إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٨)
خالد الحاج عبد المحمود
بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته
(8)
الخير والشر
قضية الخير والشر من قضايا الوجود الكبرى، مثل قضية الجبر والاختيار .. وهي قضايا لا يكفي فيها الفهم العقلي وحده، و لا يمكن ان تعالج بصورة جذرية خارج اطار التوحيد.. والتوحيد، يبدأ بالتصور النظري الذي يقوم على الايمان، وفي هذه المرحلة تكون هناك قناعة عقلية، ولكن يظل في النفس شئ، لا يزول إلا بعد دخول مداخل اليقين، التي تتحقق نتيجة للتسامي في العمل منهاج التقوى، بما يرسخ المعاني في النفس، ويجعل العلم تحققا.
في الفهم الديني ثنائية الخير والشر، كجميع الثنائيات المتقابلة، الاختلاف فيها لا يكون اختلاف نوع، وانما هو اختلاف مقدار .. ودائما إحدى الثنائيتين أصل والأخرى فرع.. والأصل هو الباقي والدائم، أما الفرع فهو فاني، ينتهي في مرحلة النسبية .. وهذه هي القاعدة التوحيدية الأساسية، في التعامل مع الأضداد.. فكما قلنا، ونكرر الآن، في الديالكتيك الإسلامي، يقوم النقيضان على خلفية من الوحدة، هي الأساس، أما التناقض فهو مظهر، مرتبط بقصور ادراك العقول، ولخدمة هذا الادراك، فالعقول لا تدرك الأشياء إلا بأضدادها، لأن ادراكها يقوم على الثنائية.. أما الإدراك الوتري فهو ادراك القلوب.
فالخير هو الأصل، والشر مظهر له، وطرف منه، وموظف لخدمته.. فالخير هو الغاية والشر وسيلته.. وقد دخل الشر في الوجود لحكمة تعليمية، هي أن ندرك الخير عن تجربة ونتطور في مراقيه.. فالشر هو ثمن الحرية، فإذا أحسنا التصرف في الحرية، يكون قد خدم غرضه وينتهي تماما، لعدم الحاجة اليه، ولزوال وهم العقول الذي تسبب في ايجاده.
والآن لنرى الطرح الفلسفي لمشكلة الخير والشر.. يقول استيس: "فإذا كان الله هو المصدر النهائي لكل شئ، لكان معنى ذلك أنه المصدر النهائي للشر، لكن كيف يمكن أن يتسق ذلك مع خيريته الكاملة"
كتب هيوم يقول: "إن اسئلة أبيقور القديمة لا تزال بغير جواب، فهل يريد الله أن يمنع الشر، لكنه لا يستطيع؟ لو صح ذلك لكان عاجزا، أم أنه يستطيع لكنه لا يريد؟ لو صح ذلك لكان غير خيّر.. أم أنه قادر ويريد في آن معا؟ وفي هذه الحالة من أين جاء بالشر؟" - الدين والعقل الحديث - ويرى استيس أن المشكلة في مثل هذه الأسئلة تجئ من النظر للكلمات بمعناها الحرفي.. فكلمات (قادر) و (يريد) و(يستطيع) عندما تستخدم في حق الله تعالى، لا بد من أن تكون دلالتها، رمزية، وليست حرفية.. والخطأ الثاني حسب استيس، يجئ من تصورنا لله، بنفس تصورنا لأنفسنا كبشر، ولذلك الكلمات تعني بالنسبة له تعالى، نفس ما تعنيه بالنسبة لنا.. وفي تقديري أن اعتراضات ستيس على أسئلة أبيقور، اعتراضات وجيهة، ولكن الاجابات الحاسمة لأسئلة أبيقور المذكورة، لا تجئ من قبل الفلسفة، وانما من قبل الدين، وهي بطبيعتها اسئلة متعلقة بالله وبالدين، والاجابة الدينية البسيطة المباشرة هي: أن الشر من الله، ولكن ليس عنده، والله تعالى فعلا يمنع الشر، بعد أن يؤدي وظيفته المرحلية التي أوجده من أجلها.. وأسئلة أبيقور مبنية على افتراض خاطئ، يقوم على انه طالما أن الشر ظل موجودا دائما في الماضي والى اليوم، فهو سيظل كذلك في المستقبل.. وهنا تكمن مشكلة الاطار المرجعي، فهو كفيلسوف يعتمد على العقل وحده، والعقل وحده لا يملك من امكانية ادراك المستقبل ما يمكنه من البت في استمرارية او عدم استمرارية الشر.. والدين يعتمد في هذا الأمر، على أمر أكثر من العقل وهو الوحي، وعلى التوحيد كإطار مرجعي، وكذلك من خلال الفهم الديني السليم، يستطيع العقل أن يدرك أن الشر مرحلي، وهو لا بد منتهي.. كما تتضمن اسئلة ابيقور، السؤال عن حكمة الشر.. اذا كان الله تعالى خير، ويريد الخير، فلماذا اوجد الشر!؟ وهذا يقودنا الى موضوع الغائية الذي تحدثنا عنه، في الحلقة الخاصة بالأخلاق.. وفي هذا الصدد يقول استيس: "إن مشكلة الشر تفترض وجود غرضية للعالم. فما نسأل عنه في الحقيقة هو الغرض من وجود الشر.. ما الغرض من وجود الألم والمعاناة؟ إذ يبدو أنها بلا غرض. فبسؤالنا لماذا يوجد الشر؟ يفترض أن للعالم غرضا، وما نريد ان نعرفه هو كيف يتناسب هذا الألم مع هذا الغرض ويعمل على تقدمه.." .. وبصورة خاصة ارجو ملاحظة عبارة (ويعمل على تقدمه) أي كيف يعمل الألم على تقدم الغائية الكونية؟ وإذا قررنا أن الغاية من الكون هي تحقيق انسانية الانسان، فكيف يعمل الألم على تقدم هذه الغاية؟؟ هذا ما سنجيب عليه ضمن مناقشتنا التالية لقضية الخير والشر.