الصادق وفترة مابعد مايو 1969
للصادق المهدي غاية واحدة ثابتة، هي تحقيق زعامته.. أما الأساليب، وأما الوسائل، لتحقيق هذه الغاية فهي كثيرة، ومتنوعة، لا يحدها حد، ولا يضبطها ضابط.. فتحقيق الغاية هو المعيار الوحيد الذي يحدد الأساليب والوسائل..
و لقد أدي قيام ثورة الخامس والعشرين من مايو 1969 الي إحباط مؤامرة الطائفية الكبري، تلك المؤامرة لإغتيال حرية الشعب، وذلك بإجازة دستور يلتحف قداسة الدين، وهو ليس من الدين في شيء.. وبعد قيام ثورة (مايو) لم تقف محاولات الطائفية لإستعادة نفوذها، وفرض سيطرة زعمائها.. فقد سعت بكل السبل الي تحقيق ذلك الغرض، فأعدت السلاح، وجندت الأتباع، للقيام بمواجهة مسلحة ضد النظام، مما أدي الي أحداث الجزيرة أبا عام 1970.. ولما فشلت تلك المحاولة إتجهت الطائفية، وأعوانها، من جماعة الأخوان المسلمين في أحداث شعبان الي محاولة إثارة الشارع، وتحريك التجمعات الفئوية، لإحداث ثورة شعبية كما توهموا، ولقد تم إحباط تلك المحاولة، بفضل الله، ثم بفضل الوعي الشعبي.. ولما فشلت جميع هذه المحاولات إتجهت الطائفية وأعوانها الي الجيش في محاولة للقيام بإنقلابات عسكرية وقد كان الصادق كزعيم (للجبهة الوطنية) وراء جميع هذه المحاولات.
أحداث يوليو 1976
بعد أن فشلت محاولة إنقلاب الخامس من سبتمبر المشئوم، دبر الصادق وأعوانه أحداث الثاني من يوليو 1976 تلك الأحداث الدامية التي تعرضت فيها البلاد للغزو من الخارج، وبصورة بربرية لا تميز بين العسكريين، والمدنيين، مما أشاع الفوضي، والذعر، وعرض أرواح المواطنين الوادعين للضياع، لا فرق بين الرجال، والنساء، والأطفال..
و كان الإعداد لعملية الغزو قد تم قبل فترة من القيام بالتنفيذ ولقد صرفت علي عملية الغزو مبالغ هائلة، ولقد ورد، عن تكلفة عملية الغزو هذه، وعن الإستعداد لها، في حديث الرئيس نميري الذي نشرته جريدة الصحافة في عدد خمسة يوليو 1976 ما يلي (تحدث الرئيس القائد عن الغزو الأجنبي الرجعي قائلا إن هذه الحملة قدرت تكلفتها بما لا يقل عن 50 مليونا من الجنيهات وأنها استنفدت وقتا وجهدا كبيرين وأن المتآمرين يعرفون كل شييء عن العمل العسكري) وقد تم تدريب المضللين من الأنصار والمرتزقة علي إستعمال أحدث الأسلحة، وكان الصادق يشرف بنفسه علي سير عمليات التدريب، كما اعترف بعض المعتقلين بعد فشل المحاولة.. فقد جاء في جريدة الصحافة عدد الأربعاء 7 يوليو 1976 تحت عنوان (وثائق هامة تكشف أبعاد المؤامرة) ما نصه (و من جهة أخري فقد أدلي بعض المتهمين الذين أعتقلوا بإعترافات هامة كشفوا فيها أن تدريبهم العملي علي حمل السلاح واستعماله تم في ليبيا وأنهم قد سلحوا بكل أنواع الأسلحة التي دخلوا بها البلاد من السلطات الليبية.. وذكروا أن الصادق المهدي وحسين الشريف الهندي كانوا يزورونهم في معسكرات تدريبهم.. وأنهم قسموا الي مجموعات عسكرية (سرايا وفصائل) سميت بأسماء غزوات إسلامية، وأسماء محلية مثل كرري، وودنوباوي، وأبا، وشيكان).. وقد ورد في حديث الرئيس نميري الذي ألقاه أمام المؤتمر الأفريقي بموريشس والذي نشر بالصحافة عدد 7 يوليو 1976، عن الأسلحة التي إستعملتها قوات الغزو قوله: (و لقد بدأت قوات الغزو تباشر اولي مهامها بإطلاق نيران كثيفة إستهدفت شخصي والوفد المرافق لي وجميع كبار المسئولين السياسيين والتنفيذيين الذين كانوا في استقبالي. وبتدخل من عناية الله وحده فشلت قوات الغزو الأجنبي في تنفيذ اولي مهامها إلا أنها انتشرت بعد ذلك وباعداد تقدر في مجموعها بألفي شخص علي الأقل.. وقد بدا واضحا منذ اللحظة الأولي أن تلك القوات قد جري تدريبها علي مستوي عال، كما أن السلاح الحديث والمتطور للغاية الذي استخدمته لا يتوافر للقوات السودانية ولا لأغلبية الدول الأفريقية الفقيرة).. وقد استعملت هذه الأسلحة الفتاكة حتي ضد المواطنين المدنيين الأبرياء، في الشوارع، والأحياء.. وعن ذلك جاء في خطاب نميري المشار إليه في الفقرة السابقة قوله: (و في أثناء الليل، بدأت قوات من خارج العاصمة تصل إليها حيث شاركت في النضال لحظة وصولها وفي صباح اليوم التالي إنتشرت قوات الغزو الأجنبي في العاصمة وتسللت الي الأحياء السكنية ودور العبادة والمستشفيات والمدارس، وتسببت في احداث خسائر كبيرة في أرواح المواطنين الأبرياء والذين ما زالت جثث الكثيرين منهم متفحمة داخل العربات ومثقوبة بالرصاص داخل المنازل أو مذبوحة من الشريان الي الشريان داخل غرف النوم.. إن غالبية القتلي الذين تم حصرهم حتي الآن وسط المدنيين هم من الأطفال والنساء والمسنين. كما أن الإقتحام البشع للمستشفيات أدي إلي إصابات قاتلة لعشرات المرضي، رغم حرص قوات الأمن علي عدم مطاردة فلول قوات الغزو الأجنبي داخلها حرصا علي حياة شاغليها.. ويكفي ان أشير هنا الي ان قائد السلاح الطبي وهو طبيب برتبة لواء قد لقي مصرعه وهو يؤدي واجبه داخل المستشفي العسكري) إنتهي.. ويكفي، لكي ندلل علي بشاعة تلك الأحداث أن نورد نموذجا واحدا مما أورده كتيب لجنة الإعلام والتوجيه في الإتحاد الإشتراكي، والذي سمته (الغزو الرجعي- الليبي للسودان) فقد ورد في صفحة 46 منه: (و قد كانت أبشع تلك الصور المجزرة الدموية التي قام بها أحد المرتزقة داخل جراج حصد فيها أرواح 16 مواطنا بريئا أعزل، هذا السفاح، واسمه بحر، ولا يتجاوز عمره السادسة عشرة ذهب الي اثيوبيا عام 1972).