إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
تمر في الثامن عشر من يناير الجاري، الذكرى 29 لوقفة الأستاذ محمود التاريخية ضد سلطة مايو، وبهذه المناسبة العظيمة سنحاول إلقاء بعض الضوء على كلمته في مواجهة المحكمة المهزلة، بهدف توضيح البعد الفكري في تلك الكلمة بشيء من التفصيل.. وقد بدأت المواجهة في الأساس من جانب الجمهوريين في إطار التوعية العامة التي كانوا، ولا زالوا، يقومون بها لتصحيح مسار البلاد حتى لا تتورط في السياسات الخاطئة بوحي من الهوس الديني.. وقد خرجت العديد من الكتب في هذا الاتجاه، مثل: بنك فيصل الإسلامي، التكامل، الهوس الديني يثير الفتنة ليصل إلى السلطة.. فردت السلطة على هذا النقد الفكري بأن اعتقلت الأستاذ محمود و62 من تلاميذه، وكان ذلك في النصف الأول من عام 1983م، وامتد الاعتقال السياسي حتى 19/12/1984م حين أفرج عنهم جميعا..
وفي أثناء فترة الاعتقال ولغت السلطة حتى أخمص قدميها في الهوس الديني، فأصدرت قوانين سبتمبر 83، مدعية بأنها إنما تطبق شرع الله، لجلب التأييد الشعبي ومن ثم تأمين السلطة ضد حملة الاحتواء التي كانت تسير على أشدها من جماعة الأخوان المسلمين باسم تطبيق شرع الله.. فكأن سلطة مايو، ظنت أنها بسنها قوانين سبتمبر، قد فوتت على الأخوان المسلمين فرصة ضربها من الداخل، بحجة عدم تطبيق شرع الله..
ما إن وصل الأستاذ محمود إلى منزله حتى صرح لتلاميذه: نحن ما خرجنا لنرتاح، ثم واصل في اجتماع أمسية نفس اليوم:
(نحن أخرجنا من المعتقلات لمؤامرة.. نحن خرجنا في وقت يتعرض فيه الشعب للإذلال وللجوع، الجوع بصورة محزنة..
ونحن عبر تاريخنا عرفنا بأننا لا نصمت عن قولة الحق، وكل من يحتاج أن يقال ليهو في نفسه شيء قلناه ليهو!!
ومايو تعرف الأمر دا عننا!!
ولذلك أخرجتنا من المعتقلات لنتكلم، لتسوقنا مرة أخرى ليس لمعتقلات أمن الدولة، وإنما لمحاكم ناس المكاشفي!!
لكن نحن ما بنصمت!!
نميري شعر بالسلطة تتزلزل تحت أقدامه فأنشأ هذه المحاكم ليرهب بها الناس ليستمر في الحكم..
وإذا لم تكسر هيبة هذه المحاكم لن يسقط نميري!!
وإذا كسرت هيبتها، سقطت هيبته هو، وعورض وأسقط!!
نحن سنواجه هذه المحاكم ونكسر هيبتها!!
فإذا المواطنين البسيطين، زي الواثق صباح الخير، لاقوا من المحاكم دي ما لاقوا فأصحاب القضية أولى !!)) انتهى..
وعلى الفور، كونت لجنة مركزية من عشرة من قيادات الجمهوريين برئاسة الأستاذ سعيد الطيب شايب، فأصدرت اللجنة منشور "هذا أو الطوفان" في 25/12/1984م.. وبعد توزيع المنشور في الشارع العام، أعيد الأستاذ ومجموعة من تلاميذه ليس إلى معتقلات أمن الدولة، وإنما إلى حراسات الشرطة ببلاغات جنائية تمهيدا لتقديمهم للمحاكم..
وفي يومية التحري، قال الأستاذ محمود للمتحري، أنه المسئول الأول عن كل ما يدور حول حركة الجمهوريين في داخل السودان وخارجه، وفي رد على نقد المنشور لقوانين سبتمبر، وهل هو رفض للشريعة، قال:
(إذا في إنسان قال قوانين سبتمبر مخالفة للشريعة، لا يتهم بأنه ضد الشريعة وإنما يفهم أنه ضد قوانين معينة، بل هو يدافع عن الشريعة!! ويمكن أن يسأل عن برهانه على قوله بمخالفة تلك القوانين للشريعة!!
ولكننا نقول إن الشريعة الإسلامية، على تمامها وكمالها، حين طبقها المعصوم في القرن السابع، لا تملك حلا لمشاكل المجتمع المعاصر، فالحل في السنة وليس في الشريعة!!) انتهى..
