إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

في الذكرى ٢٦ للأستاذ محمود محمد طه
مطاردته للشياطين في أوكار الدجل والشعوذة

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


في إطار برنامج الأستاذ محمود لمحاربة الدجل والشعوذة، وفضح دعاوى الأرواح السفلية، هذه معركة ثانية مفصلة وقد سجلها بقلمه في الكتاب الثاني من سلسلة "أسئلة وأجوبة" تحت العنوان: تحضــير الأروح أهو فلسفة؟؟ أم مذهب ديني؟؟ أم شعوذة ودجل؟؟ فإلى الكتاب:
و بمناسبة نشر الإجابة على سؤال الروح، ذلك السؤال الذي أثاره الأستاذ موسى أبوزيد، يجيء دور سؤال آخر عن تحضير الأرواح.. أثاره الأستاذ حامد محمد حامد مراسل صحيفة الأيام بمدني.. وهو سؤال لم يكن موجهاً إلي بالذات، كما كان الشأن في سؤال موسى، ولكنه لما كان سؤالاً يهمني من عدة وجوه، فقد إعتبرته سؤالاً خاصاً، ومباشراً لي.. هذا السؤال ورد في ختام تحقيق نشرته صحيفة (الأيام).. والصورة التي ورد بها السؤال كانت هكذا: (إننا نعتقد أن مثل هذه الحركة ـ تحضير الأرواح ـ تحتاج إلى باحثين، متقـدمين أن يسلطوا الأضواء عليها، ويوضحوا أبعادها، وأضرارها.. إن ما سطرناه في (الأيام) هو محاولة متواضعة، سطحية، أخذت الطابع التعميمي، ونرجو أن تكون البحوث القادمة من باحثينا المقتدرين، فيها سعة الفكر، والجلاء بما أغمضه التاريخ)
و لقد كنت أنوي الإستجابة لهذا النفير بإصدار كتيب صغير يبحث الموضوع بحثاً أوفى مما يجده القارئ في ردي هذا.. ولكني لم أجد الفراغ.. وآثرت من ثم، أن يكون الرد في مضمار (أسئلة وأجوبة) الكتاب الثاني.. ولعلي أعود لبسط القول في هذا الموضوع..
و أرى من الخير أن أعيد نشر كلمة الأستاذ المراسل لعلها تحدث للقراء ذكراً، أو لعلها تعطيهم خلفية عليها تقوم إجابتي هذه الموجزة.. فإلى تحقيق المراسل!!
نشرت جريدة الأيام في عددها 6275، بتاريخ الأربعاء 14/7/1971م الموافق 21 جمادي الأولى 1391، وتحت عنوان (تحضير الأرواح بمدني أيضاً) وعناوين أخرى بالخطوط البارزة تقول: "قرأءة الأفكار، والغيبيات، في الماضي، والحاضر، بالسلة والقلم ـ ماذا تعرف عن تاريخ نشأة هذه الحركة؟؟ ـ أهي فلسفة؟ أم مذهب ديني؟ أم شعوذة، ودجل؟" تحقيقاً لمراسلها الأستاذ حامد محمد حامد.. قال المراسل:
"بدأت في مدني ظاهرة جديدة، أطلت برأسها سرياً، وظلت في الأشهر القليلة الماضية تظهر أحياناً، وتختبئ لتعود للظهور من جديد.. تلك هي ظاهرة تحضـير الأرواح.. قراءة الأفكار، والغيبيات!! تروج لهذه الحركة جماعة من العاصمة جعلت لها فروعاً في بعض أقاليم السودان، وتباشر نشاطها في سرية تامة.. ولا يحضر الجلسات سوى الأعضاء المنتسبين للحركة، بعد فحص دقيق يجرى لهم لمعرفة ولائهم.. هؤلاء الجماعة يجمعون إشتراكات شهرية من الأعضاء بحجة أنهم يعالجون المرضى بوصفات بلدية..
من مدني تعرض (الأيام) هذه الظاهرة، وتقدم شيئاً سريعاً، موجزاً، عن تاريخها، إستناداً على بعض المراجع العلمية.. ولعل الكثيرين من القراء قد تتبعوا سير التحقيقات المذهلة التي تجري في ج. ع. م. حول المؤامرة الأخيرة، وما إتصل بموضوع تحضير الأرواح، على نحو ما أوردته كبريات الصحف القاهرية..
هذه الظاهرة التي أطلت سراً في مدني، الخوف كل الخوف، أن تجد لها رواجاً، وإنتشاراً، في أوساط السذج، والبسطاء، الذين يؤمنون بكل شئ خرافي.. إن العالم اليوم يبحث، وينقب في علوم الفضاء، والتكنلوجيا.. ونحن في الشرق لا زلنا ندعو للخرافات، والدجل، والشعوذة، منصرفين عن قضايانا، ومشاكلنا الكبرى، وملتجئين لإيجاد الحلول لها بالسحر، والخرافة.. وهنا نورد بعض الأساليب التي تتبع في تحضير الأرواح بمدني..

