من صُنع هذه الجاهلية)) .. ثم حدّد الأستاذ سيد قطب مهمة الأخوان المسلمين في نفس الباب حين قال: ((إن مهمتنا الأولى هي تغيير هذا الواقع .. هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه، هذا الواقع الذي يصطدم اصطداما أساسيا بالمنهج الإسلامي، وبالتصوّر الإسلامي)). – انتهى – الخطوط من تحت الكلمات من وضعنا.
هكذا رسم أحد كبار مفكري الأخوان المسلمين تصوّرهم للجاهلية الراهنة، وهو أنها ((كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم))!! ومن ههنا يبرز ضعف التوحيد في فكرة الأخوان المسلمين بروزا تاما!! صحيح أن البشرية المعاصرة إنما تعيش الجاهلية الثانية، وقد عاشت في القرن السابع الميلادي الجاهلية الأولى التي وجدها عليها الإسلام .. ولقد أشار القرآن الكريم الى هذه الجاهلية الثانية، إشارة لطيفة، حين قال: ((ولا تبرّجن تبرج الجاهلية الأولى!!)).. ولكن ليس صحيحا أن هذه الجاهلية الثانية ((كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم)).. إن التوحيد ليقول بأن خط تطوّر الحياة البشرية، في مجموعها، إنما يسير، في مدى الأربعة عشر قرنا السالفة، أكثر من أي وقت مضى، صعدا الى الكمال.. فقد قطعت البشرية شوطا كبيرا، في طريق الرجعى الى الله، نحو تحقيق جماع أغراض الدين، وهي كرامة الإنسان المتمثلة في حريته، وذلك حين توافت على الأعراف والقوانين التي تتجه إلى اقرار الحقوق الأساسية للإنسان.. وهذه الأعراف والقوانين، وإن كانت قد نشأت خارج ظل الشريعة الإسلامية.. فإنها ليست باطلا مطلقا (فالباطل المطلق لا يدخل في الوجود) وهي إنما نشأت وفق الإرادة الإلهية التي تسيّر الحياة، بحقها، وباطلها، الى رضاء الله العظيم.. وقد قلنا، في مقدمة هذا الكتاب، إن هذه الإرادة لا مكان للباطل المطلق فيها، ومن ثمّ، فهذه الأعراف والقوانين ليست باطلا مطلقا.. بل أن حقها لأكبر من باطلها.. ثم أنها لتخطو خطوات واسعات لتهييء الأرض لإستقبال أصول القرآن الكريم التي عندها، وحدها، تتحقّق الحقوق الأساسية الكاملة للإنسان.. والبعث الإسلامي، اليوم، إنما يجيء لتهذيب هذه الأعراف، والقوانين، وللتسامي بها الى أصول القرآن، حيث يتخذها بمثابة البناء التحتي له، عليها يقيم بناءه الفوقي.. فهو، إذن، لا يعمد الى إلغائها، من أساسها، كما يرى الأستاذ سيد قطب، حين قال، عن مهمة الأخوان المسلمين: ((هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه)).. ذلك بأن هذا الواقع، برغم ما به من جاهلية، ليس رجسا من عمل الشيطان!! وهو ليس، كما يعني الأستاذ سيد قطب، حين قال: ((من صنع الجاهلية))!! وإنما هذا الواقع من صنع الإرادة الإلهية الهادية الحكيمة!!
