إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
محاولة للتعريف بمساهمة الأستاذ محمود محمد طه
في حركة التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر
عبدالله بولا
أكتوبر ١٩٩٦
و على هذا الفهم للإكتمال والتكامل تتأسس ملاحظاتي النقدية لمساهمة الأستاذ الجليلة. وسأقتصر هنا، نزولاً إلى مقتضيات الحيز، على ملاحظات جزئية، وأتمنى أن يغفر لي كونها أصول الموضوع: في قضية الحرية التي اعتبرها الأستاذ محمود "أصل الأصول" فأصاب بذلك كبد الحقيقة. لقد أبديت آنفا تحفظاً على ما أسماه الأستاذ بإمكان "تبرير استعمال السيف في الإسلام" بأنه قد استخدمه لا "كمدية الجزار، وإنما كمبضع الطبيب". وقد أرجعت تحفظي إلى كون هذه المقولة لا تقف مرفوعة القامة تماماً أمام وقائع التاريخ الفعلية. وساكتفي هنا بمثل حروب الردة وما صاحبها من الغلو في القتل و الفتك على يدي صحابي جليل وقائد عظيم هو خالد بن الوليد، غلواً لم يسلم من نقد و احتجاج بعض أجلاء الصحابة أنفسهم، ومثل مقتل عثمان على أيدي جماعة ضمت في عدادها بعض الصحابة الكبار. هذا فضلاً عن الفتنة الكبرى التي أشهر فيها نفر من عظماء الصحابة السيف في وجوه بعضهم بعضا!! ولا أرى في هذا استعمالا للسيف كمبضع الطبيب. و المسألة تحتاج للنظر.
وقد أبديت آنفا أيضا قلة قناعتي بمسوغات الرق في الإسلام كما جاءت في تحليل الأستاذ. فأقول أن الحجتين اللتين قدمهما الأستاذ في تفسير وضعية الرق في الإسلام ليستا في قوة منطقه المتصل بمفهوم الحرية في بعده المنطلق من الأخذ في الحسبان برقي معارف الأمم وشرائعها. فالحجة الأولى التي تتأسس على مفهوم المعاوضة لاتنسجم مع الحقيقة التاريخية من أن الأمم التي أخضعها السيف وأجاز استرقاقها "حكم الوقت"، كانت على قدرٍ كبيرٍ من التحضر والتطور في معارفها وعقائدها وأنظمتها الإجتماعية، مع الإعتبار التام لنسبية مستوى تطورها التاريخي مما كان يمكن أن يغني عن اللجوء إلى منهج للمعاوضة في غلظة الرق في منحى تدريجها إلى الدين الجديد و"ترويض" عقولها وقلوبها على القبول به. والشاهد أن الحضارة الإسلامية لم تقم، في وجوهها المشرقة بالذات من فنون وعلوم و معارف، دون أن تستند إلى تراث الرقي و التحضر الذي كان لهذه الأمم، و لن يكون من الإفتراء والهوى أن أقول أن الغالبية العظمى ممن ساهموا في تأسيس و تطوير هذه العلوم و المعارف هم من بين الذين وطئهم عار الإسترقاق والولاء. إن حجة الأستاذ الرئيسة في دواعي تطوير التشريع هي الإرتقاء الحضاري، و ارتفاع مستوى الفهم والإستعداد للفهم لمطالب الدين الرفيعة، ولا أرى أن الإسترقاق كان حلاً مناسبا لتدريج أمم كان رقيها بالذات هو مصدر مساهماتها المتميزة في حضارة الإسلام. ولعلني أضيف أن "حجة" حكمة الإسترقاق بقرينة المعاوضة والمران على الطاعة لله بالتمرس والمران على الطاعة في حق من رفض أن يكون "عبدا للرب" فجُعل "عبداً للعبد جزاءاً وفاقا" لا تفسر، فيما لا تفسره وهو أكثر من أن يستوعبه هذا الحيز، أقول لا تفسر العناء النفسي الذي وقع على بعض ضحايا الرق من الصحابة الأجلاء مثل بلال وعمار ممن كان بعض الأصحاب أنفسهم يعيرونهم بأصولهم في سورات الغضب. صحيح أن التشريع لا يد له في استرقاق بلال وعمار وأمثالهم، ولايد له في مثل هذه التجاوزات، إلا أنهم عانوا من ظلال التمييز المضمر في الخواطر الخفية مما هو عندي متصل بحسم التشريع أو التفسير في موضوع الرق. ويبدو لي أن حجة "الحكمة" التي قضت "بالإبقاء على نظام الرق" بقرينة كون الإسلام "نزل على مجتمع الرق فيه جزء من النظام الإجتماعي"، وبأن هذا مما كانت تقتضيه "حاجة الأفراد المسترقين، وحاجة المجتمع، الإجتماعية والإقتصادية"،(29) تبدو لي أضعف من أختها. وسأستبعد من مناقشتي تمامًا "حاجة الأفراد المسترقين إلى الإسترقاق" في أي سياقٍ وردت وتحت أي حجة أتت. وأتوجه إلى الشق الثاني من الحجة فأتساءل عما إذا كان إقتصاد المجتمع العربي قبل الإسلام يتأسس على الرق بالصورة التي كان يمكن أن تؤدي إلى انهياره لو إن تشريع الرق في الدين الجديد كان أكثر حسماً، أو لنقل، أسرع تدريجا. لا يبدو لي أن آراء علماء تاريخ الإقتصاد السياسي المعاصرين تميل إلى تأكيد هذه الفرضية. و جملة القول عندي أن تبرير تشريع الرق عندي غير مقنع وهو بحاجة إلى قراءة نقدية أكثر تحرياً في وقائع التاريخ الفعلية في داخل دائرة المجددين ذوي المرجعية الدينية أساساً. ولا شك في أن ملاحظتي بصورتها هذه مبتسرة جدا وأتمنى أن تتاح لي فرصة أوسع لتطويرها بالحوار.