إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٨)

خالد الحاج عبد المحمود


الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته


والآن لنرجع إلي موضوعنا، عن الشيطان، وعلاقته بالخير والشر يقول المعصوم: (إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالصوم).. ويقول تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر، ويأمركم بالفحشاء ، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا، والله واسع عليم)..فالشيطان داخلنا وخارجنا.. خارجنا هو الروح الشرير، الذي لا يأمر بخير.. وداخلنا هو عقل المعاش، الذي ينصت للشيطان، ويأتمر بأمره.. ففي الآية الكريمة أعلاه الشيطان مقابل عقل المعاش، والرحمن مقابل عقل المعاد.. والشيطان إنما هو داخلنا لأننا خلقنا من الطين المحروق بالنار ، في حين خلق الشيطان من النار.. (خلق الإنسان من صلصال كالفخار* وخلق الجان من مارج من نار).. ويتهذب عقل المعاش عن طريق المنهاج، كما ذكرنا، ويتم التحول نحو عقل المعاد، وبذلك يبدأ الانتصار على الشيطان في الداخل.. وبالقدر بالذي نحقق به عقل المعاد، ويتم الانتصار علي الشيطان في الداخل، يتم الانتصار علي الشيطان في الخارج في نفس الوقت.. وإذا حققنا عقل المعاد في المستوى الذي يكون متحررا من الرغبة، ننتصر علي الشيطان في الخارج تماما، ولا يكون له علينا سلطان، وفي ذلك يجئ قوله تعالي: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، إلا من اتبعك من الغاوين)..
(قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الأرض، ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، إلا من اتبعك من الغاوين) الحجر 39-42.. وقوله تعالى: (فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * انه ليس له سلطان على الذين آمنوا، وعلى ربهم يتوكلون).. فإنما سلطانه على أوليائه، وهم الذين يزين لهم عقل المعاش، من المطامع، والشهوات والاهواء، مايجعلهم يستجيبون له.. اما عباد الله، من المؤمنين، الذين على ربهم يتوكلون، فلا سلطان له عليهم.. فكيد الشيطان ضعيف، لان منطقته الاساسية هى منطقة حجب الظلمات، وهذا أمرها هين على العباد المجودين.. يقول تعالى، عن ضعف كيد الشيطان: (فقاتلوا أولياء الشيطان، إن كيد الشيطان كان ضعيفا).. فالشيطان موظف صغير في مملكة الله، وهو صاحب وظيفة مؤقتة، وليست دائمة.. وهو، كجميع بقية خلق الله، مسخر للانسان، إلا أن تسخيره فى جانب الخطأ.. وقد ذكرنا ان حق الخطأ هو ما ميز الانسان، على الملائكة، من اعلى، وعلى الشياطين، من اسفل، وبه تميز الانسان بالحرية، وبإمكانية التطور المفتوح. لقد ورد عن المعصوم، قوله عن سيدنا عمر بن الخطاب: (ما سلك عمر واديا إلا وسلك الشيطان غيره).. ان هزيمة الشر، وقوى الشر، أمر محسوم بل هو قريب فالله تعالى متكفل بهداية عباده (إن علينا للهدى، وإن لنا للآخرة والأولى).. فمن لم تتم هدايته في الأولى، لا بد أن تتم في الآخرة فالهداية أمر لابد ان يحدث فى حينه.. والهداية أمر مستمر دائما، فالله تعالى قد هدى الحياة مسيرتها منذ البداية، وهو لا يزال يهديها، ولن ينفك.. وهو إنما يهدى الحياة عن طريق قانون المعاوضة فى مستوى الحقيقة، ومستوى الشريعة.. فقانون المعاوضة فى مستوى الحقيقة وهو الارادة التى قهر الله بها العوالم فابرزها وسيرها الى الكمال.. وهذا القانون هو قانون الحق، الذى قال تعالى عنه: (وما خلقنا السموات والارض ومابينهما لاعبين * ما خلقناهما الا بالحق ولكن اكثرهم لايعلمون).. فالحق هو هذا القانون، وهو يقوم على القصاص، الذى تحكيه الآيتان: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).. وقانون المعاوضة فى مستوى الشريعة يسير مصاقبا لقانون المعاوضة فى مستوى الحقيقة، وهو يقع على ثلاث مستويات، ويحكيه قوله وتعالى: (إن الله يأمر بالعدل والاحسان، وايتاء ذى القربى).. والعدل هو القصاص فى مستوى (العين بالعين، والسن بالسن).. و(فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم).. والإحسان هو العفو عن المسئ: (من تصدق به فهو كفارة له).. وإيتاء ذى القربى، تعنى صلة الرحم، التى تحدثنا عنها، وقلنا انها