إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
محاولة للتعريف بمساهمة الأستاذ محمود محمد طه
في حركة التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر
عبدالله بولا
أكتوبر ١٩٩٦
لست مقتنعا أيضا بحجاج الأستاذ المتصل بمقولة "المساواة الكاملة بين الرجل و المرأة حتى في "الرسالة الثانية". (و الأستاذ بالطبع لم يقل بمساواتهما في الرسالة الاولى أصلاً). و ستكون أولى ملاحظاتي لفت النظر إلى ذكورية خطاب الأستاذ نفسه. هذه الذكورية التي اجتهد في تفاديها أحد تلاميذه اللامعين (د.عبدالله النعيم) (30) فالرجال "يستأثرون" بالنصيب الأوفر بما لا يقاس في خطاب الرسالة الثانية نفسه ويبين ذلك بصورة قاطعة لمن يقرأ الكتاب. وأكتفي هنا بمثل يغني عن التفصيل من فرط قوة دلالته، يتساءل الأستاذ: "من هو رسول الرسالة الثانية؟ " و يجيب "هو رجل آتاه الله الفهم عن القرآن و أذن له في الكلام .."(31) وهو يقول قبل ذلك في الإهداء "إلي الإنسانية ! بشرى .. وتحية. بشرى بأن الله ادخر لها من كمال حياة الفكر، وحياة الشعور، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وتحية للرجل وهو يمتخض، اليوم، في أحشائها، وقد اشتد بها الطلق، وتنفس صبح الميلاد."(32) والرجل المعني هو رجل الرسالة الثانية، داعيتها "المأذون له"، و إنسانها المتخلق من قيمها وبها. و هذا قول يطاول قمم الشاعرية المجيدة و لكنه، مع ذلك، لا ينفي ذكورية الخطاب ويحرج منطق مقولة المساواة التامة بين الرجل والمرأة وهذه معضلة لم يتوفر للأستاذ، ولا لأاي واحد من المجددين حلها بصورة متماسكة تمام التماسك، وإن ظل رأيه فيها متميزاً جداً. و لقد كان لشقيقة كاتب هذه السطور، وكانت متدينة في يقظة ذهنية نقدية شديدة الحضور إزاء تعارض النصوص والتأويل، يقظة تجاور حدود التراجيديات الكبرى، أقول كانت لها دورات من النقاش عصية طويلة مع الأستاذ حول مقولة مساواة المرأة بالرجل في الإسلام. وأشهد بأنه كان صبوراً طويل النفس في حواره معها بل سعيداً بنقدها، وكان يعلق كلما بدرت عنها حجة عنيدة "ما شاء الله على هذا الذكاء يا زينب". و لم تقتنع شقيقتي حتى توفيت (عام 1975). كان لي شرف حضور ذلك النقاش والمشاركة فيه. وقد كانت حجتها الأساسية أنه لا وجود للمساواة بين الرجل والمرأة في الإسلام في مستوى بنية العقيدة نفسها، ولا وجود لتأويلٍ مقنع في مستوى ما لدينا من إجتهادات بما فيها اجتهاد الأستاذ نفسه. ذلك أن في قمة الخلق رجل، وفي قمة التطور رجل، في التصور الإسلامي العقيدي. كما أن الخطاب الإسلامي ذكوري في جملته مع استثناء قليل. وكانت إجابة الأستاذ (التي هي مبذولة أيضا في بعض كتبه) إن ذلك صحيح و لكنه لا يعني أن مطلق رجل أفضل من مطلق امرأة. فهذا لا يستقيم ديناً ولاعقلاً ولا واقعاً. ثمة رجل في قمة مضمار المراقي إلى الله، هو النبي ولا مراء، و في أصل البشرية رجل (وهو آدم بالطبع) بين هذا وذاك فالمساواة قائمة في الرسالة الثانية أمام الله، و في تشريع الأصول. ولم أقتنع بتمام سلامة هذا المنطق. وبدا لي أن هذا التمييز "الخفي" وإن لن يكون له تأثير ملموس في مجرى التشريع في الواقع المباشر، على إفتراض الإقتناع بمنطق الرسالة الثانية، إلا أنه ينطوي على معان من التراتب لا بد أن تترك أثرها في الخواطر الخفية. أضف إلى ذلك أن "طلائع أمة المسلمين" الذين يقول الأستاذ أنهم "جاؤوا فرادى عبر تاريخ المجتمع البشري الطويل والذين هم الأنبياء" كلهم من الرجال. لم يقو التأويل التجديدي حتى الآن، و حتى في مستوى هذه القمة الشامخة، على التحري في وجوه التاريخ عن مكان أكثر لياقة بالمرأة في ملحمة التطور المجيدة هذه. هل أقول مع الصديق الدكتور محمد أحمد محمود، أن مشكلة الخطاب التجديدي ذي المرجعية الدينية هي لا تاريخيته؟