إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التحدى الذى يواجه العرب

بسم الله الرحمن الرحيم
((وإن تتولَّوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم))..
صدق الله العظيم..

مقدمة الطبعة الثانية:


هذه هي الطبعة الثانية من كتاب (التحدي الذي يواجه العرب) الذي خرجت للناس طبعته الأولى في 5 سبتمبر 1967، لكي تواجه مناخ التضليل الشيوعي الذي ساد في أوساط السودانيين والشعوب العربية، عقب حرب يونيو 1967، وعقب مؤتمر القمة العربي الرابع الذي انعقد في الخرطوم في الفترة ما بين التاسع والعشرين من أغسطس والحادي من سبتمبر من عام 1967، والذي كان يروج لشعارات العداء للغرب، وصداقة الشيوعية الدولية، والمواجهة العسكرية مع إسرائيل، ورفض الصلح والسلام والتفاوض ـــ لاءات الخرطوم الثلاثة المشهورة..
وبعد مرور خمسة عشر عاما، ها نحن نعاود إصدار الكتاب في طبعته الثانية، عقب فترة مرت بها مشكلة الشرق الأوسط بعدة منعطفات، وخاض فيها فرقاء النزاع حربين أخريين، وعقدت فيها مصر، دولة المواجهة العربية الأولى، معاهدة سلام مع إسرائيل.. ولكن، وبالرغم من ذلك كله، فإن الموضوعات الأساسية والنتائج التي يبرزها التحليل السياسي في هذا الكتاب، لا تزال تحتفظ بصحتها، وقيمتها العلمية والموضوعية.. ولذلك فإن هذا الكتاب إنما هو ليومنا هذا، وذلك ما من أجله أعدنا إخراجه.. وسيكون جهدنا الأساسي في مقدمة الطبعة الثانية، منصبا على إبراز القيمة العلمية للكتاب وربط موضوعاته بآخر تطورات مشكلة الشرق الأوسط. إن هذه المقدمة إنما هي دعوة لإعادة قراءة هذا الكتاب على ضوء آخر الحقائق التي أفرزتها مشكلة الشرق الأوسط في مستوى حربها الخامسة بلبنان..

التحدي والتيه العربي:


لقد اتخذ هذا الكتاب لنفسه منهاجا أصوليا في تحليل وتشخيص الهزيمة العسكرية البشعة والنكسة التي تعرض لها العرب في يونيو 1967.. فهو قد ذهب منذ البداية إلى التأكيد بأن: "المشكلة التي تواجه العرب اليوم ليست كما يظنون مشكلة أرض فلسطين" "المشكلة أكبر من ذلك وأخطر.. هذه المشكلة الكبيرة الخطيرة هي أن المرحلة الحاضرة من تطور المجتمع البشري على هذا الكوكب الذي نعيش فيه قد واجهت العرب بتحد لم يسبق لهم أن ووجهوا به، بهذه الصورة الحاسمة، وما أرض فلسطين إلا البقعة التي فيها رمي قفاز التحدي".. ثم يذهب الكتاب، وبقدر كبير من صفاء الرؤية وشجاعة المواجهة في توضيح أبعاد هذا التحدي فيقول: "لكأن منطق تطور الحياة البشرية المعاصرة على هذا الكوكب يقول للعرب إن عليكم الآن أن تدخلوا التاريخ في القرن العشرين، كما دخله أوائلكم في القرن السابع فأشرقت بدخولهم على عالم يومئذ شمس مدنية جديدة، أو أن تخرجوا عن التاريخ لبقية التاريخ.." "هذا هو التحدي الذي يواجه العرب اليوم، كما واجه أوائلهم بالأمس. إما أن تدخلوا تاريخ يومكم بالإقبال على الله.. أو أن تخرجوا عن التاريخ إلى الأبد"..
لقد ذهل العرب عن هذا التحدي فذهبوا يواجهونه بغير أدواته، حين ظنّوه دولة إسرائيل والدول الغربية، ففسروا هزائمهم أمام إسرائيل بأنها نتاج لفساد الحكام العرب وللتواطؤ الغربي ضد الشعوب العربية، وما دروا أن الداء ليس مرهونا بفساد المؤسسات والأفراد، وإنما هو مشرج في صميم بنية الحياة العربية المعاصرة القائمة على قشور من الحضارة الغربية وقشور من الإسلام..
إن الكتاب بطرحه للتحدي في هذا المستوى الحضاري، إنما يعمد إلى قطيعة جذرية مع كل الأساليب التي تدغدغ العواطف النواضب وتتملق أحاسيس الكبرياء العربي الزائف، فتقف مع العرض دون المرض..

