إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التحدى الذى يواجه العرب


بسم الله الرحمن الرحيم
(يوَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
صدق الله العظيم

مقدمة:


هذا السفر هو "النذير العريان" نزفه لقومنا في أحلك مراحل تاريخهم وقد التبست السبل، وحار الدليل.
بين أيدينا، يعد الآن، كتاب عن (مشكلة الشرق الأوسط) يتوسع في دراستها التاريخية والسياسية والعلمية وفي أثناء هذا الإعداد، نظم الحزب الجمهوري مهرجان الفكر السياسي، لمواجهة أزمة الشرق الأوسط، يتوخى بهذا المهرجان تنوير الرأي العام السوداني في قضية مضى عليها عشرون عاما لم تظفر بمواجهة فكرية شجاعة، لا من الساسة المسئولين، ولا من رجال الفكر في العالم العربي.. بل كان المسئولون يحدثون الشعوب العربية دائما بما يهدهد عواطفها ويتملق شعورها.. وقد بدأ المهرجان ليلته الأولى بدار الحزب الجمهوري بالموردة بأم درمان، ثم أخذ يحمل محاضراته إلى أطراف العاصمة المختلفة، فأقام فيها ما يربو على الثماني محاضرات، التقى فيها بالطلبة، كما التقى بعامة الشعب. والذي خرجنا به من كل أولئك أن الاتجاه نحو التضليل الشيوعي، بين طبقات الشعب آخذ في الازدياد بصورة مزعجة، وقد أعانه على الانتشار تصريحات المسئولين، وكتابات الصحف، وإذاعة أم درمان. من أجل ذلك رأينا أن نخرج هذا السفر قبل أن يخرج كتابنا عن (مشكلة الشرق الأوسط) لعله يلفت الأنظار إلى خطر تتعرض له البلاد العربية عامة بصورة ما يحسن السكوت عليها.
إن على المسئولين واجبا الآن هو أن يقدروا، تمام التقدير، ان الشيوعية الدولية تستغل العرب أشنع استغلال، وتبسط عليهم وصايتها، وتبيح لنفسها ان تتحدث باسمهم بصورة لا تدل على انها تحترم تفكيرهم - وهل تعودت الشيوعية ان تحترم تفكير الآخرين -؟
ان العرب قد ساروا وفق سياسة خطأ منذ زمن طويل، وإنهم الآن يتخبطون تخبطا مؤسفا في نفس الطريق الخطأ، وقد أنى لهم ان يرجعوا عن هذا الطريق، قبل فوات الاوان، ومهما كلف الثمن.
ان هذا السفر لا مجال فيه للتفصيل وسيتم ذلك عند صدور كتابنا قريبا، ان شاء الله، عن "مشكلة الشرق الاوسط".

التحول نحو الشيوعية:


الصورة التي بها تم تأميم قناة السويس في السادس والعشرين من يوليو عام 1956، وما نتج عنها من العدوان الثلاثي على مصر في التاسع والعشرين من أكتوبر من نفس العام، تؤرخ تحولا اساسيا في تاريخ الدول العربية المعاصر. ذلك التحول هو الخروج بقضية فلسطين من اطارها الاول، والدخول بها، وبالدول العربية جميعها، في حلبة الحرب الباردة الناشبة بين الكتلة الشرقية، بزعامة الاتحاد السوفييتي، والكتلة الغربية، بزعامة الولايات المتحدة.. وأكثر من هذا، فان صورة التأميم، تلك قد عرضت الدول العربية لتحمل من عداوة الكتلة الغربية ما لا تستطيع ان تنهض به الا بالاعتماد على الكتلة الشرقية، وكذلك بدأ، من يومئذ، جنوح الدول العربية نحو الاتحاد السوفييتي، وقد أتاح هذا الجنوح للأحزاب الشيوعية، في داخل البلاد العربية، المختلفة، فرصة نادرة للترويج للأفكار الشيوعية بين الشعوب العربية، مستغلين، في ذلك الترويج، الموقف الذي أتاح العدوان للاتحاد السوفييتي أن يقفه كمدافع عن الدول العربية، وكصديق يمكن الاعتماد عليه في مواجهة الاعداء.
ولم تخل البلاد العربية، بعد العدوان، ممن يعرفون للشيوعية خطرها على بلادهم، وكانوا يناهضونها بالكلمة الملقاة، والكلمة المكتوبة، ولكن موقف الصداقة الجديدة، التي ظفرت بها الشيوعية الدولية وسط شعوب الدول العربية، قد جعل دعاة الشيوعية المحليين يجدون من العطف على دعوتهم ما لم يكونوا يجدونه من قبل.

