إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الاهتمام بالإنشاد الديني لازم حركة الأستاذ محمود منذ بدايتها، وكان الجمهوريون في البدايات يستمعون إلى المديح السوداني من عدة طرق صوفية، ويدعون المداح لرفد جلساتهم بهذا الفن الهادف.. فبرز بين الجمهوريين من يؤدي قصائد أعلام الطرق الصوفية بأداء فردي، ثم تطور إلى جماعي.. وفي غضون ذلك أخرجت حركة الجمهوريين شعراء مجيدون خير من يمثلهم شاعرنا الأستاذ عوض الكريم موسى عبد اللطيف الذي نحن بصدد إحياء ذكراه الثانية بهذه المقالات.. ولقد توسعت حركة الإنشاد الجمهوري شعرا ولحنا وأداء مع تزايد الشعراء الجمهوريين حتى اكتفت ذاتيا..
هذا وقد أشار الأستاذ محمود إلى أن الإنشاد العرفاني مكمل لنشاط الدعوة الإسلامية الجديدة وليس بديلا عنها، وهو عمل فني تستريح فيه النفوس من عناء الحركة، إذ تصاغ الأفكار على اللحن البسيط، وتؤدَّى بصوت المنشد والمجموعة الحاضرة.. ولم يقر الأستاذ محمود مصاحبة العزف بالآلات الموسيقية للإنشاد، حيث لا تؤدي الآلة روحانية الصوت الجماعي المردد مع المنشد، كما لا تؤدي الذكر بالاسم المفرد "الله" وعموما لا ترقى الموسيقى مرقى الصوت الإنساني العذب.. وليس هناك موقف مبدئي ضد الموسيقي، في فكر الأستاذ محمود وإنما الخيار دائما للأولى والأرفع في المرحلة المعينة.. وكما هو معلوم للجميع، فإن الموسيقى ارتبطت في أذهان الناس في مجتمعنا السوداني بالغناء العاطفي وبمجالس الأنس والسكر وقتل الوقت باللهو حتى إن المجتمع دمغ الفنانين بعبارة (الصياع) ولذلك استبعدت تماما من الإنشاد العرفاني..
ولقد عُرض الانشاد العرفاني للجمهور بصورة عريضة في معرض (الفكر والألحان) بمنزل الأخ محمد فضل الصديق بالموردة عام 1976م، ووزعت في ذلك المعرض تسجيلات الإنشاد على أشرطة الكاست، وفي كلمة الافتتاح قال الاستاذ محمود:
(والألحان على التحقيق لأول مرة تعرض في معارضنا، واللحن أقدم من كل لغة، وأقدم من كل مخاطبة تتوجه الى العقل.. واللحن في الحقيقة تتأثر به الحيوانات والنباتات، ومن المحقق أن هزاته تؤثر في الكون كله، حيث إن الكون كله لحن متحرك.. الصورة لحن مجسد ويمكن أن يقال أن اللحن صورة غير مرئية، والصورة لحن مرئي.. ولذلك فإن الصورة واللحن سيكسبان هذه الحركة الميمونة لوناً جديداً من الحيوية، ولوناً جديداً في الاتجاه الى مخاطبة شعور الناس.. والشعور بطبيعة الحال سابق على الفكر، وأقرب طريق لإفهام الناس، هو مخاطبة شعورهم أولاً، فإذا كانت المخاطبة من النوع المتسامي بالعاطفة، يستعد العقل لتقبل المعاني التي تطرح).. انتهى
وحول العلاقة التاريخية بين الدين والفنون جاء في الكلمة :
(ومن غير شك، فإن الزواج بين الدين والفن زواج قديم، زواج أزلي، ولكنه لم يكن زواجا موفقا، كانت المناكفات فيه كثيرة، زيجة فاشلة كانت.. والمناكفات ذهبت الى أن تكون الأديان محرمة لألوان من الفنون، وحُقّ لها أن تحرمها لأن الفنون انصبغت بمصاحبة اللهو، والديانات في عباداتها انصبغت، واتجهت لتصر دائما على نوع من الجدية ونوع من الانضباط.. ولكننا نحن في الدعوة الإسلامية الجديدة التي تقوم على بعث أصول الدين، نرى أن المسيرة ستتجه الى رفع الحواجز جميعها، حيث يفضي الأمر في نهاية المطاف، الى إعادة الأشياء كلها الى الحل، إذ أن الحرمة، خاصة فيما يتعلق بالفنون، حكم عقلي، الحكمة وراءه سوق الناس الى الجد والانضباط بدل أن يتوزعوا، ويشتتوا خواطرهم باللهو، أو مايدعو الى اللهو..