التحدي والتضليل السوفييتي:


لقد أثبت سياق الأحداث طيلة الحروب التي خاضها العرب ضد إسرائيل، أن مواقف الاتحاد السوفييتي في المنطقة تمليها مقتضيات الصراع الاستراتيجي الدولي بينه وبين أمريكا على اقتسام وإعادة اقتسام مناطق النفوذ في العالم، وتكمن وراء ذلك محاولة الروس للإخلال بتوازن القوى كمرحلة نحو بسط نفوذهم على العالم.. وحسب ما يذهب إليه هذا الكتاب في توضيح أبعاد الاستراتيجية السوفييتية في المنطقة، فإن الاتحاد السوفييتي "قد شجّع العرب بالتلميح والتصريح أن يعتمدوا على تدخله كلما تدخل الغرب، وهو بعينه ما كان يرمي إليه حين ورَّط العرب بالتسليح، في أن يحتملوا من عداوة الغرب أكثر مما يطيقون. وهو قد كان يعلم يقينا أننا كلما أفرطنا في معاداة الغرب كلما اشتد شعورنا بالحاجة إلى مصادقته هو.. ثم إننا انهزمنا عسكريا فلم يتدخل لمساعدتنا.." "إن الاتحاد السوفييتي في موقفه هذا من العرب" "كان ينصب فخّا للعرب لينهزموا في كل مجال فتسوقهم الهزيمة إلى التعويل عليه والتبعية له"..
هذا هو ما فعله الاتحاد السوفييتي في حرب يونيو 1967، حين دفع عبد الناصر دفعا للحرب، فنقل إليه معلومات خاطئة مفادها أن اسرائيل تحشد قواتها لغزو سوريا، ثم في اللحظة الأخيرة طلب منه عدم البدء بالضربة الأولى، ليتلقى عبد الناصر هذه الضربة الأولى، ويخذله السوفييت فيخسر الحرب ــ راجع كتابنا (السادات) وهذا هو ما فعله الاتحاد السوفييتي أيضا في الحرب الخامسة بلبنان.. فحسب ما نقلته مجلة (المجلة) عدد 126، الصادر بتاريخ 10 يوليو 1982، فإنه قد: "تعهد الاتحاد السوفييتي خلال الأسابيع التي سبقت الغزو الاسرائيلي المتوقع للبنان بدعم سوريا في حالة نشوب قتال مع اسرائيل، بما في ذلك، إرسال عسكريين سوفييت لتشغيل بطاريات صواريخ (سام) سوفيتية الصنع، في سوريا نفسها" "وقد عكست هذه الوعود السوفييتية الثقة المتزايدة في لهجة السوريين الذين أعلنوا أنهم سيتدخلون في القتال إلى جانب الفلسطينيين إذا غزت اسرائيل جنوب لبنان"..
هكذا هيأ الاتحاد السوفييتي أذهان السوريين والفلسطينيين إلى أنه سيدعمهم، ولكنه وعندما نشبت الحرب بالفعل، تخبرنا (المجلة) بأنه "ألقى بثقله الدبلوماسي من أجل الحيلولة دون نشوب مواجهة شاملة بين اسرائيل وسوريا ولبنان، قد تتطور إلى حرب شاملة، يعتقد السوفييت أن السوريين سيخرجون الخاسرين منها، وركّز جهوده على مساعي وقف إطلاق النار، حتى لا يتورط بالوفاء بالتزاماته لسوريا بموجب معاهدة الصداقة والتعاون.."..
إن الخذلان السوفييتي للعرب في الحرب الأخيرة بلبنان، قد بدا واضحا بصورة دفعت أصدقاءه أنفسهم لانتقاده.. فكما تخبرنا مجلة (الحوادث)، 30 يوليو 1982: "فقد ذهب عرفات أكثر من مرة إلى دار السفارة السوفييتية في بيروت الغربية، حيث اجتمع مع السفير ألكسندر سولداتوف ثم انقطع عن القيام بزياراته إلى هذه السفارة. إلى أن جاءه سولداتوف يعرض عليه الخروج من بيروت على ظهر سفينة حربية سوفيتية، مما دفع عرفات إلى تحذير السفير السوفييتي من أنه قد يكون مضطرا إلى قطع علاقات المنظمة بالحكومة السوفييتية، إذا تلقّى عرضا مماثلا من موسكو.." ــ انتهى ــ كما أن الزعيم الفلسطيني نايف حواتمة، والذي يتزعم منظمة (الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين)، والتي يعتبرها السوفييت بمثابة الحزب الشيوعي داخل حركة المقاومة، نقلت عنه مجلة (الحوادث) في العدد السابق المشار إليه، الخبر التالي: "لا تزال التساؤلات تطرح حول سبب انتقاد نايف حواتمة، زعيم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، لكل من جبهة الصمود والتصدي والاتحاد السوفييتي بسبب الوضع في لبنان. ومرجع التساؤلات أن حواتمة، كان من أشد المؤيدين للذين ينتقدهم".. وتستطرد (الحوادث) قائلة: "كما تقول هذه المعلومات أن ياسر عرفات يتوسط بين المملكة العربية السعودية وبين الجبهة الديمقراطية، بعد أن أعلن حواتمة أنه لم يعد ماركسيا بل اشتراكيا".. انتهى.. هكذا اضطر حلفاء موسكو لانتقادها، ويصل هذا الانتقاد ذروته فيما تنقله لنا، مجلة (الحوادث)، 9 يوليو 1982، عما فعله القذافي (رجل موسكو بالمنطقة)، فتقول: "العقيد معمر القذافي غاضب جدا من الاتحاد السوفييتي بسبب موقفه اللامبالي من الغزو الاسرائيلي للبنان.. وقد استدعى العقيد سفراء معظم دول الكتلة الشيوعية ليقدم إليهم رأيه بشأن الموقف السوفييتي.." وتواصل المجلة، فتقول: "وقال لهم الرئيس الليبي: إن الصداقة بين القوى العربية التقدمية ودول الكتلة الاشتراكية في نفس الخطر الذي يحيط المقاومة الفلسطينية، وهي على وشك الالتهاب بنفس الطريقة التي تكاد فيها بيروت أن تشتعل.. وقالت مصادر دبلوماسية أن المقابلة دامت خمس دقائق فقط طلب إثرها العقيد أن يخرج السفراء من الاجتماع فورا!" انتهى..
ولم يستثن البرود السوفييتي تجاه الأحداث اللبنانية، إلا الدور النشط والفعال لأمريكا طيلة فترة الحرب اللبنانية.. فعندما نقلت الأخبار أن أمريكا قد عقدت العزم على إرسال بعض قواتها، ضمن قوات دولية أخرى، لكي تساهم في "فصل القوات" بلبنان، استشاط الزعيم السوفييتي برجنيف غضبا وقال: "إننا نعترض بلا قيد أو شرط على ظهور قوات أمريكية على الأرض اللبنانية، وقد سبق أن أصدرنا تحذيرا بهذا الخصوص".. راجع مجلة (الحوادث)، 30 يوليو 1982 ــ الأمر الذي يثبت أن السوفييت لا ينظرون إلى الأحداث في المنطقة إلا من زاوية صراعهم الاستراتيجي مع أمريكا.. هذا بالإضافة إلى أن الاهتمام السوفييتي لم يتحرك تجاه الأحداث في لبنان، بقدر تحركه نحو ما أثبتته المعارك من ضعف لفعالية الأسلحة السوفييتية في وجه الأسلحة الأمريكية الأكثر تقدما خاصة في حقل الالكترونيات.. فقد نقلت الأخبار أن السوفييت بعد ضرب صواريخهم في سهل البقاع قد "قاموا بشحن عدد من هذه الوحدات المضروبة إلى بلادهم لإخضاعها إلى فحوصات مكثفة.. كذلك قام السوفييت بشحن دبابة مضروبة في لبنان من طراز تي ـ 72 لمعرفة لماذا استطاع الاسرائيليون تدمير عدد كبير من هذه الدبابات المتطورة جدا" ــ راجع مجلة (المجلة)، 10 يوليو 1982ــ.
فلكأن السوفييت قد انزعجوا لفشل اسلحتهم، الأمر الذي يهدد سمعتهم عند أصدقائهم، فهم يريدون للعرب أن ينهزموا، ولكنهم لا يريدون أن يكون سبب الهزيمة هو ضعف فعالية أسلحتهم، بصورة تهدد نفوذهم في المنطقة.. إن ما ذهب إليه كتابنا هذا من أن الاتحاد السوفييتي "ينصب فخّا للعرب لينهزموا في كل مجال فتسوقهم الهزيمة إلى التعويل عليه والتبعية له"، أمر أثبتته الأحداث في كل حرب يخوضها العرب..