وما هي هذه الأعراف، والقوانين، والثقافات، التي يرى الأستاذ سيد قطب أنها تشّكل جاهلية كالجاهلية الأولى أو أظلم؟؟ إن البشرية إنما تسير، في تطوّرها، كما يسير الفرد البشري، على رجلين، رجل المادة، ورجل الروح.. وهي، في كل حركة، من حركات تطوّرها، إنما تقدّم احدى الرجلين على الأخرى.. فحينما تقدّم رجل المادة على رجل الروح تسمي ذلك عهد "فترة" – وهي هي الجاهلية – وحينما تقدّم رجل الروح على رجل المادة تسمي ذلك عهد "بعثة" – وهي تجديد الدين، وهي هي البعث الإسلامي.. وقد قدّمت البشرية، اليوم، ومنذ حين، في حركة من حركات سيرها، وتطوّرها، رجل المادة، وذلك إنما يتمثّل في هذه الحضارة المادية الآلية التي لم يسبق لها ضريب في تاريخ البشرية.. وهي، الآن، إنما تحتشد، وتتأهب، لتقدّم رجل الروح حتى تخطو خطوة في مجال البعث الإسلامي ليس لها ضريب في تاريخها أيضا!!
إن لهذه الجاهلية الراهنة سلبياتها ولها ايجابياتها، غير أن إيجابياتها أكثر، بما لا يقاس، من سلبياتها، فها هي حركة الشعوب للتحرّر من الإستعمار، ومن التفرّقة العنصرية تحقق رصيدا هائلا من الإنتصارات.. وها هي الشعوب تتوافى على ميثاق منظمة الأمم المتحدة الذي يرسي كثيرا من الحقوق الأساسية للإنسان، وتنضوي تحت لواء هذه المنظمة الدولية.. وها هو الرأي العام العالمي الذي يشجب العدوان، والإستغلال، والتمييز، وأساليب العنف، يأخذ في التبلوّر، والبروز، فيخرج الإنسان، بذلك، من عهد الغابة حيث "الحق للقوة"، وحيث يحتكم الناس الى القانون الدستوري، الذي للضعيف فيه حق مساو لحق القوي.. ها هو العلم الحديث، والتكنلوجيا، توحّدان هذا الكوكب، عن طريق وسائل الإتصال، والمواصلات، توحيدا جغرافيا يكاد أن يكون تاما.. وينجزان في مجال الكشف والإختراع، الإنجازات المذهلة التي تيّسر الحياة البشرية، وتؤمنها.. وها هي المرأة تخرج من عهد قصورها الطويل، لتصل الى أقصى مراحل التعليم، ولتتسنّم أرفع الوظائف التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، ولتبدع في شتى مجالات الإبداع الفني، والأدبي، والعلمي، وهي التي كانت في الجاهلية الأولى إنما توأد حية مخافة الفقر، أو عار السبي!! ها هي الجماعة البشرية تتطّلع إلى العدالة الإجتماعية الشاملة المتمثّلة في الإشتراكية، والديمقراطية، والمساواة بين الناس، من حيث هم ناس.. وها هو الفرد البشري يتطّلع الى الحرية الفردية المطلقة، وهو يناضل ليخرج من وصاية كافة الأوصياء عليه، حتى يكون القانون الدستوري هو الوصي الوحيد على جميع الأفراد – رجالا أكانوا أم نساء.. ها هي البشرية تبلغ في ميادين الآداب والفنون والثقافات أرقى ما بلغته من الحيوية الفكرية، والشعورية، ومن رقي الذوق العام، ومن رهافة الحس، ومن إتّساع المدارك..
إن هذا التراث البشري برمته إنما هو موروث البعث الإسلامي، ومادته الخام، يزنه بميزان التوحيد الدقيق، فيطرح سلبياته، وينمي ايجابياته الى حيث مراد الدين.. فإن كل ما وافق الفطرة السليمة، وحقّق أغراض الدين (وجماعها تحقيق كرامة الإنسان) إنما هو من صميم الإسلام، والإسلام به أولى.. حتى هذه الفلسفات "الجاهلية"، والإلحادية منها، كالماركسية، إنما يجيء الإسلام ليصحّح أخطاءها، ويتسامى بأوجه الصحة فيها.. ولذلك فإن إعتبار الواقع الجاهلي باطلا مطلقا يتعيّن تغييره من أساسه إنما هي نظرة خاطئة توحيديا.. ثم هي غير ممكنة عمليا!!