،(33) هي إخلاصه للنص أكثر من إخلاصه لحقائق التاريخ الواقعية؟ هذا من غير شك جزء من المشكل. إلا أنه قول يصعب الجزم به في حق مفكر يقوم الإخلاص لحقائق الواقع في صلب بنية دعوته للتجديد. وقد أميل إلى ترجيح كون السبب قائماً في أن مفهوم الوجود في فكر الأستاذ، الذي ليس هو فكر صوفي "تقليدي" ببساطة، وإن كان للفكر الصوفي فيه نصيب يقره هو بنفسه، لم يتجاوز مع ذلك، تجاوزاً بعيداً، معنى الوجود الجاهز (الجاهز في واقعه النهائي) الذي يميز الميتافيزيقا، بصفة عامة، والميتافيزيقا الصوفية على وجه الخصوص، حتى في مستوياتها الرفيعة، (وأنا بالطبع لا أستخدم مصطلح ميتافيزيقا هنا بالمعنى القدحى)، أقول أن مفهوم الوجود الجاهز المحكم الغائية، والمحكوم بها هذا، والذي لا مجال فيه للصدفة الصرفة والخطأ "الصرف" الإحتمال "المفتوح"، هو مفهوم يفضي إلى مناطق مغلقة كثيرة محرمة على المنطق الإشكالي، هذا المفهوم هو الذي يلقي بثقله على مفهوم الواقع وأصالة حقائق الواقع في تحليل الأستاذ، (أقول ربما...). وكثيراً ما كانت بعض مناقشاتي مع الأستاذ و تلاميذه، تنتهي في بعض القضايا البرهانية العصيّة إلى أن "هذا الأمر أمر ذوق"، أي لا تقوم فيه للبرهان قائمة. إلا أنني لم أشأ، في هذه الدراسة، أن أناقش خطاباً دينياً خارج مرجعيته الأصلية، خاصة وأن الأمر يتعلق بالتعريف به ضمن مرجعيته أصلاً. وقد أفعل خلاف ذلك في مجرى المناقشات التي قد تثيرها هذه الورقة. وحجة الذوق، على كل حال، أرقى و أكرم و أنبل بما لا يقاس، (و بما لا يقبل المقارنة أصلاً)، من "حجة" التكفير و المتفجرات والمدافع الرشاشة.
ملاحظتي النقدية الأخيرة، في هذا الحيز، تتصل بصدور الأستاذ عن مفهوم الدين الأفضل والصحيح الوحيد على الرغم من سعة فهمه لمعنى الدين ومعنى الإسلام وتقديره العميق للإبداعية الإنسانية في تعبيرها الفكري والفني والثقافي بكل صوره بما في ذلك إبداع القيم الأخلاقية حتى ما صدر منها عن مؤسسات لا تتصل بالدين اتصالاً مباشراً، بل لعلني استند إلى أنه بنى بعض عناصر مفهومه لأهلية القرن العشرين و جدارته بالرسالة الثانية من الإسلام على إنجازات إنسانية في مستويات إبداع القيم الأخلاقية، وفي قمتها قيمة الحرية، لم تصدر من مواقع الفكر الديني وربما قلت ضده أحيانا. ومع ذلك يبقى مفهوم الدين الأفضل معضلة تحتاج إلى حل. تنطوي مقولة الدين الأفضل بطبيعتها، و بالضرورة، على اعتقاد ظاهر أو مضمر بأن الآخرين، ممن ليسوا من أتباعه إنما هم على ضلال، و تشكل أرضية ممكنة للتمييز.(34) وهو تمييز يمكن أن يكون خفياً جداً فلا يتجاوز حركة ظلال الخواطر الباطنية المبهمة، وربما أقول لا يتجاوز مستوى دلالات الخطاب الإسقاطية البعيدة عن القصد. وهو، مع ذلك، يبقى تمييزاً. تمييزاً يصبح معه الحديث عن كرامة الإنسان بما هو إنسان ومبدأ الإحترام "التام" لحرية الإعتقاد أمراً مشوشاً، على الأقل، يحتاج من المجدد إلى نظر طويل. وهو، على التحقيق، نظر لا يسقط مساهمة الأستاذ الجليلة، و لن يفلح لو فعل.
