إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
في الذكرى ٢٦ للأستاذ محمود محمد طه
مطاردته للشياطين في أوكار الدجل والشعوذة
د. محمد محمد الأمين عبد الرازق
بعد أن اطلعنا على السقوط الشنيع للأرواح في الإجابة على الإسئلة، وكيف افترت على الله بتأليف آية قرآنية لا علاقة لها بالمصحف الشريف.. نواصل في هذه الحلقة التعريف بموضوع الأرواح بصورة عامة، الخيرة منها والشريرة وكيفية التعامل معها من تجربة جديدة..
الأرواح الشريرة:
هناك الأرواح الخيرة، والأرواح الشريرة.. وقد ورد ذكر كليهما في الآية الكريمة: (وإذ قلنا للملائكة أسجدوا لآدم.. فسجدوا، إلا إبليس.. كان من الجن، ففسق عن أمر ربه.. أفتتخذونه، وذريته، أولياء من دوني، وهم لكم عدو؟؟ بئس للظالمين بدلاً..) وذرية إبليس الشياطين، وذرية الشياطين الجن.. هو أبو الشياطين، وأما الجن فهم أحفاده.. ومن الجن مؤمن وكافر.. ولكن الشياطين كلهم كفار.. وهم بذلك لا يأمرون بخير.. وعداوتهم للبشر قائمة إلى يوم الدين.. (قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض، ولأغوينهم أجمعين) .. وهذا هو ديدنه، وديدن ذريته.. الإغواء.. فكيف، مع هذا، يطمئن عاقل أن يأخذ دينه عن (السبت)، كما يفعل هذا النفر في الخرطوم بحري؟؟ ومن أين لهم أن يثقوا أن الذي يحرك (السبت) والقلم ليس شيطاناً رجيماً، أو جناً كافراً؟؟ ليسألوا أنفسهم هذا السؤال..
و من الجن مؤمن يأمر بالخير، وهو يعلم.. ومنهم مؤمن يأمر بالشر، وهو يريد الخير، ولكنه لا يعلم، وإنما يؤتى من نقص علمه.. ويطيب لي بهذه المناسبة أن أورد قصة صديق إتصل به نفر من الجن، وتحدثوا إليه، وهو يسمعهم بوضوح، ولكنه لا يراهم، وأخبروه أنهم من الجن المسلمين، وأنهم يقرأون القرآن، وأنهم إنما رغبوا في صداقته لما بدا لهم من سلامة صدره، واستقامة سيرته، وإقباله على ربه.. وطمأنوه أنه لن يجد منهم إلا الخير.. وقد سار معهم في صداقة روحية.. ثم أخذوا يأمرونه بقراءة القرآن، وبالصلاة على النبي.. فرفع أمرهم هذا إلي، فنصحته بأن لا يأخذ منهم، وأن يتبع في عبادته، سنة النبي، وأنهم إن أمروه بشئ خارج عن السنة اعتذر.. و إن هم أمروه بأمر هو من السنة يأتيه، ولكن بنية طاعة أمر الله حيث يقول: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله".. لا بنية طاعتهم هم.. يكون هذا منه على غرار ما ذكرنا من أمر عيسى بن مريم حين ظهر له إبليس، وقال له قل: "لا إله إلا الله" فقال عيسى: "كلمة حق، ولا أقولها بقولك".. فلم يفارق الحق، ولم يطمع إبليس في طاعة..
و لقد كتبت له الكتاب التالي: ـ
أم درمان في 12/7/ 1971 ص. ب. 1151
عزيزي يوسف،
تحية طيبة..
أرجو أن تكون قد وصلت بسلام، وأن تكون بقية الأسرة
قد وصلت موفورة ومعافاة..