السلة والقلم:
المعلومات التي لدينا تفيد أن هؤلاء الجماعة يقومون بتحضير الأرواح عن طريق سلة.. مجرد سلة، (سبت).. ثم يقومون بتلاوة قراءات معينة، وتمتمات، على أثرها يتحرك القلم من داخل السلة ليكتب شيئاً بتوجيه من زعيم، أوشيخ الجلسة.. يكتب القلم، فيما يدعون، مضمون ما يشعر به حاضرالجلسة.. ويدعي هؤلاء الجماعة، أصحاب الظاهرة، أنهم في تحضيرهم للأرواح يعالجون أمراضاَ عجز الطب الحديث عن علاجها، باستخدام وصفات، وعقاقير بلدية محلية..
و يدعون أنهم قادرون على قراءة الأفكار، وما يجيش في الصدور، ودخائل النفس البشرية، ويغوصون في أغوارها، وثناياها، وبواطنها.. ويعلمون، بواسطة السلة، والقلم، بما: "كل نفس بما كسبت رهينة" في الماضي، والحاضر، والمستقبل، وكل شئ يتصل بالحياة، وتجارب الإنسان الماثل في الجلسة..

مراجع علمية:
رجعت إلى بعض مصادر، ومراجع، لإستقصاء حقائق هذه الإدعاءات، والفلسفة المزعومة، فخلصت إلى نتائج مذهلة..
يحدثنا التاريخ أن القضية التي تقدم أمام البحث تأخذ وجهاً آخر، أكثر تعقيداً.. ذلك لأن هؤلاء الجماعة يخفون أسماءهم، ويتخذون السرية طريقهم!!
و تقول بعض الكتب عن تاريخ هذه الحركة أنها بدأت في نهاية القرن الرابع الهجري 373، وتغلغل أصحاب الدعوة إليها في العراق، بالبصرة، والكوفة.. وقد كانت البصرة، وقتها، مركز حركتتهم، ونشاطهم، بإعتبارها ثغراً تجارياً.. وتقول مراجع أخرى: إذا جئنا ننظر إلى الحياة الإجتماعية طالعتنا صورة مماثلة.. فقد كان هذا العصر ـ القرن الرابع الهجري ـ مسرحاً لظهور عوامل قوية.. فقد بلغ الإقطاع بعض مراحله، وإبتدأت حركات من التماسك الطبقي تتحول إلى مجرى نضالي.. ونشأت من ذلك ثورات، كثورة الزنج، وثورة القرامطة.. ونشأت من ذلك طبقة في مرفأ البصرة من الزنوج، الذين كانوا يعملون هناك في الزراعة، وصناعة الملح، والنسيج.. لقد كان هذا العصر عصر الإنطلاق الفكري، والحركات الثورية السياسية التي إنطلقت في نواحي العراق قرناً كاملاً..
و قدعبر هؤلاء الجماعة، (جماعة تحضير الأرواح) عن الحياة السياسية في عصرهم، فقالوا: إن الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ويجب غسلها من هذه الأدران التي علقت بها!!

و السـؤال:
على ماذا تقوم عملية الغسل هذه؟ أهي قضية دينية، أو سياسية؟ الذين يقولون: أنها دينية، يعتبرون الجماعة مظهراً من التفلسف الذي بلغ أوجه.. في القرن الرابع الهجري. كانوا يأخذون من كل المذاهب، ويقولون: إن الحل الصحيح هو الجمع بين كل الأديان، والمذاهب، والفلسفات.. وقد بنوا فلسفتهم، وآراءهم، على نهج الفيلسوف اليوناني فيثاغورس، وآرائه.. وتاريخ الفلسفة اليونانية يوضح لنا أن فيثاغورس كان يختفي وراء المذهب التلفيقي الذي دعا إليه، وإنه ألف جمعية كانت تعمل لقلب نظام الحكم.. وكان معلوماً أن تاريخ الفلسفة اليوناني يعج بالجمعيات ذات المظهر الفلسفي، والباطن السياسي.. وتحدثنا مراجع شرقية أخرى أن هناك أقوالاً كثيرة، متعددة، عن تحضير الأرواح لدى الهنود.. وتفرع المذهب، أو الفلسفة، إلى بعض الطوائف، وأصحاب العبادات، والطقوس الدينية، وكيفية أداء القرابين..

كيف تسربت الدعوى؟:
وتقول مصادر أخرى أن هذه الفلسفة، أو (الشعوذة)، تسربت إلى إفريقيا عن طريق هجرة الهنود من أجل الرحلات التجارية، والعلمية والثقافية.. كما أن كتب التاريخ حافلة بإعتقاد قدماء المصريين، في كثير من المسائل المحسوسة كالسحر، والطلاسم..
و تقول المصادر الورادة في الكتب: أن فلسفة تحضير الأرواح خليط من فلسفة أفلاطون، ومذهب الرواقيين، ونظريات البوذيين الهنود، والصينيين، وهم أصاب بدع مستحدثة!!
و بعد.. هذا قليل من كثير روته كتب التاريخ عن تحضير الأرواح، في الماضي، وكيف تسربت الحركة من العراق إلى البلاد الأخرى..

و ما هي الاعتقادات؟
إننا نعتقد أن مثل هذه الحركة (تحضير الأرواح) تحتاج إلى باحثين، متقدمين، أن يسلطوا الأضواء عليها، ويوضحوا أبعادها، وأضرارها .. أن ما سطرناه في (الأيام) هو محاولة متواضعة، سطحية، أخذت الطابع التعميمي ونرجو أن تكون البحوث القادمة من باحثينا المقتدرين، فيها سعة الفكر، والجلاء لما أغمضه التاريخ.."


هذا ما أورده الأستاذ مراسل صحيفة (الأيام) بمدني.. ولما كانت إجابتي لا بد أن تكون قصيرة، الآن، فإن الذي يهمني هو السؤال الوارد في صدر التحقيق بالحروف الكبيرة عن تحضير الأرواح.. أهو فلسفة؟؟ أم مذهب ديني؟؟ أم شعوذة، ودجل؟؟ وأحب أن أقرر، ومن الوهلة الأولى، أنه ليس فلسفة، ولا هو بمذهب ديني، وإنما شعوذة، ودجل.. بل هو، فيما يخص المرحلة الحاضرة من تاريخنا، نحن المسلمين، شر من الشعوذة، والدجل.. هو حرب على الدين، وتعويق لبعثه، وتخريب للضمائر، ومفسدة للعقول، والقلوب.. وشر ما فيه أنه يمر بإسم الدين، إذ تمارس، بإرشاد هذه الأرواح، تلاوة القرآن، وتقام حلق الذكر.. وشر البلية أن هذا التضليل قد جاز على بعض مشائخ الطرق الصوفية المعاصرين، فأخذوا يلبون دعوات هؤلاء النفر لإحياء ذكرى بعض السلف الصالح، من أمثال الإمام الغزالي.. ولقد كان أولى الناس بأن يكشف تضليلهم مشائخ الطرق، الذين يعلمون أن الطريق مكاففة، إذ أنك لابد أن تضع كفك في كف مرشدك، لتتلقى العهد وتسلك الطريق..
و لكن لا جرم!! فإن الطرق الصوفية قد أنى لها أن تعود إلى طريقة الطرق ـ إلى طريق محمد ـ الذي منه إنبثقت، أول أمرها.. ولقد كان مشايخة الطرق ومؤسسوها، نواباً للنبي المعصوم، في عهد الجهالات.. ينقلون الناس إليه، في حكمة، وبصر، وعلى هدى مستنير.. وهذا هو السر الذي به ظهرت الشهادة المثلثة فأدخلت المشايخ: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله، الجيلاني ولي الله"، هذا لمن كان طريقه جيلانياً.. وكل تابع طريق يقوم بينه وبين النبي شيخ طريقته.. حتى لقد بلغني أن الشيخ صالح فضل الركابي كان يقول: حاج عبد الله الدفاري محمدنا إلى الله.. وهو قول صحيح، ويدل على بصر بأمر السلوك.. فإن مشائخ الطرق ورثة محمديون.. على القدم المحمدي.. كل حسب تحصيله.. والآن، فلنقل شيئاً عن السلوك، ولنبدأ بالروح:

الروح:


لقد ختمت جوابي إلى موسى أبوزيد عن الروح بإشارة إلى العقل، والعقل أكرم خلق الله على الله، لأنه الوسيلة إليه، وليس غيره وسيلة.. وبه الترقي في مراقي القرب، وذلك ترق سرمدي، لا يقر له قرار، ولا يتناهى له مدى.. ولقد نزل القرآن من أجل ترويض هذا العقل، وتأديبه، وتسديده إلى معارج القرب.. وإنما من أجل ذلك أيضاً، فرضت الفرائض وعزمت العزائم، ونهضت التكاليف..
فالعقل روح، والجسد روح.. والإختلاف بين العقل والجسد إختلاف مقدار، وليس إختلاف نوع.. فالعقل هو الطرف الرفيع من الجسد.. وإنما غرض العبادة، وغرض التكاليف التي احتشد بها القرآن أن تستخرج اللطيف من الكثيف حتى يصير الجسد في لطافة العقل.. وبذلك يحيا الحياة الكاملة، الخالدة، التي لا تؤوفها آفة، ولا ينقصها منقص.. فالقرآن بهذا وسيط بين الكثيف ـ الجسد ـ واللطيف ـ العقل.. والقرآن أيضاً روح..
ولقد وردت (الروح) في القرآن بهذه المعاني الثلاثة.. ففي معنى العقل وردت العبارة بجبريل، وذلك حيث يقول تبارك، وتعالى: (نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين).. فإن جبريل كل إنسان هو عقله الذي في دماغه.. وفي معنى الروح الذي هو الجسد ـ أعني الحياة ـ جاء قوله، تعالى من قائل: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين).. فالروح هنا روح الله، وهي تعني العلم القديم.. وتعني الجسد الحي حياة كاملة، قديمة، وتعني أيضاً الحياة الكاملة المطلقة الكمال.. وفي معنى الروح الذي هو القرآن ـ العلم الحادث، والعلم القديم ـ جاء قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب، ولا الإيمان؟ ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا.. وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم..) وفي القرآن العلم الحادث، والعلم القديم.. فالعلم الحادث شريعة وطريقة.. والعلم القديم حقيقة، والغرض وراء العلم الحادث، ووراء العلم القديم، هو ترويض العقل، وتأديبه بأدب القرآن حتى يتطور بالتحصيل والعرفان، نحو القديم.. فإذا طابق الحادث القديم فقد إنبعث الجسد من الموات، وحيي الحياة الكاملة، المعبر عنها بالحياة العليا، في مقابلة الحياة الدنيا.. ولقد جاء ذكرها في القرآن الكريم هكذا: (وما هذه الحياة الدينا إلا لهو، ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، لو كانوا يعلمون).. وكلمة (الحيوان) مصدر من حيي، وفيها مبالغة قصد بها إلى التعبير عن الحياة الكاملة، الخالدة، التي لا تؤوفها آفة، ولا ينغصها منغص، كما سلفت إلى ذلك الإشارة آنفاً.. وعبارة: "لو كانوا يعلمون.." إشارة إلى الروح التي هي القرآن، وهو الروح الوسط بين الروح الحادث ـ العقل ـ والروح القديم ـ الجسد.. وبفضله يرتقي الحادث في معارج القرب من القديم، وحين يتم التوحيد بين الحادث والقديم يحصل البعث، وتتم الحياة الكاملة للمترقي في هذه المعارج .. والقرآن جسده محمد، حتى لقد أصبحت حياة محمد هي مفتاحه.. فمن ابتغى إدراك دقائق القرآن، ليحصل له به الترقي الذي ذكرناه، فليس له، إلى مبتغاه، من سبيل غير تقليد محمد.. قال الله في ذلك لنبيه: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) فليس على حظيرة القدس من دخول إلا عن طريق هذا الباب.. ولقد قال المعصوم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً: كتاب الله، وسنتي..)
و لقد كتبت في هذا المعنى كلمة نشرتها الصحف عام 1954 تحت عنوان (دقائق التمييز) أعيد نشرها هنا ليطلع عليها القراء مرة أخرى..