الهزيمة العسكرية:


ثم جاء العدوان الثلاثي، الثاني، وأسبابه ترجع الى الصورة التي بها تم تأميم قناة السويس، أكثر مما ترجع الى قضية فلسطين وهو، على كل حال، لا يختلف في الدوافع التي بعثته، ولا في الاهداف التي توخى بلوغها، عن العدوان الثلاثي الاول، وان اختلف عنه في جودة حبكته، وفي اتقان اخراجه. وقد تعرض العرب - كل العرب - بهذا العدوان الاخير، الى هزيمة عسكرية، وهزيمة دبلوماسية بلغتا حد المهانة والاذلال، ووكدتا للعرب، من جديد، شدة حاجتهم الى صداقة الشيوعية الدولية، فأخذوا يلتصقون بها التصاقا يوشك ان يشارف نقطة (اللاعودة) وهذا هو بعينه ما كان يرمي اليه الاتحاد السوفييتي حين شجع العرب، بالتلميح، وبالتصريح، ان يعتمدوا على تدخله كلما تدخل الغرب، وهو بعينه ما كان يرمي اليه حين ورط العرب، بالتسليح، في ان يحتملوا من عداوة الغرب أكثر مما يطيقون. وهو قد كان يعلم يقينا اننا كلما افرطنا في معاداة الغرب كلما اشتد شعورنا بالحاجة الى مصادقته هو. ثم اننا انهزمنا عسكريا فلم يتدخل لمساعدتنا كما تدخل الغرب لمساعدة صديقته اسرائيل.. لا بأس!! فان أصدقاءه أخبرونا انه لا يستطيع ان يتدخل في حرب اقليمية لا يملك فيها قواعد عسكرية كما يملك الغرب، فلم يبق له الا المواجهة مما قد يؤدي الى حرب عالمية قد تستعمل فيها الاسلحة الذرية وذلك أمر هو يخشى عاقبته على نفسه وعلى الانسانية.. حسن!! ولكن لماذا لم يصارح العرب بكل ذلك قبل أن يتورطوا فيحملوا من العداوة ما لا يطيقون ان ينهضوا به بدون مساعدته؟ بل لماذا حرك، في مقابلة حركة الاسطول السادس، عشرا من قطع اسطوله من البحر الاسود عبر المضيقين الى قرب المياه الاقليمية العربية؟ ألا يوحي هذا، في حد ذاته، للعرب بنيته التدخل لمصلحتهم، إذا ما تدخل الغرب لمصلحة اسرائيل؟

والهزيمة الدبلوماسية:


وليته وقف عند هذا الخذلان وترك العرب يهتدون بالتفكير السديد ليكسبوا المعركة الدبلوماسية، بعد ان خسروا المعركة الحربية، فان الذي لا يعتمد على قوة السلاح قد تسعفه الحيلة، ويهديه الفكر.. ولكن الاتحاد السوفييتي، وكأنه يريد ان يعوض العرب عن تقصيره عن مساندتهم في الميدان العسكري، طار بقضيتهم الى الامم المتحدة، وأعطى نفسه حق التكلم باسمهم، ولما تعسرت القضية في مجلس الأمن طالب باسمهم بدعوة الجمعية العامة الى دورة استثنائية، وأباح لنفسه مرة أخرى ان يتحدث باسم العرب، وان يعرض قضيتهم، ومطالبهم، بصورة فيها من الشطط ما أظهر العرب بصورة المراهق الذي يعجز عن العمل، ويتمنى على الايام ما لا يكون.. فكأن الاتحاد السوفييتي يريد ان يوحي للعرب - وقد فعل - انه يمكن ان يحرزوا في ميدان الدبلوماسية ما عجزوا عن احرازه في ميدان السلاح.. وقد انساق العرب وراء ايحائه هذا فقادهم الى هزيمة دبلوماسية كانت بحق أفظع من الهزيمة العسكرية..
ان الاتحاد السوفييتي، في موقفه هذا من العرب، بين احدى خصلتين، أو هو بينهما معا: اما انه كان ينصب فخا للعرب لينهزموا في كل مجال فتسوقهم الهزيمة الى التعويل عليه، والتبعية له، او انه كان يتصرف بحسن نية، ولكن بقدر لا حد له من الغفلة والغباء.. وليس في كل اولئك ما يغري العرب بمصادقته..