فهمت من إبراهيم عن رؤياك في الليلة الأخيرة.. فأما الزوجتان الضرتان فإنما هما دنياك، وآخرتك، تتنافسان عليك.. ولحسن التوفيق أن كانت أحداهما مسنة، والأخرى شابة.. فإن المسنة هي دنياك، والشابة هي آخرتك، لأنك حديث الدخول عليها.. وكونها شابة يجعلك شديد الميل إليها.. وستنتصر هي في الاستحواذ عليك، وفي ذلك خير كثير.. وهذه الرؤيا تعطي طرفاً من أمر أصحابك، وهو، وإن يكن طرفاً بعيداً عن ظهورهم المباشر، إلا أنه يعطي فكرة جيدة، وإن لم تكن محددة.. إن أصحابك، فيما يبدو من مسلكهم معك، خيرون، و إلى الخير داعون.. ولكن ما ينبغي أن يطمأن إليهم، كل الإطمئنان.. فإن إختلاف العنصر بيننا وبينهم يجعل استفادتنا منهم أمراً محفوفاً بالشك.. ومن حسن الفطنة ألا نستبعد هذا الشك، لمجرد أنهم إنما يأمروننا بعمل الخير، من قراءة للقرآن، أو صلاة على النبي.. فإن داعي الإضلال لا يبدأ بالإضلال من الوهلة الأولى، وإنما يطلب الثقة به أولاً من جانب من يراد إضلاله، فإذا توفرت الثقة في الداعي إلى الإضلال، بسبب ما يدعو إليه من ظاهر الطاعة، وتم الركون إلى صحبته، بدأت المفارقة.. على كل حال، فإن أمر الدين لا يؤخذ إلا عن النبي، أو عن الأشياخ من خلفائه، كالشيخ إبراهيم الدسوقي، مثلاً، الذي أنت منتسب إليه، وعامل بأوراده.. واليوم، فإن، حتى هذه الطرق التي فتحها الأشياخ، قد أخذت أبوابها في الإنغلاق، ولم يبق باب تطمئن إليه النفس غير باب محمد.. ويمكن القول، على التحقيق، أنه، ونزولاً على حكم الوقت الحاضر، فإن الدين ينبغي ألا يؤخذ إلا عن النبي.. بقى شئ، فإن إعانة أصحابك إياك لا تكون في أمر الدين، بقدر ما تكون في أمر الدنيا.. فهم سيتجهون إلى خدمتك في أمور الدينا، بإخبارك عن أمور تحدث لك، أو قد تحدث لمن يهمك أمرهم، من الأصدقاء، ومن أفراد العائلة.. أو قد تتجه إلى طب المريض منهم.. وقد تتجه إعانتهم لك إلى تيسير أمور النفوذ، أو السلطة، أو الترقي، أو تفريج الضائقة التي قد تنزل بك، وهكذا إلى أن تجد نفسك قد اعتمدت عليهم، وأصبحت كثير التطلع إليهم، والترقب لهم، و انتظار الفرج على أيديهم.. فلا تمكنهم من ذلك.. فإنك إن تفعل يكونوا أعواناً للضرة المسنة (الدنيا) في الإستحواذ عليك، بعد هزيمة الضرة الشابة (الآخرة)، كما وردت إلى ذلك الإشارة، في صدر هذا الجواب، أثناء الحديث عن رؤياك الأخيرة..
خلاصة الرأي لا تستعن بهم!! لا في أمور الدنيا، ولا في أمور الآخرة.. وإن قدموا لك هداياهم الطيبات فلا تقبلها.. وإن طلبوا منك شيئاً من أكل، أو شرب، فأعتذر، بأدب نفس، عن تقديمه لهم.. ولا تبادر بالقطيعة أيضاً، ولكن أطلب إليهم أن يكونوا أخواناً في الله، من غير غرض منك فيهم، ولا منهم فيك.. ولتقطع عليهم وسيلة التدخل في إرشادك في أمور الدين، من إعطائك أوراداً زائدة، مثل الصلاة على النبي، أو الذكر بالمفرد، أو خلافه، فإني أقترح عليك أن تترك الطريق البرهاني، وتأخذ في سنة النبي.. فإنها مأمونة، وواضحة، ومحفوظة من الزيادة.. فلا يمكن لمقترح أن يقترح زيادة عليها، أو نقيصة منها، من غير أن يعرض نفسه لسوء الظن باقتراحه، وللطعن في نصيحته.. ثم إنك إن كنت ملتزماً السنة في العبادة، والمعاملة، فإنك تستطيع، من غير أن تفارق أدب النفس اللائق، أن تعتذر عن أي اقتراح يأتي من قبلهم بزيادة ذكر، أو بمساعدة.. فإن لم يرقهم اعتصامك بالسنة المشرقة في أمر الدين، وأمر الدنيا فبدا منهم تبرم، أو ضيق، ظهر من أمرهم ما يجب أن يظهر.. وإن سرهم اعتصامك بالسنة في أمر دينك، ودنياك، كانوا أصدقاء خيرين، لا خوف من شرهم، ولا حاجة لمجئ خير عن طريقهم.. فإن من كان مع الله على هذا النحو الذي وصفنا لا يحتاج لمن يوصل إليه الخير، من أمثال هذه الأرواح، ولا ممن هو أعلى منها.. وتصبح بذلك مؤمناً منهم..
