إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

ألحان و معاني الإنشاد العرفاني
يُمهدان للبعث الديني

الإنشادُ العرفاني عند الأخوان الجمهوريين


الإنشاد العرفاني هو إنشاد القصيد العرفاني، وهو القصيد المشتمل على المعاني المعبرة عن العرفان بالله، ومن أعلامه، في الماضي، الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، والشيخ عبد الغني النابلسي، والشيخ إبن الفارض، والآن فإن الدعوة الإسلامية الجديدة، بما فتح الله عليها، وبما استأنست من التراث الصوفي، والمعارف الإنسانية، فقد صعَّدت، ببعض أبنائها، الإنشاد العرفاني الي قمة جديدة من المعرفة بالله إتسمت بوضوح الرؤيا، كما إتسمت بعمق العبارة، ودقة المعنى.
وقد إتجه الأخوان الجمهوريون الى نشر الإنشاد العرفاني كما إتجهوا الى نشر "المديح النبوي".. فبعثوا، بهذا الإنشاد، التراث الصوفي الذاخر بالمعارف الرقاق، وقدموه الى عامة شعبنا في ألحان جديدة، وأصوات جديدة.. فنحن إنما نتخذ، بالإنشاد اللحن وسيلة الى نقل المعنى، مخاطبين العاطفة، متسامين بها الى مراقي الفكر.. والإنشاد عندنا، مرتبط، أوثق الإرتباط، بشخصية المنشد.. فبقدر ما يضفي على الإنشاد من روحانيته الخاصة بقدر ما يكون نفاذه الى قلوب المستمعين.
وقد توفرنا، بحمد الله، على كل مقومات الإنشاد العرفاني المتمثلة في: مجلس الإنشاد، وفي المنشد، وفي القصيد، وفي اللحن. وسنتناول، فيما يلي، كل واحد من هذه المقومات ببعض التفصيل.


((1)) مجلس الإنشاد


يتم الإنشاد، في أغلب الأحيان، في مجلس مختلط من الأخوان والأخوات الجمهوريات.. وهو مجلس فكر، وذكر، يُرعى فيه أدب مجلس الفكر، والذكر.. وفيه ينتظم الجالسين تيار روحى عال - تيار يوحدهم في اهتمام واحد، هو اطراح كل شاغل عن الله، والتزام الحضور معه، في أدب جم، وفي جمعية تامة، وفي صمت شامل، حتى إذا ما سرى الإنشاد، فيما بينهم، وهم يستمعون اليه، ويرددونه، إخواناً وأخوات، لفّهم الفرح، وإعترتهم الشفافية، حتى لكأن أجسامهم قد طفت فوق التيار الروحي الساري، وهم قد صاروا أكثر تسليماً لله، ورضا به. فمجلس الإنشاد، عند الجمهوريين، مجلس "مروحن" ، محفوظ، مرعي، ومحفوف بأبرك البركات.. يلقي فيه المنشد مثلما يلقي المصلي لصلاة الجماعة من عَضُد ومن مدد روحيين إذ يشارك هذا المجلس المنشد في ترديد مقاطع القصيد مشاركة حِسيَّة، وروحية.. فالمجلس هذا من أهم مقومات الإنشاد العرفاني، حيث يتوفر الجو الروحي المتسامي الذي يكسب عمل الإنشاد الوقار، والجدية، ويحفظه من الإستهتار، ومن السفه.

((2)) صَوتُ المُنْشِد


والمنشد الجمهوري يتميز بالخصائص التالية:
(1) الموهبة الطبيعية، وهي الصوت الشجي، المعبر، المؤثر.
(2) وموهبة الصوت إنما تصقلها وتُجَمِّلها العبادة المجودة، والسلوك الرَّصين.. وأقوى ما يصقل صوت المنشد صلاة التلت الأخير من الليل، والتي هي من ألزم التزامات الأخوان الجمهوريين بعد المفروضات، وذلك إنتهاجاً منهم للسنة النبوية الشريفة.. فهذه الصلاة تبرئ صوت المنشد من أن يكون صدى حاكياً لفضول الخواطر، وأحاديث النفس والبطالة.. أو أن يكون تعبيراً عن هوى ملتوٍ، ورغبة دنية. فصوت المنشد صوت قوي بأنوار العبادة، ممدود بأنفاس العرفان.
(3) وهو، الى ذلك، صوت حار، لأنه إنما هو صوت داعية صادق تتوافر فيه حرارة الدعاة الصادقين.. فالمنشد الجمهوري داعية، بلسان حاله، وبلسان مقاله، الى البعث الإسلامي، وله نشاطه اليومي، ومبادراته في سبيل هذا البعث.. ومن ثم حرارته، وهو ينشد، متخذاً الإنشاد وسيلة من وسائل الدعوة.. وذلك مما يعصمه من إتخاذ الإنشاد وسيلة للتكسب والتباهي.
(4) وهو، بعد، صوت لصيق بكلمات الإنشاد، لأن صاحبه يعرف طرفاً صالحاً من المعارف التي ينشدها، ويضع أقدامه في الطريق الموصول بها.. والله تعالى يقول: ((يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ * كبر مقتاً، عند الله، أن تقولوا ما لا تفعلون))... ومن ثم صدق المنشد الجمهوري الذي يجد نفاذه الى القلوب.
(5) ويتميز المنشد الجمهوري، أيضاً، بالثقافة.. فهو إبن عصره، ووريث التراث البشري، برمته.. والإنشاد، عنده، رسالة يشعر بشرف حملها، ويتحمل عظم مسئوليتها في تفانٍ وإقتدار.. ومن ها هنا انطلاق صوته، وتحرره من كل عقد النقص.
هذه هي مقومات صوت المنشد.. وهي هي ما يميز الإنشاد عند الجمهوريين من الإنشاد التقليدي الذي لم يجد، حتى الآن، الذيوع الكافي بين عامة الشعب.
وكما أن المنشد يعطي الإنشاد كثيراً من نفسه، فإن الإنشاد، بدوره يعطي المنشد - ويعطيه أكثر. فالأثر السلوكي للإنشاد على المنشد جد بليغ.. إذ هو يجمعهُ من توزع، ويوحده من إنقسام، وذلك لمتابعته الواعية لما يردده من القصيد، وما يصدح به من اللَّحن. كما أن الإنشاد يهذب خواطر المنشد، وينغم نشازه الداخلي.. وذلك لما يتردد في جنبات بنيته من أصداء الألحان المباركة، وما يعتمل في نفسه من وضيئات المعاني والكلمات.