بقي علي أن أضيف أن مساهمة الأستاذ محمود محمد طه لم تقف بأصالتها عند حدود التجديد النظري بل امتدت إلى كافة مجالات العمل الحركي السياسي والتربوي المنظم. فقد كان تنظيم "الإخوان الجمهوريين" نموذجاً ممتازاً للجماعة الملتزمة المنضبطة النشطة. وكانت حلقات حوارهم التعليمية "ندوة الخميس" ومؤتمراتهم و"أركان النقاش في الشوارع والمؤسسات التعليمية" (وهي تقليد ابتدعوه ثم انتشر عنهم في الحركة الفكرية والسياسية في السودان) صوراً حيةً للممارسة الديمقراطية الراشدة. (تشرف كاتب هذه السطور بحضور الكثير منها). هذا على الرغم مما يمكن أخذه عليهم من بعض اضطراب في التحليل السياسي والمواقف المتصلة بمبادئ الديموقراطية. (في بعض لحظات فترة حكم النميري بالذات) مما ليس يسعه الحيز هنا. فضلاً عن عدم خلو طرف أي حركة فكريةٍ أو سياسيةٍ في البلاد عن مثل هذه المزالق في وقت أو آخر. أما ملحمة الرجل الحقيقية فقد تمثلت بحق في وقفته الجليلة، المجللة بنصاعة الحق وأنوار الفداء العظيم، أمام قضاة السوء أولاً: فقد ظل يردد أمام المحكمة كلما عرضوه عليهم، أملاً في أن تلين قناته فينتزعوا منه نأمة من تنازل: "أنا أعلنت رأي مراراً، في قوانين سبتمبر 1983 من أنها مخالفة للشريعة الإسلامية وللإسلام. أكثر من ذلك، فإنها شوهت الشريعة، وشوهت الإسلام، ونفرت عنه .. يضاف إلي ذلك أنها وُضعت واستُغلت لإرهاب الشعب وسوقه إلي الاستكانة عن طريق إذلاله، ثم إنها هددت وحدة البلاد.. هذا من حيث التنظير. أما من حيث التطبيق، فإن القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها غير مؤهلين فنياً وضعفوا أخلاقياً عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، تستعملهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب، وتشويه الإسلام، وإهانة الفكر والمفكرين، وإذلال المعارضين السياسيين. ومن أجل ذلك، فإني غير مستعد للتعاون مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل ورضيت أن تكون أداةً من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر، والتنكيل بالمعارضين السياسيين".(35) كان هذا حديث الرجل إلى المحكمة التي كان يعلم أنها أضمرت قتله إو إذلاله بالتراجع عن آرائه، حديث رجل سُلِّط على عنقه سيف إرهابٍ مشرعٍ مديدٍ طوله ألف وثلاثمائة عام ونيف، فما زاغ بصره وما طغى، ولااقول لم يرمش له طرف، بل لم يهتز منه ظل من خاطرة في أعمق أعماق طبقات وعيه الباطن:
(و قد كان فوتُ الموتِ سهلاً *** فساقه إليه الحفاظُ المرُّ والخلقُ الوعرُ)!
و أمام المشنقة ثانياً: فعندما أحكموا حبل الموت حول عنقه وأزاحوا غطاء الرعب عن وجهه الوضيء وجدوا رجلا يبتسم لا ساخراً ولا مستهزئاً بالموت بل موقناً بالفداء الكبير مطمئناً إلى "اختيار ربه" منسجماً حتى "النهاية" مع منطقه التوحيدي وهذا أقصى ما يصل إليه الصدق. وهكذا فقد مضى "إلى الخلود بطلاً ورائداً وقائداً رعيل الشهدا ورمز إيمان جديد بالفداء ... و بالوطن".(37)
أقول هذا و أنا جد قلق مستوحش من أن أكون قد أسأتُ الوقوف في حضرة هذا "الشيخ" الجليل.
هوامش
(1) أنظر "أبو زيد والخطاب الديني"، في قضايا فكرية. الكتاب الثالث و الرابع. القاهرة.1993
(2) أنظر "الرسالة الثانية من الإسلام". وهو أكثر كتبه تفصيلاً في الموضوع بطبيعة الحال. وقد أصدرت المنظمة السودانية لحقوق الإنسان طبعة جديدة له (يناير1996) بمناسبة الذكرى الحادية عشر لاغتيال الأستاذ. وهي النسخة التي نرجع إليها هنا.
(3) وهو عنوان كتاب صدر في هذا الموضوع، أمدرمان، (بلا تاريخ)
(4) "رسالة الصلاة"، أمدرمان، بلا تاريخ (النسخة التي عندي منزوعة الغلاف في الواقع). ص.52.
(5) الرسالة الثانية من الإسلام، ص ص. 15-16
(6) نفس المصدر، ص. 20
(7) نفسه، ص. 9
( 8 ) نفسه ، ص. 127
(9) نفسه، ص. 120
(10) نفسه، وقد وردت هذه الآيات في أكثر من موضع في هذا المعنى، انظر ص ص. 38، 103
(11) نفسه ، ص. 83
(12) أوردها عبدالله النعيم، " م.م. طه وإشكالية التجديد، في م.م. طه وإشكالية التجديد"، مركز الدراسات السودانية، الدار البيضاء ، 1992
(13) الرسالة الثانية، ص. 97
(14) نفسه، ص 91.
(15) المصدر السابق، ص. 114
(16) نفس المصدر، ص. 24
(17) الرسالة الثانية، ص. 23
(8 1) نفسه، ص. 100
(19) نفسه، ص. 103
(20) نفسه، ص. 103
(21) نفسه، ص. 104
(22) نفسه، ص. 104
(23) نفسه، ص. 105
(24) نفسه ، ص. 109
(25) نفسه ، ص ص. 107-111
(26) نفسه، ص ص. 16 و انظر أيضا ص. 84
(27) نفسه، ص. 17
(8 2) نفسه، ص ص. 18-17
(29) الرسالة الثانية، ص. 103
(30) يحرص عبدالله على إثبات ضمير المؤنث بين قوسين في خطابه كناية عن شموله للجنسين، وهذا حل معقول نسبيا في ظل الذكورية المسيطرة لـ"جميع" اللغات.
(31) الرسالة الثانية من الإسلام، ص. 20
(32) نفس المصدر، نفس الصفحة.
(33) أنظر دراسته "حرية الفكر بين السياق الإسلامي و السياق المعاصر". في محمود محمد طه رائد التجديد الديني في السودان، مصدر سبق ذكره، ص ص 57-68
(34) أنظر في هذا الخصوص العرض الممتاز للمشكلة الذي قدمته الدكتورة فيوليت داغر في كتيب بعنوان "الطائفية و حقوق الإنسان" مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. 1996
(35) النص المشهور (في السودان). وقد أخذته هنا عن مقدمة المنظمة السودانية لحقوق الإنسان للطبعة الخاصة التي أصدرتها من كتاب "الرسالة الثانية ..." التي سبق ذكرها.
(36) قوانين سبتمبر 1983 هي القوانين الشهيرة التي سنَّها جعفر نميري على أثر "اللوثة الدينية" التي اعترته في أواخر سنوات حكمه وقد كان مصممها الحقيقي ومحرك خيوط لعبتها من وراء الستار هو الدكتور حسن الترابي. وقد هللت لها كل الفرق "الإسلامية" وسمتها "قوانين الشريعة". إلا أن الأستاذ وتلاميذه رفضوا هذه التسمية وأسموها بـ"قوانين سبتمبر" فصار ذلك مصطلحاً ثابتاً في اللغة السياسية في السودان.
(37) المقطع الشعري لمحمد المكي إبراهيم و هو شاعر سوداني مجيد جهلت أمره هو الآخر حركة التجديد في الشعر العربي جهلاً لا يليق. من ديوانه "أمتي" و المقطع ليس في الأستاذ محمود، وإنما قيل في أول شهيد لثورة أكتوبر السودانية 1964 (أحمد قرشي طه و لا علاقة لاسم جده بالاستاذ). وهو مما يناسب مقام كل شهادة عظيمة عامرة بالحياة.