رحم العبودية للمعبود الواحد، وتشمل جميع الأحياء والأشياء.. وهذه المستويات الثلاثة تحكيها ايضا الاية: (وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، إنه لايحب الظالمين) قوله (جزاء سيئة سيئة مثلها) هو مستوى العدل من درجة التناصف، وإنما سماه سيئة ليرغب عنها، حيث أمكن ذلك (ولمن صبر وغفر، ان ذلك لمن عزم الامور) وأما قوله (فمن عفا) فهو مستوى الإحسان بترك المسئ، وهو فوق العدل. وأما قوله (وأصلح) فهو يعني الرحمة بالمسئ، والتعطف عليه، والمحبة له، وذلك قمة الصلاح والاصلاح، وهو اعلى قانون المعاوضة فى الشريعة.. وتشريع الاسلام، سواء كان تشريع عبادات، أو تشريع معاملات، إنما هو منهاج تربوى يرتفع بالمجتمعات، لتحقيق قانون المعاوضة في المستويات التي ذكرناها، فيرتفع بالمجتمعات والافراد من الغلظة، والجفوة، الى اللطف والإنسانية.. وبذلك تكون هزيمة ابليس، وهزيمة الشر، وقوى الشر.. فقانون المعاوضة، فى الحقيقة المراد به تسيير العوالم الى الله عن طريق الجسد.. فهو يقوم على الارادة.. وقانون المعاوضة، فى مستوى الشريعة، مقصود به تسيير البشر الى الله عن طريق العقل - عن طريق الحرية.. والأمر كله، فى جميع مستوياته، يقوم على الرحمة التي وسعت كل شئ.. والرحمة تقع فى مستويين: الرحمة الرحمانية وهذة تشمل الوجود كله، وكل مخلوق بها مرحوم.. وفيها يدخل العذاب.. والرحمة الرحيمية، وهى الرحمة الخالية من العذاب.. فالرحمة الاولى، تقع في منطقة الارادة والرحمة الثانية تقع فى منطقة الرضا.. يقول تعالى: (واكتب لنا فى هذة الدنيا حسنة، وفى الآخرة، إنا هدنا اليك.. قال: عذابي أصيب به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شئ، فسأكتبها للذين يتقون، ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياتنا يؤمنون) الأعراف 156..
(رحمتى وسعت كل شئ) هذه الرحمة الرحمانية.. و(فسأكتبها للذين يتقون) هذه هى الرحمة الرحيمية.. فكل مخلوق مرحوم حالا بالرحمة الرحمانية ومآلا بالرحمة الرحيمية، عندما يصبح من الذين يتقون، وماله من ذلك بد، فالله تعالى ملتزم بهدايته.. وقد كتب الله تعالى، على نفسه الرحمة (قل سلام عليكم.. كتب ربكم على نفسه الرحمة) الانعام 54 .. والفضل فوق الرحمة. يقول تعالى: (قل بفضل الله، وبرحمته، فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون) يونس 58.. (خير مما يجمعون) يعنى من الحسنات، وأعمال البر.. وحتى العقوبة، هى فى الواقع، رحمة رحمانية، ومحاطة باللطف، إذ يتجلى فيها الله باسمه اللطيف.. والله تعالى يجازي بالحسنة عشر امثالها، وقد يضاعفها حتى تخرج عن الحصر، وهو لا يجازي بالسيئة الا مثلها، وقد يعفو عنها، وقد يبدلها حسنة، وقد يضاعفها بعد ذلك اضعافا لاحد لها.. ومجرد النية الحسنة، تكتب حسنة، والسيئة لا تكتب الا اذا تم عملها، ولم يتم العفو عنها.. يقول تعالى: (والذين لايدعون مع الله الها آخر، ولا يقتلون النفس التى حرم الله الا بالحق، ولايزنون، ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهانا * الا من تاب، وآمن، وعمل عملا صالحا، فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفورا رحيما) الفرقان 68-70 ويقول تعالى: (هو الذى يصلي عليكم وملائكته، ليخرجكم من الظلمات الى النور، وكان بالمؤمنيين رحيما) الأحزاب -43 -
من كل ما تقدم، نصل الى أن الشر ليس أصلا فى الوجود، وانما هو فرع، ومرحلى، وأن القوى الموظفة للشر، ومنها الشيطان، ذات وظيفة مرحلية، ينتهى دورها فى الشر، بانتهاء حكمة دخوله فى الوجود.. والشيطان وهو تجسيد الشر فى الخارج، تكون دولته، فى الاوقات التى يكون فيها عنصر التدين عند البشر ضعيفا.. ويضعف دوره فى الاوقات التى يكون فيها عنصر التدين سائدا وقويا.. ولكل ذلك، فان المرحلة القادمة، والتي يصل فيها عنصر التدين قمته، تصفد فيها الشياطين، بنور المعرفة، وانتصار الخير وبذلك تدركها الرحمة في مستوى من المستويات.. ولكن للشيطان جولة اخرى، ليعد الله تعالى به الارض لساعة التخريب، الساعة الكبرى .. وبعدها لن يكون للشيطان دور فى الشر وتنتهى وظيفته المرحلية.


    خالد الحاج عبد المحمود
    رفاعة في 27/3/2007