إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

هل كان نميري معجباً بمحمود محمد طه؟

د. محمد وقيع الله


مقال من تسع حلقات نشرتها "الإنتباهة"

هل كان نميري معجباً بمحمود محمد طه؟ (8-9)
الانتباهة بتاريخ 1 فبراير 2013



لم تكن البيئة السودانية صالحة لانتشار ونمو حركة الجمهوريين، فالشعب المتدين يتعامل بوضوح مع مصادر العقيدة والشريعة، وهي مصادر محددة عنده، ولم تختلط كما عند الجمهوريين. ولم تنتشر في السودان الانقسامات الفكرية الحادة في إطار الإسلام. فالكل يتبعون الدين الواضح المحدد ولا أحد يجنح إلى تقسيم القرآن إلى آيات فروع، أو آيات أصول كما فعل الجمهوريون. كما لم يجد الشطح الإشراقي الفلسفي أرضاً خصبة في البيئة الفكرية في السودان، لا سيما في العصر الحديث.
وهذا ما عجز في استنتاجه البروفيسور بول ماجناريلا الذي كتب دراسة ترويجية عنهم بعنوان: ( The Republican Brothers : A Reformist Movement in The Sudan ) وقد ذكر في خاتمتها أنه «بالرغم من أن آراء الجمهوريين تعتبر غير تقليدية، إلا أن أكثر المعارضة التي تواجههم لم تنشأ لاختلافاتهم الثيولوجية عن سائر المسلمين، وإنما لأسباب سياسية واقتصادية. ذلك أن هذه الحركة الإسلامية «الجمهورية» الجديدة، تمثل خطراً يهدد السلطات الإسلامية التي تجاوزها الزمن».
«راجع:Paul J. Magnarella, The Republican Brothers : A Reformist Movement in the Sudan. »The Muslim World «, January, 1982, p. 240».
لكل ذلك لم تتمكن الحركة الجمهورية من النمو المتصل المتسارع، وقد ذكر البروفيسور بول ماجناريلا في مقاله آنف الذكر، أن الدكتور عبد الله النعيم أحد قادة الحزب الجمهوري أخبره بأن للحزب بضعة مئات من الأعضاء، ونحو ألفاً من المؤيدين. ص «24». لكل ذلك لم تتمكن الحركة الجمهورية من النمو المتصل كما نمت نظيرتها الحركة القاديانية في الهند وباكستان، حيث الانقسامات الدينية الحادة واختلاط الفكر الإسلامي أحياناً بالفكر الهندوسي، كما تم على يد «جورنا ناك» الذي مزج بين بعض الأفكار الإسلامية والهندوسية، ليؤسس بذلك ديانة «السيخ». أو كما تم على يد جلال أكبر الذي جمع أفكاراً مختلفة من الهندوسية والزرادشتية والإسلام، ثم ادعى أنه ظل الله في الأرض، أو ما جرى من ميرزا غلام الذي مزج بين أفكار من المسيحية والإسلام وأسس نحلة القاديانيين. لقد ظلت أفكار الجمهوريين بعيدة عن ذهن المسلم العادي في السودان. ومع حرارة الجمهوريين وإخلاصهم لدعوتهم، ونضالهم في سبيلها، إلا أن فكرة واحدة من أفكارهم مثل رفع الصلاة، كانت كفيلة بنسف الأفكار الأخرى للحزب، وتنفير الناس منها. إن المثقفين لم يستسيغوا كثيراً ولا قليلاً مذهب الجمهوريين في نظرية المعرفة الذي يتخطى العقل والحس، ويعتمد على التلقي المباشر «كفاحاً» عن الله! كما لم يستسيغوا منطق الجمهوريين الجدلي، الذي من أبرز سماته إهمال اللغة، ورفض الاحتكام إليها، فالمعاني عندهم «تنزلات»، لا تسعها اللغة، وإنما يسعها الذوق، والقرآن في نظره، أكبر من أن تحمله اللغة أو تحتوي معانيه، ويستشهدون على ذلك بقول الله تعالى: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله»، فكيف يتصدع الجبل ولا تتصدع اللغة إن حملت معاني القرآن؟! ولذلك يفسرون القرآن اعتماداً على الذوق الملهم، وقد مر بنا تفسيرهم لآية: «خلقكم من نفس واحدة»، واستنتاجهم أنها نفس الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وقد فسروا قول الله تعالى: «قل الله» بقولهم: «كن الله»، وفسروا: «والتين والزيتون وطور سنين»، بأن التين هو العقل، والزيتون هو القلب، وطور سنين هو النفس، وإلى آخر تلك التخرصات التي لم يقرهم عليها مجادلوهم من المثقفين الذين انصرفوا عن الحوار معهم لافتقاد المنهج في الحوار. ويعتقد البروفيسور شوقي بشير الذي كتب أطروحته التي نال بها جائزة الدكتوراه في نقد حركة الجمهوريين، وقدم بذلك أقوى مادة علمية في التصدي لهم أن انقطاع الحوار بين المثقفين والجمهوريين، أدى إلى عدم انكشاف أخطاء الجمهوريين، وربما كان هذا القول صحيحاً، ولكن ربما كان كثير من المثقفين والمفكرين السودانيين، ولا سيما الإسلاميين منه، قد راهنوا على عدم استجابة البيئة السودانية لأفكار الجمهوريين، ولذلك لم يعملوا أقلامهم في الرد عليهم، كما فعل العلامة الدكتور محمد إقبال، والعلامة الإمام أبو الأعلى المودودي، والعلامة الإمام أبو الحسن الندوي في نقد حركة القاديانيين.