كما قلت لك، فإنك، في هذه الآونة، متنازع بين الخير والشر.. بين دنياك، وآخرتك.. فكن عوناً للخير على الشر.. كن عوناً على دنياك لأخرتك، حتى إذا إنتصر في صدرك أمر الآخرة، سرت من الآخرة إلى رب الدنيا والآخرة.. وهو نعم المولى، ونعم النصير، وهو المسئول أن يتولى جميع أمورنا، وأن يهديك عافية الدنيا، والدين.. هذا وإني لأنتظر أن أسمع منك، فإني شديد الإهتمام بأمرك هذا، وهو أمر على خطر عظيم، وأهمية عظيمة وبالنسبة لسنة النبي فإني أكلف الأخ إبراهيم ليرسل لك نسخة من (طريق محمد).. وستجدها، إن شاء الله، عاصمة، ومسددة..
المخلص
محمود محمد طه"
"وبمناسبة ذكر هذه الأرواح فإني أنشر هنا سؤالاً من أحد الأخوان والإجابة عليه:ـ
أم درمان ص. ب. 1151 20/3/1970
حضرة السيد الفاضل عمر
تحية طيبة، وبعد،
فقد ورد جوابك بالسؤال الآتي: ـ
(هل يدخل الجن، أو أي من الأرواح، في بدن الإنسان؟؟ فإذا كان كذلك فما هي العلة؟؟ وما هو العلاج لوجود روحين في جسد الإنسان الواحد؟؟)..
وللإجابة على هذا السؤال نبادر فنقرر أن جسد الإنسان بطبيعته به روحان: نسمي أحد هذين الروحين "نفساً" ونسمي الثاني: "روحاً".. والنفس ظلمانية سفلية، والروح نورانية علوية.. فالنفس نبتت من الأرض نباتاً، والروح هبطت من السماء هبوطاً.. ورسالة الروح سوق النفس، من عالمها الأرضي، إلى عالم سماوي.. أو قل: إن رسالتها هي إخراج النفس من ظلام الجبلة، إلى نور المعرفة بالله.. والروح تسمى حافظاً للنفس، وهي، هي، المعنية بقوله تعالى: (إن كل نفس لما عليها حافظ) وهذا الحافظ "ملائكي".. ولكل نفس قرين.. وهذا القرين "شيطاني" أو "جني".. (هم درجات عند الله.)..
فالشيطان لا يكون مسلماً، ولا يأمر بالخير.. ولكن الجن قد يكون مسلماً.. فبعض النفوس قرينها يأمرها بالخير تارة، ويأمر بالشر أخرى.. وبعض النفوس قرينها لا يأمر إلا بالشر.. وعمل العبادة كله هو أن تستجيب النفس للحافظ، فتتسامى بالذكر، وتسوق معها قرينها.. فكأن الإنسان وسط بين قرين من أسفل، وحافظ من أعلى.. فمن عمل بالطاعات، نصر الحافظ "الملائكي"، وعصى القرين "الشيطاني"، أو "الجني".. وهو، بهذا العصيان، يسوق هذا القرين معه من الظلام إلى النور.. ومن عمل بالمعاصي نصر القرين، وخذل الحافظ "الملائكي".. ولذلك فقد قال تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين..) هذه هي الصورة على العموم...