وبطبيعة الحال، كل الحرمة من حيث هي، إنما هي حكم عقلي، وإذا استغنت العقول عن الحرمة، ترجع الأمور إلى الحل في نهاية الأمر "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما " ..الفكر الإسلامي في تساميه يسير الى أن يرتفق بكل ما في الوجود، ليصل الى الله، لأنه ليس لله عدو، وليس لله ضد، وإنما كل الأشياء تسبح بحمده، وتسجد له، وتقدسه، وتكبره، وتعبده، ولكننا نحن لا نفهم هذا التقديس وهذا التسبيح.. فإذا فهمنا، فإن كل الأشياء مطايانا إلى الله ، وبصورة مؤكدة الفنون) انتهى..
وعلى ذكر استعانة الدعوة الجمهورية بأصوات المنشدين وألحان الإنشاد، ظل الجمهوريون يختمون جلساتهم بتلاوة القرآن الكريم بصوت الحفظة منهم كالأخوين أو أيِّ حافظ..
ثم أخرج الأخ عبد الله فضل الله تلاوة جديدة خاصة بالجمهوريين وسجلت بتلاوة فردية منه وبتلاوة جماعية من مجموعته.. ثم أذن المرشد لهم بافتتاح جلساتهم بتلاوة جماعية لسورة القدر ذات القدر العرفاني الجليل، وآخى بينها وبينهم برسالة مكتوبة.. كما أذن لهم بالذكر الصوتي الجماعي للاسم الأعظم مفرداً (الله).. وقد أشار الأستاذ محمود إلى أن الذكر بالاسم المفرد إنما يستجمع الروح ويستخلصها كما يستخلص "الزبد" من "اللبن"، وحلقة الذكر يجري بحركة صوتية ثلاثية بلحن بسيط (الله الله الله)، لترسيخ معنى توحيدي أساسي وهو أن لقاءنا الله لا يتم في الماضي ولا في المستقبل وإنما نلقاه في اللحظة الحاضرة.. فكأن (الله) الأولى تشير إلى الماضي، والأخيرة تشير إلى المستقبل، أما الوسطى فتشير إلى اللحظة الحاضرة، ولذلك يرد بها قادة الذكر على سؤال الذاكرين المستمر عن (الله) بتبادل في الأدوار مرسوم وفق لحن دائري، وهكذا تدور العملية بحركة هادئة يمينا وشمالا لا رقصا .. ويجري ذلك بانسياب لحني ممتع، ويمكن التحكم في سرعة الذكر زيادة أو نقصانا حسب توجيه المرشد.. وهكذا أعطت الفكرة الجمهورية قيمة عرفانية وسلوكية لتلاوة القرآن الكريم، والإنشاد، والذكر..
ختاما فلنتأمل معاني هذه القصيدة التي تدور حول منهج التوحيد في ضرورة أن نختار ما يختاره الله لنا (فخيرته هي المقصود خير من مقاصدنا)
ونسأل الله أن يكرم أخانا عوض الكريم في برزخه ببركة هذا الحضور النبوي الذي أكرمنا به في قصائده..
أفقنا من مراقدنا إلى مرقى مشاهدنا
وجدنا كنزنا المخبوء ليلاً في مساجدنا
صراح علمنا المورود من أصفى مواردنا
ولم نسأل له البرهان وهو يقين شاهدنا
خشينا كيد هادينا فلم نحفل لكائدنا
وقد سادت بشائرنا فلا رجعى لسائدنا
ولم نسأل أمانينا لآتينا وبائدنا
فخيرته هى المقصود خير من مقاصدنا
لحمد الله كافينا فنينا عن محامدنا
فهذي منة المنان هاجت ليل هاجدنا
نهضنا يقدح الأنوار فينا فكر راشدنا
كباراً قد تبوأنا به عليّاً مقاعدنا
هنا والآن نلقى الله وهو أعز عائدنا
هنا والآن نطوي همنا في جنب واحدنا
هنا والآن فلنحضر لقاصدنا وواجدنا
هنا والآن فلننصب خيام العبد زاهدنا
ونستصفي خلوص العبد من إشراك عابدنا
عتقنا من حوائجنا فطمنا من عوائدنا