إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
لقد ركزنا في الحلقة السابقة على التمييز الدقيق بين السنة والشريعة، فيما يختص بالعبادات.. وقلنا إن السنة التي بشرنا حديث الغرباء بأن الإسلام سيبعث على هداها، إنما هي عمل النبي الكريم في خاصة نفسه.. ولترسيخ معاني السنة أكثر، نتناول معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) عند النبي عليه الصلاة والسلام..
عندما فتح المسلمون مكة وجدوا في الكعبة ٣٦٠ صنما فكسروها جميعا لأنها كانت رمز الشرك إذ أن معنى (لا إله إلا الله) عندهم مرتبط بتلك الأصنام الحسية وهو لا معبود بحق إلا الله..
هذا هو المستوى العقائدي من الإسلام وقد خدم غرضه حتى استنفده فلم يعد في عصرنا من يعبد أصناما حسية، ولذلك فقد جف ضرعه وواجبنا نحن المسلمين الانتقال منه إلى المستوى العلمي!!
أما النبي الكريم فلم يعبد صنما قط، (فلا إله إله إلا الله) عنده أعمق ومتعلقها الأصنام المعنوية وهي مذام الصفات داخل النفس كالشره والحرص والبخل والحقد ......إلخ.. فالشرك هنا هو الشرك الخفي بينما الشرك هناك هو الشرك الغليظ!!
ولذلك قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) والإشارة هنا إلى الشرك الخفي لأن المؤمنون بمجرد دخولهم الإسلام قد تخلصوا من الشرك الغليظ..
هذا هو المستوى العلمي من الإسلام الذي يصلح لمعالجة مشاكل الفرد النفسية ولتنظيم المجتمع!!
إذن علمية المنهاج النبوي في السنة يمكن إجمالها في فعاليته في تطهير النفوس من الأصنام المعنوية.. وأول خطوة في المنهاج العلمي هي أن نعلم أن الفاعل في الوجود واحد هو الله، وبذلك يكون معنى (لا إله إلا الله) في حقنا هو (لا فاعل لكبير الأشياء ولا لصغيرها إلا الله.. فمادام الفاعل في الحقيقة واحد فمعنى ذلك أن أفعالنا نحن إنما هي مجرد وهم، في الظاهر فقط ويتوجب علينا التخلص منه بمنهج التوحيد في السنة لنرى فعل الله من وراء افعالنا نحن فنستسلم له ونسير خلفه لا أمامه.. وكذلك لنرى الله من خلال أفعال الآخرين من حولنا.. يقول عوض عن ثمرة المجاهدة في التعلق بالله: (بانت لنا يده الخفية تقضي بناصية المعية)
ولقد صاغ الأخ عوض في جملة قصائده معنى الحضور مع الله نقتطف منها:
هذه الأيام أيام الظهور من يذق فيها يذق للنار نور
غيبوني في مجاهيل الهوى واضربوا حولي من الأشواق سور
أحجبوني لا أرى صنوا لكم إنكم في الحب ذيّاك الغيور
قيل من هذا الذي في ذكره رحت ترتاد الأماسي والبكور
قلت من في ذكره قد جاءكم أصدق الأنباء مذ يوم الصدور
ذكره قوتي ولولا ذكره لم أذق شيئاً من الرى الطهور
ذكره يا ما أحيلى ذكره من يديه صرف أقداحٍ تدور
كلما أدمنته ألفيته ذا جديدٍ يجتلى سر الصدور
هل أنا إلا أناديه هنا وهو يأتي الآن إذنا بالنشور
منكراً قد كان في عهد الدجى منكراً يبقى لدى هتك الستور
جل عنا جل عن تسبيحنا مثلما قد جل عن ظن الكفور
وجهه المحجوب في ثوب السِّوى هذه عينى تراه في سفور
والسماوات التي قد نزلت من لدنه لا أرى فيها فطور
أيها الطرف الذي يهوى العمى إنه هذا وعنه لن تحور
هذه جناته قد أزلفت فانبعثتا من غيابات القبور
وهذه قصيدة أخرى في نفس المعاني:
شكر الله إذ ذكرْ خَلْقه أول الفِطرْ
سعيه مثقل الخطى ضل في سَبْسَب الفكرْ
فهداه السرى إلى هدأة الفكر والبصرْ
وسعى العقل مسلماً خلف مولاه إذ صبرْ
صب بردا من الرضا فوق حرٍّ من الكدر
وإذا حار سعيه جاءه القلب بالخبر
ظهر الله كلما فعله عنه قد ظهر
ظهر الله حيرةً في تصاريف ما قدر
فعله ظاهر لدى وهم أفعالنا استتر
ظهر الله حكمة حيث قد قلّب الصور
وحدة الفعل أن يُرى أمرُنا عينَ ما أمر
عَزَّ بالعلم عن رضا عبده فهو قد مكر
عَزَّ إنسان ذاته عزَّ وصفا عن البشر