التحدي والحل الآجل والعاجل:


لقد كان الجمهوريون أول من دعا العرب إلى الاصطلاح مع اسرائيل انطلاقا من تصور حضاري لمشكلة الشرق الأوسط.. وحين كان العرب ينظرون فقط إلى الهزيمة العسكرية في يونيو 1967، كان الجمهوريون ينظرون إلى الهزيمة الفكرية والهزيمة العلمية التي حلّت بأهل (القرآن) وأهل (العلم).. فالعرب يعيشون على قشور من الحضارة الغربية وقشور من الإسلام، وهم لا يمتلكون أدوات المناجزة، حيث أنهم لا يصنعون السلاح ولا يحسنون استعماله.. الأمر الذي يضعهم منذ البداية في اتجاه الالتفات إلى داخليتهم يعيدون علاقتهم مع ربهم، ويقيمون حياتهم وفق هدى مدنية جديدة تقوم على أصول الإسلام، وتتصدى لحل ما فشلت فيه الحضارة الغربية وهو التوفيق بين حاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، وحاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، أي تحقيق السلام على الأرض..
وهذا يقتضي حلا عاجلا لمشكلة الشرق الأوسط به ينفض العرب أيديهم من الصراع العسكري، الذي ربطهم بالمحاور الدولية، وأبعدهم عن دينهم.. وحسب عبارات الكتاب: "المرحلة العاجلة الغرض منها إيجاد فترة متنفس أو قل هدنة يباشر العرب فيها حل المرحلة الآجلة".. ان اقتراح الجمهوريين بالحل السلمي لمشكلة الشرق الأوسط، والذي استنكر في وقته، بدأ يتضح للكثيرين أنه اقتراح عملي، فها هي الحرب الخامسة في لبنان تثبت أن العرب عمليا عاجزون عن الحرب، فحتى سوريا والتي كانت تعتبر نفسها دولة المواجهة الأولى، تركت الفلسطينيين وحدهم فريسة للآلة الاسرائيلية المتقدمة، مبرمة اتفاقا سلميا (صامت) بينها وبين الاسرائيليين.. هذا بالإضافة إلى تضافر عوامل جديدة تجعل الحرب غير ممكنة، منها أن التضليل السوفييتي للعرب لم يكن من الوضوح بمثل ما هو عليه اليوم، مما يجعل كل دعوة للاعتماد العسكري عليه دعوة ساذجة جاهلة.. أضف إلى ذلك فقدان الفلسطينيين لقواعدهم العسكرية بلبنان وتشتتهم في الدول العربية، مما يحرمهم من ميزة الوضع العسكري الذي كانوا يتمتعون به في لبنان، مباشرين فيه للحدود الاسرائيلية، وواضعين فيه المستعمرات الاسرائيلية تحت مرمى مدافعهم.. مما يؤدي في النهاية إلى ربط حركة المقاومة الفلسطينية بالخط السياسي للدول العربية والتي وضح أنها غير راغبة وغير قادرة على الحرب..
إن التحدي الذي يواجه العرب، والذي أكدناه بعد حرب يونيو 1967، يعود اليوم بعد حرب يونيو 1982، بضراوة أشد، ومستوى أكبر من النذارة: فإما أن ينتصر العرب بمدنية الإسلام، وإما أن يخرجوا عن التاريخ.. وكما يقرر كتابنا هذا، فإن "الاسرائيليين يعيشون على لباب المدنية الغربية الآلية فيحسنون أساليب الحرب الحديثة، بينما يعيش العرب على قشور هذه المدنية، فهم لا يصممون الآلة ولا يصنعونها ولا يحسنون صيانتها ولا استعمالها. ولذلك لم يكن لهم بصر بالحرب العلمية الحديثة"..