وضعف التوحيد هذا إنما مردّه الى الجهل بقانون حركة التطور.. وهو قانون التوحيد الكلي الذي يوّحد بين المتناقضات، وإيجاد كل متسق من المظاهر المختلفة في الوجود.. وفي غياب العلم بقانون التوحيد هذا يجيء مثل قول الأستاذ سيد قطب عن "الواقع الجاهلي": ((هذا الواقع الذي يصطدم إصطداما أساسيا بالمنهج الإسلامي، وبالتصوّر الإسلامي))!! ولذلك يرى الأستاذ سيد قطب: ((تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه)).. فهو لا يرى الا ((إصطداما أساسيا))، وصراعا، محتدما، لا يهدأ، بين المتناقضات!! وبذلك يلتقي الأخوان المسلمون، من حيث لا يشعرون، مع الماركسيين، إلتقاءا تاما!! فالديالكتيك الماركسي إنما هو صراع المتناقضات القائم على إختلاف النوع.. ومن هنا يجيء عنصر العنف، عند الماركسيين، كما يجيء عند الأخوان المسلمين لحسم الصراع والتناقض، وذلك في عهد خرجت فيه البشرية من عهد الغابة الى عهد المدنية، فدخلت بذلك قيمة جديدة للتغيير، غير قيمة العنف، هي القيمة الفكرية والخلقية..
إن قيام دعوة الأخوان المسلمين على أسلوب العنف – كما سنرى في أحد فصول الكتاب، إنما مرده، أساسا، إلى ضعف التوحيد، حيث يرى مفكرو الأخوان المسلمون أن حسم الصراع بين العقائد والأفكار سيظل في مستقبل البشرية، كما كان في ماضيها، قائما أيضا على عنصر العنف، من غير إعتبار للظروف المرحلية الموضوعية التي أملت الجهاد في الشريعة الإسلامية في الماضي، ومن غير إدراك لكون الطبيعة البشرية المسالمة هي الفطرة، وأن الطبيعة البشرية المحاربة إنما هي طبيعة عارضة، وهي مسخ للفطرة السليمة وهي إذن رهينة بملابسات التاريخ.. فالإنسان إنما من الله تعالى صدر، واليه آيب، والله تعالى هو السلام..
والبشارات القرآنية، والبشارات النبوية، إنما تبشّر بعودة الإسلام، من جديد، ليعقب هذه الجاهلية الثانية، فيرتفع إلى قمة جديدة لم يكن له بها سابق عهد، فها هو القرآن الكريم يقول: ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا)).. فظهور الإسلام على سائر الأديان، وعلى سائر الفلسفات، إنما هو أمر لا بد أن تستشرفه البشرية اليوم، طالما لم تعهده من قبل، وقال النبي الكريم: ((بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا، كما بدأ فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد إندثارها!!)) فالإسلام، في بعثه الجديد، إنما يقوم على إحياء السنّة، وذلك، كما أسلفنا، في مقدمة هذا الكتاب، بجعل هذه السنّة، وهي شريعة فردية، تتعلّق بعمل النبي في خاصة نفسه، شريعة عامة لكل الناس، في منهاجهم التعبدي، وفي تنظيمهم الإجتماعي.. وليتم بعث الإسلام، في هذا المستوى، الذي لم تشهده البشرية من قبل، لا بد أن يعقب جاهلية أرفع من الجاهلية الأولى التي أعقبها بعثه الأول.. ذلك بأن الجاهلية، في أي وقت، إنما هي الواقع الذي سيبنى البعث الإسلامي على ايجابياته بناءه الفوقي.. فعلى قدر الجاهلية تقاس درجة البعث الإسلامي الذي سيعقبها، ولذلك فإن إعتبار الجاهلية المعاصرة ((كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم))، كما ذهب الى القول سيد قطب، إنما هو دلالة على قصور التصوّر الصحيح لصورة البعث الإسلامي المرتقب.. وهذا القصور، كما بيّنا، إنما مرده إلى ضعف الفكرة التوحيدية..