الشيوعيون يستغلون الهزيمة:


ومهما يكن من شيء فإن التغني بصداقة الاتحاد السوفييتي للعرب هو اليوم على لسان كل عربي، من قمة المسئولية السياسية، وقمة المسئولية الاعلامية، والصحفية ومن كل من حمل قلما ووجد مجالا.. بل ان حملة الاقلام ممن لا يتغنون بالصداقة السوفييتية للعرب لا يجدون المجال، لأنه قد قام في اذهان العرب المسئولين ان الاساءة الى الصداقة السوفييتية العربية هي غرض من أغراض الكتلة الغربية ومن أجل ذلك وجب ان تحمى من النقد.. وهكذا آتت الفرصة الاحزاب الشيوعية في كل البلاد العربية، فنشطوا، وأخذوا يستغلون في الشعوب الغفلة والجهل، والحيرة التي لفت المسئولين وغير المسئولين في جناحها الاسود. كما يستغلون فيهم الميل الطبيعي الى الفرار من موطن العار الذي طوقتهم اياه الهزيمة ويستغلون عمل غريزة القطيع في القطيع عند استشعار الخطر، وغريزة حب الانتقام، ويستغلون عطف الناس على فلسطين - أرضها السليبة وشعبها المشرد - ويستغلون كراهة الناس لليهود.. يستغلون كل اولئك، وكثيرا غيره ليسوقوا الشعوب العربية الى حظيرة الشيوعية الدولية وهي معصوبة العينين.
فلا عجب اذن ان امسينا لا نسمع صوتا يرتفع، ولا كلمة تكتب الا في تمجيد صداقة الروس وذم أعدائنا الامريكان.. بل ان الأمر ليذهب الى أبعد من ذلك، فهذه جريدة الجمهورية القاهرية تقول، "لا شك ان من أهم الخطوات التي ستحقق النصر تصفية الثقافة الاستعمارية على الأرض العربية، ابتداء من المدارس والجامعات، والمعاهد العليا، الى الصحافة، والمسرح والاذاعة، ودور النشر، والسينما" والخطر في مثل هذا القول انه يبدو، للوهلة الأولى، قولا وطنيا نظيفا، ولكن إذا علمت ان العرب اليوم ليسوا ثقافيا بأصلاء، واذا علمت ان هذه الصحيفة لا تدعوهم اليوم، وهي لم تدعهم في أي يوم، الى ثقافتهم الاصيلة - الثقافة الإسلامية - وانما تقرهم على ما هم عليه من التبعية للثقافة الاجنبية، ظهر لك جليا ان هذه الصحيفة تدعو - علمت او لم تعلم - الى احلال الثقافة الشيوعية محل الثقافة الغربية الرأسمالية.. ومن هذا القبيل الاجراء الذي اتخذته حكومة سوريا، ونشرته مجلة الطليعة الدمشقية تحت عنوان بالخط العريض، وقد جاء في الخبر: (قد تقرر اغلاق المركز الثقافي الامريكي، ومعهد غوته والغاء ترخيصهما، ونفذ قرار الاغلاق فورا) فأنت حين تقرأ هذا الخبر قد تسر، وسيخبرك أصدقاؤك الشيوعيون انه قرار ثوري تقدمي، وسيمجدون، وسيدعونك الى ان تمجد معهم، الحكومة التي اتخذته.. ولكن هل يعيش الناس على فراغ ثقافي؟ ام أنت، في مثل حالنا الحاضر، حين تقاطع الثقافة الغربية تخلي المجال للثقافة الشيوعية، وتدفع الناس اليها دفعا، وتحرمهم حتى من فرصة الاطلاع على غيرها؟