العداوات المميتة التي أهلكتهم


ولقد صب الجمهوريون، عداواتهم على مختلف الجبهات الفكرية العاملة في وسط الشعب، ولم يصطفوا أحداً بالود إلا من كان من أمر ودادهم للحكم اليساري في عهد جعفر محمد نميري. وقد أصدر الجمهوريون عدة كتيبات في نقد كل طائفة، أو حزب، أو مؤسسة آيدولوجية، وكذلك كرسوا كتيبات أخرى لنقد بعض الأفراد. لقد نشروا عدة إصدارات في نقد الصادق المهدي وجماهير الأنصار، من بينها كتاب «هذا هو الصادق المهدي» الذي صدر في سنة 1982م، وكتبوا في نقد الحزب الاتحادي كتابهم «المؤامرة» الصادر في سنة 1980م، وفي نقد الإخوان المسلمين عدة كتب من بينها كتابهم «بداية نهاية الإخوان المسلمين» الصادر سنة 1979م، وفي نقد أنصار السنة كتابهم «أبو زيد الوهابي» الصادر في سنة 1980م، وفي نقد وزارة الشؤون الدينية كتابهم «بيننا وبين الشؤون الدينية وأساتذتها من أزهريين وسعوديين» في سنة 1976م، وفي نقد القضاة «صفوا دائرة الأحوال الشخصية»، الصادر في سنة 1976م، وفي نقد العلماء «ليسوا علماء الإسلام وإنما علماء آخر الزمان» الصادر في سنة 1976م. وهذه مجرد نماذج وإلا فإنهم كرسوا في نقد كل طائفة ما يزيد على الأربعة أو الخمسة كتيبات. وللتعرف على نماذج من نقدهم، الذي كثيراً ما يتجاوز النقد الموضوعي ليصل إلى حدود الإرهاب الأدبي، نتعرض إلى نموذج لهذا النقد. فقد اختصوا الأستاذ أحمد البيلي، وكان من كبار رجالات وزارة الشؤون الدينية، بقدر وافر من نقدهم، وبدلاً من أن يتصدوا للرد على نقده العام لهم في الندوات والمحاضرات، إذا بهم يحاكمونه إلى السلطات الأمنية لحكومة نميري وذلك لموقف فكري خاص اعتنقه ودافع عنه، يقول كتاب «الميزان»، الذي ألفه طائفة من الجمهوريين: «ما رأي السيد مدير مصلحة الدراسات الدينية فيما دعونا إليه من تطوير المال، وذلك بالانتقال من النص الفرعي إلى النص الأصل، من الزكاة ذات المقادير إلى زكاة البنى، وقد أظلنا عهد الإشتراكية؟! هذا ما نريد السيد مدير مصلحة الدراسات الدينية أن يبينه في غير مواربة». «انظر كتاب: الإخوان الجمهوريون، الميزان، الخرطوم، ص 48».
إنهم يستظهرون إذن بالحكومة الديكتاتورية ويحرضونها على الأستاذ البيلي، ليوافقهم على أفكارهم، وإنها لمواجهة، كما قالوا، وليست حواراً ولا نقاشاً، فإما أن يوافقهم على أفكارهم وإلا فهو من أعداء الحكومة والشعب وليستعد للفصل من الوظيفة وقطع الرزق، وربما ما هو أسوأ من ذلك بكثير. وأما النموذج الثاني، فيكشفه لنا الدكتور عون الشريف، وزير الشؤون الدينية الأسبق، وهو رجل لم يكن يتصدى لهم كثيراً، ولكنه يكشف في كتاب أصدرته الشؤون الدينية بعنوان «رسالة خاتمة لا رسالتان»، أنه كان يتعرض لتهديد الجمهوريين فيقول: «أنا شخصياً لا أميل إلى مصادرة الفكر مهما بلغ اختلافي معه، ولكني في نفس الوقت أرفض أساليب الضغط التي يسلكها تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه، التي وصلت أحياناً إلى درجة التهديد والتلويح بأن بعض السلطات العليا في الدولة معهم، إن هذا أيضاً مصادرة لحرية المخالفين لهم في الرأي». «انظر كتاب: عون الشريف قاسم، الإسلام: رسالة خاتمة لا رسالتان، وزارة الشؤون الدينية، الخرطوم، ص 73،74». ولم ينحصر هذا النقد والعداء في المحيط الداخلي للمؤسسات السودانية، والمفكرين السودانيين، وإنما تعداهم إلى المفكرين الإسلاميين الآخرين، فأصدروا كتاباً كبيراً في نقد الدكتور مصطفى محمود، وكتيباً في نقد الشيخ محمد متولي الشعراوي. وكتيبات أخرى في نقد الأزهر ورابطة العالم الإسلامي. وبالعموم فإنه لم يكد ينجو أحد من سيل العداء الجمهوري، وفي النهاية اتجهوا بالعداء إلى حليفهم الوحيد وهو نظام الحكم في عهد النميري، وهو النظام ذاته الذي كانوا يستخدمونه لإرهاب خصومهم كما أقر بذلك أحد وزراء نميري السابقين.

