إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الاستاذ محمود في الذكرى الثالثة والعشرين
محاولة للتعريف باساسيات دعوته (٥)
خالد الحاج عبد المحمود
الإسلام كنظرية نقدية
الإسلام كنظرية نقدية
نقد الواقع
الواقع من حيث الدين
عن تعريف الدين، بمعناه العام، يقول المفكر الأمريكي إريك فروم: "إنني أفهم الدين بأنه أي مذهب للفكر والعمل، تشترك فيه جماعة ما، ويعطي الفرد، إطارا للتوجيه، وموضوعا للعبادة".. ويقول: "لا توجد بكل تأكيد حضارة في الماضي، ويبدو أنه لا يمكن أن توجد حضارة في المستقبل، دون أن يكون لها دين بهذا المعنى الواسع الذي يذهب اليه تعريفنا، ومهما يكن من أمر، فلسنا بحاجة الى الوقوف عند هذه العبارة الوصفية وحدها، ذلك أن دراسة الإنسان تسمح لنا بإدراك أن الحاجة الى مذهب مشترك للتوجيه، وإلى موضوع للعبادة، هذه الحاجة تضرب بجذورها عميقا في أحوال الوجود الانساني".. ويقول أيضا: "ولأن الحاجة الى مذهب للتوجيه وللعبادة جزءا جوهريا من الوجود الإنساني، يمكننا أن نفهم عرامة هذه الحاجة. والحق لا وجود في الإنسان لمصدر للطاقة، أقوى من هذا المصدر. فليس الانسان حرا في أن تكون له مثل عليا، أو لا تكون له، ولكنه حر في الاختيار بين ضروب المثل العليا المختلفة: بين أن يكرس نفسه لعبادة القوة والتدمير أو العقل والحب.. الناس جميعا (مثاليون)، هم يتطلعون الى شيء ما وراء الحصول على الإشباع الجسدي، ولكنهم يختلفون في أنواع المثل العليا التي يؤمنون بها" .. الى أن يقول: "وما قلته عن نزعة الانسان المثالية تصدق ايضا على حاجته الدينية، فلا وجود لإنسان بغير حاجة دينية.. حاجة أن يكون له إطار للتوجيه وموضع للعبادة، بيد أن هذا القول لا يخبرنا عن سياق خاص، تتجلى فيه هذه الحاجة الدينية، فقد يعبد الانسان الحيوانات أو الأشجار أو الأصنام من الذهب والحجارة، أو الها غير منظور، أو انسانا مقدسا، أو زعماء شياطين، وربما عبد أسلافه، أو أمته، أو طبقته أو حزبه، أو المال أو النجاح، وقد يؤدي به دينه الى تطوير روح الدمار أو الحب، الى التسلط أو الإخاء، أو ربما ضاعف من قوة عقله، أو أصابها بالشلل، وقد يدرك أن مذهبه مذهب ديني، يختلف عن المذاهب الدنيوية، أو قد يظن أنه لا يملك دينا، وأنه يكرس نفسه لأهداف دنيوية مزعومة كالقوة أو المال أو النجاح، ليست شيئا سوى اهتمامه بالعمل والمنافع، والمسألة ليست دينا أو لا دين، بل (أي نوع من الدين)، هل هو من النوع الذي يساعد على تطور الانسان، وعلى الكشف عن قواه الانسانية الخاصة به كإنسان، أم هو النوع الذي يصيب القوة بالشلل"!!
هذا التمييز بين النوعين من التدين، ينطبق على كل دين، سواء أن كان دينا سماويا، أو أرضيا.. ونحن للتمييز بين النوعين، سوف نستخدم للحد السلبي من الدين و(الذي يصيب القوة بالشلل)، مصطلح (الهوس الديني)، مقابل (الدين) للحد الايجابي، الذي (يساعد على تطور الانسان، وعلى الكشف عن قواه الانسانية الخاصة به كانسان).
وكملاحظة عامة، إن السائد في وقتنا الحاضر، هو الحد السلبي للدين (الهوس الديني)، وهذا ينطبق على الأديان السماوية، كما ينطبق على الأديان الأرضية.. فما هو سائد بين جميع أصحاب الأديان الكتابية، هو الهوس الديني.. وما هو سائد بين جميع أصحاب الأديان الأرضية، هو الهوس الديني، وكنموذج لهذا الأخير، يمكن أن ننظر في اليمين السياسي المتطرف، وتحالفاته مع الهوس الديني المسيحي واليهودي.. ونحن لما كنا سنناقش الحضارة الغربية، كموضوع أساسي لكتابتنا هذه، فسنترك موضوع الهوس الديني فيها، الى وقته.. وسيكون تركيزنا هنا على الهوس الديني، بالنسبة للأديان السماوية ـ الأديان الكتابية ـ وبصورة خاصة الاسلام.
بالنسبة للأديان السماوية، الناس يكونون في حالة من حالتين: إما عهد (بعثة) أو عهد (فترة).. عهد البعثة، تكون فيه السيادة للدين الايجابي، وعهد الفترة، هو وقت انحطاط الدين، وتكون فيه السيادة للهوس الديني.. ويلاحظ أنه في عهد الفترة، وبصورة عامة، عبر التاريخ، يكون الذين يمثلون الدين الرسمي، أكثر انحطاطا من غيرهم، بمقاييس الدين، فهم في غالب أحوالهم، إما يسعون للسلطة الدنيوية، والثروة، باسم الدين، أو تستخدمهم السلطة لإعطاء غطاء ديني، لتجبّرها وظلمها الناس.. وموضوع زمن البعثة، والفترة، مأخوذ من قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ).. ( المائدة 19 ) .. (على فترة من الرسل)، يعني فترة انقطاع من ارسال الرسل، وهي الجاهلية.. فالحياة البشرية، من حيث الدين، دائما تكون بين سفح وقمة، وهي عندما تكون في السفح إنما تحتشد لتقفز الى القمة، وتكون القفزة بقدر هذا الاحتشاد في السفح.. وإنما يمثل السفح التقدم المادي للمجتمع البشري، وتمثل القمة تقدمه الروحي.. فالله تعالى يسير الحياة اليه من خلال رجلي المادة والروح، وهما شيء واحد، ليس بينهما اختلاف نوع، وإنما اختلاف مقدار.. ويشهد وقتنا الحالي، أكبر عملية احتشاد، عبر التاريخ البشري، فقد قدمت الحياة في اطار الحضارة الغربية، رجل المادة، واعتمدت عليها، وهي توشك أن تقدم رجل الروح، بقيام عهد بعثة جديد، يتناسب مع عهد الفترة القائم.. ولما أصبحت ضرورة الميلاد الجديد أمرا مشعورا به، فقد كثرت الدعاوى الكاذبة، واستشرى الهوس الديني، وتزايد عهد الأنبياء الكذبة.. وهذا أمر طبيعي، فقبيل الفجر الحقيقي، لابد من الفجر الكاذب.