وبهذا التحري، فتح البلاغ ورفعت القضية إلى المحكمة، وكان المستند الوحيد هو المنشور مضافا إليه رد الأستاذ على المتحري..
رفض الأستاذ محمود التعاون مع المحكمة لأسباب أجملها في كلمته أمام المحكمة:
(أنا أعلنت رأيي مرارا في قوانين سبتمبر 83، من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام.. أكثر من ذلك، فإنها شوهت الشريعة وشوهت الإسلام ونفرت عنه..
يضاف إلى ذلك، أنها وضعت، واستغلت، لإرهاب الشعب وسوقه إلى الاستكانة عن طريق إذلاله.. ثم إنها هددت وحدة البلاد.. هذا من حيث التنظير..
وأما من حيث التطبيق، فإن القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها غير مؤهلين فنيا، وضعفوا أخلاقيا عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية تستعملهم لإضاعة الحقوق، وتشويه الإسلام، وإذلال الشعب، وإهانة الفكر والمفكرين وإذلال المعارضين السياسيين..
ومن أجل ذلك فإني غير مستعد للتعاون مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب، وإهانة الفكر الحر، والتنكيل بالمعارضين السياسيين) .. انتهى..
وبالنظر بدقة إلى هذه الكلمة، نلاحظ أنها اشتملت على أربعة محاور :
1/ مخالفة الشريعة وتشويهها، تشويه الإسلام وتنفير الناس عنه ثم تهديد وحدة البلاد..
2/ الهدف من وضعها ليس هو إقامة الدين وإنما هو إرهاب المعارضة بالقهر والإذلال من أجل حماية السلطة وتثبيتها..
3/ عدم التأهيل لدى القضاة..
4/ انتهاك حرمة استقلال القضاء من السلطة..
أولا: المحور الأول:
جاء في منشور "هذا أو الطوفان" حول مخالفة الشريعة والإسلام ما يلي:
(فهذه القوانين مخالفة للشريعة، ومخالفة للدين، ومن ذلك أنها أباحت قطع يد السارق من المال العام، مع أنه في الشريعة، يعزر ولا يحد لقيام شبهة مشاركته في هذا المال.. بل إن هذه القوانين الجائرة أضافت إلى الحد عقوبة السجن، وعقوبة الغرامة، مما يخالف حكمة هذه الشريعة ونصوصها.. هذه القوانين قد أذلت هذا الشعب، وأهانته، فلم يجد على يديها سوى السيف، والسوط، وهو شعب حقيق بكل صور الإكرام، والإعزاز.. ثم إن تشاريع الحدود والقصاص لا تقوم إلا على أرضية من التربية الفردية ومن العدالة الاجتماعية، وهي أرضية غير محققة اليوم )..انتهى..
إن الشريعة في الأساس ليست قوانين عقوبات وحسب، وإنما هي معالجة متكاملة لجميع قضايا المجتمع، فمجرد إظهار الشريعة بأنها عقوبات فيه تشويه للشريعة وفيه إظهار للإسلام بمظهر القصور، ويضاف إلى ذلك أن الشريعة على تمامها وكمالها ليست الكلمة الأخيرة في الإسلام، وإنما هي طرف الدين الذي لامس أرض الناس في القرن السابع.. ففي مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع، لا بد من تطوير الشريعة لتستوعب المستجدات التي أحدثها الزمن.. وإنما يكون التطوير من الشريعة إلى السنة، فالإسلام موعود بأنه سيعود بالسنة، فقد ورد في الحديث: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله!!؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها).. فبعث الإسلام في عصرنا الحالي إنما يعتمد على السنة وليس الشريعة، وقد كانت الشريعة في وقتها حكيمة في القمة وقدمت الحلول الناجعة لمشاكل مجتمعها، لكن بمرور الزمن تطور المجتمع البشري وتعقدت مشاكله بصورة لا يمكن أن تعالجها الشريعة، وإنما المعالجات الحقيقية في السنة.. ولذلك فإن أي محاولة لإقحام تلك الشريعة بكل تفاصيلها في المجتمع المعاصر لا تعدو أن تكون تشويها للشريعة وتشويها للإسلام نفسه.. وبوحي من هذا التشويه، وإظهار الإسلام بمظهر العجز والقصور، ينفر الناس عن الدين ويبحثون عن حلول في فلسفات أخريات ترفض الدين جملة كالعلمانية فيكون حالهم كالمستجير من الرمضاء بالنار..