هل كان نميري معجباً بفكر محمود محمد طه؟


ويبدو أن علاقتهم كانت جيدة بحكام مايو، كما لوَّحوا بذلك يهددون الخصوم، وآية ذلك أن رئيس النظام المايوي، جعفر محمد نميري، كان معجباً بفكر محمود محمد طه، في وقت من الأوقات. وقد كشف لنا عن هذا الأمر المفكر الثقة الأستاذ، محمد جلال كشك، رحمه الله، الذي كان صديقاً مقرباً إلى النميري منذ أوائل عهد النظام المايوي إلى نهايته. وقد ذكر الأستاذ كشك أن نميري أهداه نسخته الشخصية من كتاب الرسالة الثانية من الإسلام، وعليها تعليقات إيجابية كثيرة:«عندي نسخة أعطاها لي الرئيس نميري بعد أن قرأها، وقد أشَّر في كل صفحة من صفحاتها بعلامة صح. وفي صفحة «32» كتب بخط يده صح «100 على 100» وعندما أعطاني هذه النسخة كان واضحاً أنه لا يريد اتخاذ أي إجراء ضد الرجل». «راجع: محمد جلال كشك جهالات عصر التنوير، مكتبة التراث، القاهرة،1410هـ، ص8». ولكن اهتدى نميري في أخريات أيامه، كما اهتدى آخرون إلى انخداعهم بضلال الجمهوريين، وزيفهم، وافترائهم الكذب على الله والرسول، وتعديهم على الشريعة والأصول.
وعندما صدق على الحكم الصادر بقتل محمود حداً، وصف الأمر بأنه كان أكبر انتصار على الشيطان.