هذا ما أثبتته حرب يونيو 1967 حين فقدت مصر سلاح طيرانها بعد الضربة الجوية الخاطفة التي تعرضت لها بواسطة الطيران الاسرائيلي، وهذا ما أثبتته حرب يونيو 1982 حين فقد السوريون قواعد بطاريات صواريخ (سام) في سهل البقاع بلبنان بعد الحرب الالكترونية المذهلة التي شنّها الاسرائيليون وطوّعوا فيها أرقى منجزات الثورة التكنولوجية الأخيرة في مجال الالكترونيات لتطوير قدراتهم الهجومية والدفاعية!! وهكذا يثبت عمليا أن العرب، وهم في هذا المستوى من التخلف الحضاري والتكنولوجي عاجزون عن هزيمة الحضارة الغربية عسكريا والتي تمثل اسرائيل تجسيدا جغرافيا وسياسيا وعسكريا لها.. ثم انه ومن الناحية المبدئية، فإن البشرية لا تريد من يعلّمها صناعة الحرب، وقد سلخت عمرها الطويل في طريق الدم والدموع والعرق واكتوت في تاريخها المعاصر بجحيم حربين عالميتين وهي تكاد تعيش أجواء الحرب الثالثة!! إن البشرية المعاصرة قد فشلت في تحقيق السلام على الأرض وأصبحت حاجتها له حاجة حياة أو موت.. فما ينبغي على العرب هو أن ينهضوا إلى مستوى قامة التحدي، فيبعثوا مدنية الإسلام ــ مدنية السلام ــ فيهم، ومن ثم، يملكون وفقها أن يرزقوا البشرية الضاربة في التيه دما جديدا يجدد خلايا الوجود ويعيد إليه المحبة والسلام فيدخلوا التاريخ، كما دخله أوائلهم..
نحن نريد أن ننطلق من تخلّف التكنولوجيا الحربية والسلمية للعرب على أنهم لا يعيشون عصرهم ولا يعيشون الإسلام.. فهم في حقيقة أمرهم إنما يصارعون العقل الغربي المعاصر، الذي صنع الحضارة المادية، والتي يعيشون هم على قشورها، والذي هو اليوم في قمة تحقيقاته المادية وانجازاته العلمية، وثوراته التكنولوجية.. هم يواجهون هذا العقل بالذهنية العشائرية والروح القبلية العربية والتعصب العقيدي والقومي!! وحسب تعبير الكتاب: "فهم يحاربون بالعنصرية العربية، العنصرية الاسرائيلية "الصهيونية".. يهود يحاربون يهودا !!"..
وكما يستطرد الكتاب، فإن "العرب لا يفكرون وإنما يسيرون في طريق الحياة المعاصرة، بالعواطف والتمنيات، وبحسبهم هذا شرا".. فهم على الرغم من الثراء المادي الذي جلبه لهم البترول، ومحاولاتهم لشراء وزرع الحضارة المادية في قلب الصحراء، فإن صحراء الفكر العربي قد أقعدتهم عن تمثل روح العصر التواقة إلى (العلم): العلم المادي التكنولوجي المسيطر حاليا، والعلم المادي ــ الروحي المطوي بين دفتي المصحف، والذي سيسيطر في المستقبل، والذي يُفترض في العرب استجلاؤه وبعثه، إذ به عزتهم وكرامتهم ونصرهم الحقيقي على الحضارة الغربية..
ولسنا نجد كلمات تعبر عن رحلة التيه العربي والاغتراب العربي الراهن، هي في سطوع وجلاء وبلاغة عبارات الكتاب الآتية: "إن العرب اليوم في التيه.. وهم في التيه، ولا موسى لهم، ولا هارون، ولا يوشع.. بل ولا مولى لهم.. نسوا الله فنسيهم الله: ((كذلك أتتك آياتنا فنسيتها، وكذلك اليوم تنسى..))..".
إن الله غيور على العرب، بما جعلهم ورثة المصحف العربي، وعترة النبي العربي، وبما جعلهم سدنة دين التوحيد.. وما طرف البلوى والنكسات التي يتعرضون لها في تاريخهم الحديث، إلا نار التجربة التي إذا أحسنوا الاستفادة منها ستؤهلهم لأداء رسالتهم، وهي رسالة مدنية وأخلاق وسلام، تلقّح الحضارة الغربية الآلية الحاضرة.. فالإسلام في مستوى أصوله، وكما تقدمه الفكرة الجمهورية، هو يوشع العرب الذي سيخرجهم من صحراء التيه إلى أرض المعاد، وسيكون غدهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر..