"بدأت في مدني ظاهرة جديدة، أطلت برأسها سرياً، وظلت في الأشهر القليلة الماضية تظهر أحياناً، وتختبئ لتعود للظهور من جديد.. تلك هي ظاهرة تحضـير الأرواح.. قراءة الأفكار، والغيبيات!! تروج لهذه الحركة جماعة من العاصمة جعلت لها فروعاً في بعض أقاليم السودان، وتباشر نشاطها في سرية تامة.. ولا يحضر الجلسات سوى الأعضاء المنتسبين للحركة، بعد فحص دقيق يجرى لهم لمعرفة ولائهم.. هؤلاء الجماعة يجمعون إشتراكات شهرية من الأعضاء بحجة أنهم يعالجون المرضى بوصفات بلدية..
من مدني تعرض (الأيام) هذه الظاهرة، وتقدم شيئاً سريعاً، موجزاً، عن تاريخها، إستناداً على بعض المراجع العلمية.. ولعل الكثيرين من القراء قد تتبعوا سير التحقيقات المذهلة التي تجري في ج. ع. م. حول المؤامرة الأخيرة، وما إتصل بموضوع تحضير الأرواح، على نحو ما أوردته كبريات الصحف القاهرية..
هذه الظاهرة التي أطلت سراً في مدني، الخوف كل الخوف، أن تجد لها رواجاً، وإنتشاراً، في أوساط السذج، والبسطاء، الذين يؤمنون بكل شئ خرافي.. إن العالم اليوم يبحث، وينقب في علوم الفضاء، والتكنلوجيا.. ونحن في الشرق لا زلنا ندعو للخرافات، والدجل، والشعوذة، منصرفين عن قضايانا، ومشاكلنا الكبرى، وملتجئين لإيجاد الحلول لها بالسحر، والخرافة.. وهنا نورد بعض الأساليب التي تتبع في تحضير الأرواح بمدني..
السلة والقلم:
المعلومات التي لدينا تفيد أن هؤلاء الجماعة يقومون بتحضير الأرواح عن طريق سلة.. مجرد سلة، (سبت).. ثم يقومون بتلاوة قراءات معينة، وتمتمات، على أثرها يتحرك القلم من داخل السلة ليكتب شيئاً بتوجيه من زعيم، أوشيخ الجلسة.. يكتب القلم، فيما يدعون، مضمون ما يشعر به حاضرالجلسة.. ويدعي هؤلاء الجماعة، أصحاب الظاهرة، أنهم في تحضيرهم للأرواح يعالجون أمراضاَ عجز الطب الحديث عن علاجها، باستخدام وصفات، وعقاقير بلدية محلية..
و يدعون أنهم قادرون على قراءة الأفكار، وما يجيش في الصدور، ودخائل النفس البشرية، ويغوصون في أغوارها، وثناياها، وبواطنها.. ويعلمون، بواسطة السلة، والقلم، بما: "كل نفس بما كسبت رهينة" في الماضي، والحاضر، والمستقبل، وكل شئ يتصل بالحياة، وتجارب الإنسان الماثل في الجلسة..
مراجع علمية:
رجعت إلى بعض مصادر، ومراجع، لإستقصاء حقائق هذه الإدعاءات، والفلسفة المزعومة، فخلصت إلى نتائج مذهلة..
يحدثنا التاريخ أن القضية التي تقدم أمام البحث تأخذ وجهاً آخر، أكثر تعقيداً.. ذلك لأن هؤلاء الجماعة يخفون أسماءهم، ويتخذون السرية طريقهم!!
و تقول بعض الكتب عن تاريخ هذه الحركة أنها بدأت في نهاية القرن الرابع الهجري 373، وتغلغل أصحاب الدعوة إليها في العراق، بالبصرة، والكوفة.. وقد كانت البصرة، وقتها، مركز حركتتهم، ونشاطهم، بإعتبارها ثغراً تجارياً.. وتقول مراجع أخرى: إذا جئنا ننظر إلى الحياة الإجتماعية طالعتنا صورة مماثلة.. فقد كان هذا العصر ـ القرن الرابع الهجري ـ مسرحاً لظهور عوامل قوية.. فقد بلغ الإقطاع بعض مراحله، وإبتدأت حركات من التماسك الطبقي تتحول إلى مجرى نضالي.. ونشأت من ذلك ثورات، كثورة الزنج، وثورة القرامطة.. ونشأت من ذلك طبقة في مرفأ البصرة من الزنوج، الذين كانوا يعملون هناك في الزراعة، وصناعة الملح، والنسيج.. لقد كان هذا العصر عصر الإنطلاق الفكري، والحركات الثورية السياسية التي إنطلقت في نواحي العراق قرناً كاملاً..
و قدعبر هؤلاء الجماعة، (جماعة تحضير الأرواح) عن الحياة السياسية في عصرهم، فقالوا: إن الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ويجب غسلها من هذه الأدران التي علقت بها!!
و السـؤال:
على ماذا تقوم عملية الغسل هذه؟ أهي قضية دينية، أو سياسية؟ الذين يقولون: أنها دينية، يعتبرون الجماعة مظهراً من التفلسف الذي بلغ أوجه.. في القرن الرابع الهجري. كانوا يأخذون من كل المذاهب، ويقولون: إن الحل الصحيح هو الجمع بين كل الأديان، والمذاهب، والفلسفات.. وقد بنوا فلسفتهم، وآراءهم، على نهج الفيلسوف اليوناني فيثاغورس، وآرائه.. وتاريخ الفلسفة اليونانية يوضح لنا أن فيثاغورس كان يختفي وراء المذهب التلفيقي الذي دعا إليه، وإنه ألف جمعية كانت تعمل لقلب نظام الحكم.. وكان معلوماً أن تاريخ الفلسفة اليوناني يعج بالجمعيات ذات المظهر الفلسفي، والباطن السياسي.. وتحدثنا مراجع شرقية أخرى أن هناك أقوالاً كثيرة، متعددة، عن تحضير الأرواح لدى الهنود.. وتفرع المذهب، أو الفلسفة، إلى بعض الطوائف، وأصحاب العبادات، والطقوس الدينية، وكيفية أداء القرابين..
كيف تسربت الدعوى؟:
وتقول مصادر أخرى أن هذه الفلسفة، أو (الشعوذة)، تسربت إلى إفريقيا عن طريق هجرة الهنود من أجل الرحلات التجارية، والعلمية والثقافية.. كما أن كتب التاريخ حافلة بإعتقاد قدماء المصريين، في كثير من المسائل المحسوسة كالسحر، والطلاسم..
و تقول المصادر الورادة في الكتب: أن فلسفة تحضير الأرواح خليط من فلسفة أفلاطون، ومذهب الرواقيين، ونظريات البوذيين الهنود، والصينيين، وهم أصاب بدع مستحدثة!!
و بعد.. هذا قليل من كثير روته كتب التاريخ عن تحضير الأرواح، في الماضي، وكيف تسربت الحركة من العراق إلى البلاد الأخرى..
و ما هي الاعتقادات؟
إننا نعتقد أن مثل هذه الحركة (تحضير الأرواح) تحتاج إلى باحثين، متقدمين، أن يسلطوا الأضواء عليها، ويوضحوا أبعادها، وأضرارها .. أن ما سطرناه في (الأيام) هو محاولة متواضعة، سطحية، أخذت الطابع التعميمي ونرجو أن تكون البحوث القادمة من باحثينا المقتدرين، فيها سعة الفكر، والجلاء لما أغمضه التاريخ.."