والجن أحفاد إبليس.. وهم يعيشون معنا على الأرض.. ولكننا لا نراهم.. هم يروننا، ونحن لا نراهم: (إنه يراكم، هو وقبيله، من حيث لا ترونهم.. إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون).. وهم يعيشون في أماكن الأوساخ والنتانات، مثل المراحيض، والحمامات، وفي أماكن أخرى كثيرة.. وقد يخالطون الإنسان، ويشاركونه في ماله، وفي أولاده، وفي زوجه.. وقد يخالطونه في نفسه.. فتتغير حاله، ويصاب عقله، ويصبح يتصرف تصرفاً شاذاً، فيسميه الناس "مجنوناً"... وأنت تسأل: (فما هي العلة؟؟) فإن كنت تريد بالسؤال: (فما هو المرض؟؟) فإن الجواب: إن المرض قد يكون عقلياً، وقد يكون جسدياً، وفي الغالب يكون في العقل والجسد كليهما.. في العقل بالتصرف الشاذ، والميل إلى العنف الجسدي، أو اللفظي.. وفي الجسد بالتحول، للعزوف عن الغذاء، ولقلة الراحة.. وأما علة الإصابة بالمرض فهي الغفلة عن ذكر الله.. وأما العلاج فهو بتقوية الروح على النفس.. وقد يكون ذلك (بالعزيمة) من رجل صالح، قوي الروح.. أو من طبيب نفساني قد يستعين بالعقاقير، أو بصعقة الكهرباء.. أو من رجل ذاكر، باستعمال بعض الرقي أو بتلاوة الآيات.. وأصبح، في الوقت الحاضر، الجانب المأمون في العلاج هو الطبيب النفساني.. أو طبيب الأعصاب..
وفي الحقيقة هذا الموضوع يحتاج لمجال أوسع من هذا المجال لبيانه.. ولكنك أنت مستعجل، فيما يبدو لي.. فهل نكتفي بهذه الإجابة القصيرة؟؟ فإن كنت تريد توسعاً أكثر فأمهلني.. وإن اكتفيت بهذا فذاك..
ويجب أن أذكرك أن هناك مخالطة (ملائكية) ـ (رحمانية) ـ تشبه في ظاهر الأمر المخالطة (الشيطانية)، ولكن لا يعرفها إلا العارفون.. وقد رمى الجاهلون الأنبياء، والأولياء، بالجنون جهلاً.. وما ذاك إلا لأن حالة العشق الإلهي، التي تصيب الخيرين، تجعل تصرفهم، بإزاء الناس، فيما يقولون ويعملون في بعض الحالات، أشبه بالجنون.. ولقد قيل لسيد الأنبياء: "إنك مجنون" فنفى عنه ربه ذلك، فقال: (ن، والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون).. وما أرى داعياً للتفصيل هنا، وذلك لاستعجالك.. فإن رأيت الحاجة للزيادة من الشرح فأكتب لي في مهلة أوسع.. وأرجو لك التوفيق..
المخلص
محمود محمد طه
انتهى ما جاء في كتاب "أسئلة وأجوبة الثاني".. ويشبه الأستاذ محمود تداخل الأرواح في الإنسان، باشتراك محطات الراديو في الموجة الواحدة بسبب رداءة الجو، أو ضعف الموجة.. وعملية الضبط هي محاولة لإرجاع الروح الصحيحة في وضعها الطبيعي بإزاحة الأرواح المتداخلة، والجانب المأمون في المعالجة هو جانب الطب النفسي أو العصبي لأنه علم الله المأذون بمقتضى حكم الوقت.. ولا بد من أن نؤكد أن الكثير من الأمراض العصبية والنفسية، قد تكون وراثية أو مرتبطة بضغوط اجتماعية كالاحباط النفسي، وجميعها تعالج بفعالية بالطب الحديث.. إذن في كل الأحوال لا معنى للسعي إلى بؤر الدجل والشعوذة، فهو مضيعة للوقت والمال والنتيجة في النهاية صفرا، إن لم تكن مزيد من التعويق..