إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
هل كان نميري معجباً بمحمود محمد طه؟ (6-9)
الانتباهة بتاريخ 29 يناير 2013
لم يكن اعتراض الجمهوريين على تطبيق الشريعة الإسلامية اعتراضاً سياسياً، وإنما كانوا يرفعون اعتراضاً أصولياً ضد الشريعة نفسها، وقد ظلوا يرفعون هذا الاعتراض منذ حملة الدستور الإسلامي في الستينيات. مؤدى اعتراضهم القديم والحديث على السواء هو أن التشريع ينبغي أن يقوم على آيات الأصول، لا على آيات الفروع، أو بتعبير آخر على القرآن المكي، لا القرآن المدني. حيث يعتقدون أن القرآن المكي، ناسخ للقرآن المدني. والرسالة الإسلامية الأولى والتي تقوم تشريعاتها في تصورهم على الآيات المدنية، لا تصلح ولا تلائم هذا العصر.
هذا الرأي تردد كثيراً في أدبيات الجمهوريين، وخاصة في كتابي «الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين» و«الرسالة الثانية من الإسلام». وفي كلا هذين الكتابين زعموا أن هذه الشريعة كانت مناسبة فقط لإنسان القرن السابع الميلادي الذي لم يترق بما فيه الكفاية، لاستيعاب شريعة الأصول.
هل الإسلام دين رأسمالي؟
إن تشريعات الإسلام في مجال الاقتصاد إذا اشتقت من القرآن المدني تصبح بزعم الجمهوريين رأسمالية الطابع. وعندما تناول محمود طه فريضة الزكاة قال فيها: «الزكاة ذات المقادير ليست اشتراكية، وإنما هي رأسمالية. وآيتها : «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم، إن صلاتك سكن لهم»، ليست أصلاً، وإنما هي فرع. والغرض وراءها إعداد الناس نفسياً ومادياً ليكونوا إشتراكيين، حين يجئ أوان الإشتراكية. والآية الأصل التي تنزلت منها آية الزكاة ذات المقادير، هي قوله تعالى: «يسألونك ماذا ينفقون قل العفو». وهكذا ينسب محمود الإسلام برسالته الأولى إلى الرأسمالية، وهي نسبة غريبة بالطبع لأن نصوص الإسلام تهدر وتهدم وتحرم معظم دعائم الاقتصاد الرأسمالي، من ربا واحتكار واستعمار واستغلال للضعفاء. وكل ذلك مما لا يمكن أن يقوم النظام الرأسمالي بدونه، كما لا يمكن أن يقال إن الدولة المسلمة تقف عاجزة عن التدخل في السوق ولا تقوم بضبطه أو ترشيده عند الضرورة.
وأما الإسلام الذي يريده محمود فهو الإسلام الإشتراكي. فهو يقول إن الآية الأصولية: «يسألونك ماذا ينفقون قل العفو» هي آية الإشتراكية في القرآن. وأما إنفاق العفو فيفسره لنا بأنه إنفاق كل ما زاد عن الحاجة، ويقول إن النبي صلى الله عليه وسلم وحده كان يفعل ذلك في مجتمع القرن السابع الميلادي. ولم يكتف محمود بذلك بل دعا إلى ما هو أبعد من الإشتراكية، أي إلى «شيوع خيرات الأرض بين الناس. فالشيوعية إنما تختلف عن الإشتراكية اختلاف مقدار، فكأن الإشتراكية إنما هي طور مرحلي نحو الشيوعية». ولقد عاش المعصوم الشيوعية في قمتها حين كانت شريعته في مستوى آية الزكاة الكبرى «يسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو». «راجع: الرسالة الثانية من الإسلام، ص 146 ـ 147». وطبعاً فقصة الشيوعية منسوبة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، أمر لا يستحق الرد، ولكن الغريب أن المنهج يضطرب في هذه المسألة، فآية «يسألونك ماذا ينفقون» التي يوردها محمود كواحدة من آيات الأصول، هي واحدة من أواخر ما نزل من القرآن الكريم في سورة البقرة في العهد المدني، ومع ذلك عدها محمود - اعتباطاً واعتسافًا- آية مكية، وبنى عليها نظرية كاملة في الاقتصاد الإسلامي الإشتراكي الشيوعي الذي دعا إليه! وأما الديموقراطية فلم يجد لها محمود مكاناً في قرآن الفروع، حيث قال: «إن من يتحدث عن الديموقراطية والإشتراكية في الإسلام، من غير أن يتحدث عن تطوير الشريعة السلفية من مستوى آيات الفروع، إلى مستوى آيات الأصول إنما يدلي بباطل، ويتحدث فيما لا يعلم».
«راجع: محمود محمد طه، تطوير شريعة الأحوال الشخصية، ص 43».
ويرى محمود أن آية الديموقراطية في القرآن، هي قول الله تعالى: «فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر»، ويزعم أن تلك الآية المكية نزلت على المسلمين فلم يطيقوا هذه الحرية الواسعة، فقيدت بعدئذ حريتهم بالقرآن المدني، الذي قال الله تعالى فيه: «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم»، وهو القول الذي أقام حكم الفرد الرشيد على الناس حتى يترقوا ويصبحوا أهلاً لممارسة الحرية!
إن محمود يتناسى ــ مرة ثانية ــ أن آية الشورى التي سميت عليها سورة كاملة في القرآن نزلت في مكة وهي الآية التي تقول عن الجماعة المسلمة المكية: «والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون» وهي آية لم تنسخ قط لأن ما تضمنته من الإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لم ينسخ قط. يضاف إلى هذا التحكم في استخدام إستراتيجية ضرب القرآن بعضه ببعض أن هذا الفهم يستبعد كل ممارسات الصحابة الرشيدة لحريتهم، من اختيار للخلفاء إلى توجيه النقد والتقويم إليهم، وإلى كل ممارسات الشورى والحسبة في مجتمع النبوة، ومجتمع الخلفاء الراشدين!