((3)) كلمات الإنشاد


ويتخير المنشد الجمهوري ما ينشده من القصيد، تخيراً يقصد به الي تقديم ما يوسع مدارك العرفان، وما يبعث على المحبة، وما يشحذ الهمَّة، وما يعين على تسديد عيوب السلوك.. وهو، بذلك، متسامٍ بالعاطفة، صعداً، في مراقي الفكر.. حتى إذا ما انفض الناس من مجلس الإنشاد، أو فرغوا من الإستماع اليه، كانوا على ذكر وفكر، وهمة عالية، وروحانية غامرة..
ونحن الأخوان الجمهوريين، إذ نقدم قصيد القوم الى عامة الشعب في آنية الصوت واللحن الجديدة إنما نعمد الى بعث التراث الصوفي والى نشره لأننا ورثته، ولأن دعوتنا تتويج له.. ودعوتنا الى إحياء السنة إنما هي، في نفس الوقت، دعوة الى تنقية التصوف مما شابه، والعودة به الى عمدته محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة وأتم، وأكمل التسليم..
ونعمل، ونحن نسجل مجالس الإنشاد على أشرطة التسجيل، على تقديم القصيد العرفاني بمقدمة قصيرة تتحدث عن المناسبة، زماناً ومكاناً، وتبين هويتنا، وتؤكد إتجاهنا، بنشر الإنشاد العرفاني، الى البعث الإسلامي، ثم يشير الشرح الموجز، أشد الإيجاز، المصاحب للقصائد، بعض الإشارات، الى معاني القصيد المسجل. ولقد إكتفينا في هذه المرحلة، بهذا القدر القليل من التقديم والشرح بقصد أن نؤاخي، أولاً، بين الناس وهذا اللون الجديد من الإنشاد.. ولكن الخطوة التالية، لنا، ستكون التوسع أكثر في التقديم والشرح لتبسيط معاني هذه المعارف الرفيعة حتى تشيع بين أفراد الشعب. وقد طلب إلينا هذا التوسع في الشرح عدد من المعجبين المتابعين لإنشادنا، فلزمنا لهم حق الشكر.

((4)) لحن الإنشاد


يقدم الأخوان الجمهوريون الإنشاد في لحن شجي يتسم باللَّطافة، والخفة، والتجدّد، مما يجعله قريباً الى القلوب، سهل الإستيعاب والتناقل.. وبذلك خرجوا، بالإنشاد، من التقليدية الى العصرية، ومن الرتابة الى التجدُّد، كما أدخلوا على الإنشاد عنصر المشاركة الجماعية بصورة تضع دورها في مرتبة دور المنشد نفسه، وذلك بما يصحبه من "كَوْرَسْ" يردد معه كثيراً من المقاطع، مكوِّناً بذلك، خلفية صوتية رائعة..
وبالطبع لم تكتمل لهذا "الكَورَسْ" كل المقومات الفنية التي يقتضيها مثل دوره.. بل إننا لم نقصد في هذه المرحلة، إلى أن نكون "فنانين"، على قدر كبير من الإجادة الفنية البحته، وإنما نحن نقصد، في المقام الأول، إلى نقل المعاني العرفانية الرفيعة، ونقل المستوى الرفيع من الروحانية إلى المستمع.. ولعل هذا العمل، الذي هو إلى "الفطرية" أقرب منه إلى الصنعة "الفنية"، أن يكون أقرب الى بساطة شعبنا وأميَّته.. ومن ثم، أفعل في التأثير النفسي، وأدخل على القلوب..
ولحن الإنشاد، عند الجمهوريين، واضح التميز من الألحان الغنائية الشائعة، اليوم، وذلك بما يحفه من جو روحاني وقور، وما ينقله من معان عرفانية رفيعة، وما يحتويه من صوت منوَّر بأنوار العبادة، مهذب برصانة السلوك.
ولتميز إنشادنا عن الإنشاد التقليدي، من جهة، وعن الغناء، من جهة أخرى، يعلق كثير من المستمعين إليه بأنه شئ لا هو بالإنشاد، ولا هو بالغناء!! ولعل ذلك أن يكون لبراءته من جميع سلبياتهما، ولجمعه بين روح الدين وروح العصر..