إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
لقد تناولنا فيما مضى من حديث وبشيء من التفصيل المعاني التي تدور حولها كلمة الأستاذ محمود، موضوع هذا البحث، وقد بينا بالأدلة القرآنية كيف أن الشريعة السلفية مرحلية وأن عودة الدين مرهونة بإحياء السنة النبوية في مستوى تربية الفرد ثم على مستوى التشريع الجماعي، وأوضحنا مخالفة قوانين سبتمبر للشريعة ومدى التشويه الذي أفرزته تلك القوانين للشريعة نفسها وللإسلام إضافة إلى تنفير الناس عنه ثم تهديد وحدة البلاد، وكان ذلك في إطار حديثنا عن المحور الأول في كلمة الأستاذ..
ولقد اشتملت الكلمة على ثلاث محاور أخرى هي:
2/ الهدف من وضعها ليس هو إقامة الدين وإنما هو إرهاب المعارضة بالقهر والإذلال من أجل حماية السلطة وتثبيتها..
3/ عدم التأهيل لدى القضاة..
4/ انتهاك حرمة استقلال القضاء من السلطة..
وهذه المحاور الثلاثة، لا تحتاج إلى مجهود كبير في إثباتها، فنميري استولى على السلطة بانقلاب عسكري ضد مجموعة الأحزاب الطائفية والأخوان المسلمين، وقد كانت تلك المجموعة تعمل على إجازة دستور إسلامي جاهل يلتحف قداسة الإسلام، وقد ناهضه الأستاذ محمود وسماه الدستور الإسلامي المزيف مثلما سمى قوانين سبتمبر بهذا الاسم، وبقيام الانقلاب انتهت تلك المحاولة ودخلت البلاد في حكم عسكري.. وبمعاونة بعض المثقفين تمكنت مايو من إنجاز مشروعات في التنمية الاقتصادية كربط أطراف البلاد بشوارع مسفلتة بالرغم من عدة محاولات عسكرية للإطاحة بها.. لكن المؤسف أن مايو وقعت في أخريات أيامها في نفس الخطأ الذي قضت عليه عند قيامها، فولغت في الهوس الديني وأعلنت تطبيق شرع الله من أجل أن تستمر في السلطة، بأن تقطع الطريق على جماعة الأخوان المسلمين التي كانت تحتوى مايو من الداخل بقوة تحت ستار تطبيق الشريعة.. وقد كان نميري يظن أن إعلان الشريعة سيجلب له تأييد عامة الشعب فيطيل بقاءه في السلطة، ولم يكن هدفه بأي حال من الأحوال هو إقامة الدين في الأرض.. وفي خطبه كان يتوعد معارضيه بالعقوبات الحدية لإرهابهم حتى لا يجهروا بالنقد الموضوعي فينكشف على حقيقته ومن ثم يفقد السلطة، وقد وصل الحال به أن يتوعد معارضيه بالملاحقة حتى لو اقتضى الأمر مخالفة الشريعة التي يدعيها، فقال في إحدى خطبه: نحاكمهم بالقانون البطال.. ندخل البيوت ونفتش من يشرب ومن يزني، في الخفاء...الخ، وهو يقصد "بالقانون البطال" قانون أمن الدولة إذ أن الالتزام بآداب الشريعة، حسب تصوره هو، سيعطي ثغرات للمعارضة!! فالقضية كلها صراع سياسي حول السلطة لا علاقة له بالتدين الحقيقي مطلقا، سواء كان ذلك من جانب نميري أو من جانب الأخوان المسلمين..
والحاكم العسكري، أصلا طالب سلطة وهو باستمرار يعمل كل ما في وسعه من أجل الاستمرار في السلطة، فالنفس البشرية تستلذ بالسلطة بأكثر مما تستلذ بأي شهوة أخرى.. وقديما قال الشاعر:
يقولون إن سعدا شكت الجن قلبه وما علموا أن سعدا لم يبايع أبابكر
لقد صبرت عن لذة العيش أنفس وما صبرت عن لذة النهي والأمر
وقال الفيلسوف أرسطو: السلطة تفسد عقول الحكام حتى لو كانوا أفضل الناس!! وتكون الفتنة أوسع ويستطير شرها إذا وجد الحاكم فئة من الناس تزين له باطله وتمد له في غفلته كما حدث من بعض أدعياء التصوف في أخريات مايو..
أما محوري عدم تأهيل القضاة، وتنكر محاكم مايو لحرمة القضاء المستقل، فأيضا لن نحتاج لبذل مجهود في توضيحهما، فقد أغنتنا المحكمة العليا عن ذلك عندما أبطلت عام 1986م جميع الأحكام التي صدرت في حق الأستاذ محمود والجمهوريين، في القضية المشهورة التي رفعتها الأستاذة أسماء محمود والأستاذ عبد اللطيف عمر حسب الله، ونكتفي بإيراد طرفا من الحيثيات التي ساقتها في تبيين هذين المحورين:
( أما ما ترتب على ذلك من أحكام بالإعدام فقد ألغيت في مواجهة جميع المحكوم عليهم فيما عدا والد المدعية الأولى.. ورغم ما شابتها من مخالفات للقانون والدستور، فقد أصبحت حقائق فى ذمة التاريخ، تقع المسئولية عليها سياسية فى المقام الاول )!!
وحول تهمة الردة جاء في الحيثيات : ( ولعلنا لا نكون فى حاجة الى الاستطراد كثيراً فى وصف هذا الحكم فقد تجاوز كل قيم العدالة سواء ما كان منها موروثا ومتعارفاُ عليه، أو ما حرصت قوانين الإجراءات الجنائية المتعاقبة على النص عليه صراحة، أو انطوى عليه دستور 1973م" الملغى " رغم ما يحيط به من جدل.. ففى المقام الاول أخطأت محكمة الاستئناف فيما ذهبت إليه من أن المادة 3 من قانون أصول الاحكام لسنة 1983م كانت تتيح لها أو لأى محكمة أخرى توجيه تهمة الردة ).. هذا وقد أوضحت المحكمة سبب الخطأ وهو أن المادة 70 من الدستور " الملغى " تنص على ( لا يعاقب شخص على جريمة ما إذا الم يكن هناك قانون يعاقب عليها قبل ارتكاب تلك الجريمة ).. وحول هذه النقطة قالت المحكمة : ( ومؤدى ذلك أنه ما لم يكن هناك قانون يجرم الفعل وقت ارتكابه فإنه لا مجال لاعتبار الفعل جريمة، والقانون هنا هو التشريع رئيسياً كان أو فرعياً )!!
وتواصل المحكمة العليا: ( على أن محكمة الاستئناف لم تكن عابئة، فيما يبدو، بدستور أو قانون، إذ أنها جعلت من إجراءات التأييد التى ظلت تمارسها المحاكم المختصة فى سماحة وأناة، وبغرض مراجعة الأحكام مراجعة دقيقة وشاملة، محاكمة جديدة قامت عليها المحكمة بدور الخصم والحكم مما حجبها، حتى بفرض صحة توجيه تهمة جديدة فى هذه المرحلة فى أن تعيد الاجراءات مرة أخرى لمحكمة أول درجة لإعلان المحاكمة بموجب التهمة الجديدة، وذلك فيما تقضى به المادة 238 هـ من القانون، أو أن تتجه إلى سماع المحكوم عليهم بنفسها وفاء بواجبها فى ذلك بموجب المادة 242 من القانون ذاته )!!
وتواصل ايضا : ( ومهما يكن من أمر النصوص القانونية فإن سماع المتهم قبل إدانته مبدأ أزلى لم يعد فى حاجة الى نص صريح بل تأخذ به كافة المجتمعات الانسانية على اختلاف عناصرها وأديانها، باعتباره قاعدة مقدمة من قواعد العدالة الطبيعية )..
وحول بيان نميرى عند التصديق على الحكم جاء فى الحيثيات : ( هذا ما كان من أمر ما تم باسم القضاء، أما ما صدر من رئيس الجمهورية السابق عند التصديق على الأحكام فإنه يكفي لوصفه أن نقرر: أنه مجرد من أي سند في القوانين والأعراف، ولا نرى سبباً للاستطراد فيه بأكثر من ذلك لما فيه من تغول على السلطات القضائية، فقد كاد أن يعصف بها كلها !!).. انتهى..
في الختام نحب أن نؤكد بصورة حاسمة، أن أي محاولة لتطبيق الشريعة السلفية في واقعنا المعاصر من غير تطوير، على النحو الذي أسسته الدعوة الإسلامية الجديدة، لن تقدم إلا تشويها للشريعة وللإسلام.. ولذلك نحن ندعو شباب هذه البلاد لأن يقبلوا على دراسة هذه الدعوة من مصادرها الأساسية على خلفية تجربة الإنقاذ في الحكم التي فتتت وحدة البلاد، وأذاقت الشعب جميع مرارات الحكم الشمولي من إقصاء وفصل تعسفي وتشريد للشرفاء ثم الضرب بالرصاص على من يتظاهرون من أجل حريتهم وكرامتهم.. ونقول للذين نفرتهم التجربة من الدين، فاستبدلوه بالعلمانية، نقول لهم: العلمانية كفلسفة خاطئة إضافة إلى أنها تتناقض مع محبة الشعب للدين، ولذلك فإنكم بصنيعكم هذا قد تركتم ميدان الدين خاليا للهوس الديني ليتمكن أكثر، وفي هذا الاتجاه خيانة للشعب وهروب من الميدان، فحال السودان لن ينصلح بالعلمانية وإنما بالفهم المستنير للإسلام..