إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٨)

خالد الحاج عبد المحمود


الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته


كل مخلوق مرحوم:


الوجود كله يقوم على الرحمة، ولقد سبق لنا أن أشرنا الى ذلك.. فكل مخلوق مرحوم.. هو مرحوم في الحال بالرحمة الرحمانية، والعذاب طرف منها.. وهو مرحوم في المآل بالرحمة الرحيمية، وهي خالية من العذاب.. يقول تعالى: (قال عذابي اصيب به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شئ، فسأكتبها للذين يتقون..) ويقول: (فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة).. فالشر والعذاب وسيلة للهدى، وللطاعة، وعلى ذلك هما وسيلة للخير وطرف منه.. وقد سبق لنا أن تحدثنا عن قانون المعاوضة في الحقيقة، وهو قانون يسيّر به الله تعالى، الخلق اليه، وقد جاء عنه من أقوال الأستاذ: "وهو قانون يعمل دائما على تنمية الخير ومحو الشر، وذلك بسوق الحياة الى كنف الله الرحيم" .. "فالانسان مسير من البعد الى القرب.. ومن الجهل الى المعرفة، ومن التعدد الى الجمعية، ومن الشر الى الخير، ومن المحدود الى المطلق، ومن القيد الى الحرية" ..
والتسيير في بدايته، هو رحمة في صورة عدل، وهو أكبر من العدل.."فالرحمة أكبر من العدل" .. فسبب العذاب هو جهلنا الذي يجعلنا نختار أنفسنا عن الله "وليس الجهل ضربة لازب علينا ، وإنما نحن نخرج عنه إلى العلم كل لحظة . فإن قلت فلماذا لم نخلق علماء ، فنكفى بذلك شر الجهل ، وسوء التصرف في الحرية ، وما يترتب على سوء التصرف من عقوبة؟ قلنا إن العقوبة هي ثمن الحرية ، لأن الحرية مسئولية ، والمسئولية التزام شخصي في تحمل نتيجة العمل ، بين الخطأ والصواب . ولقد خلق الله خلقا علماء لا يخطئون ، ولكنهم ليسوا أحراراً ، ولقد نتج عن عدم حريتهم نقص كمالهم ... أولئك هم الملائكة ، فإن الله فضل عليهم البشر ، وذلك لمكان خطئهم وصوابهم ، أو قل لمكان طاقتهم على التعلم بعد جهل ، وإلى ذلك الإشارة بحديث المعصوم (إن لم تخطئوا وتستغفروا فسيأت الله بقوم يخطئون ويستغفرون فيغفر لهم) فكأن الخطائين المستغفرين هم موضع نظر الله من الوجود، لأنهم بذلك سيصيرون إلى الحرية ، والحرية المطلقة ، وهي حظ الله العظيم .. وكل مقيد مصيره إلى الحرية ، والحرية المطلقة في ذلك، وكل جاهل مصيره إلى العلم ، والعلم المطلق في ذلك أيضا . والله تبارك وتعالى يقول (يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) ويقول (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا، وأنكم إلينا لا ترجعون) وملاقاة الله ، والرجوع إليه ، لا يكون بقطع المسافات ، وإنما يكون بتقريب الصفات ، من الصفات . ومن أجل ذلك قررنا أن التسيير خير مطلق ، وهو في حقيقة أمره خير ، في الحال ، وخير ، في المآل.
وسيجئ وقت ينتهي فيه الجهل بفضل الله في التسيير" - الرسالة الثانية –
"فالقدر منطقة ثنائية ، حيث الخير والشر ، والعلم والجهل ، ولكن القضاء منطقة وحدة ، حيث يختفي الشر ، ولا يبقى إلا الخير المطلق ، عند الله، حيث لا عند . وهذا ما يسمى عند أصحابنا بسر القدر، وهو أمر لم يكن عندهم مما يصح البوح به ، وذلك مراعاة لحكم الوقت ، وتأدبا بأدبه .
وهناك سابقتان لكل مخلوق: سابقة في القضاء ، وسابقة في القدر .. فأما السابقة في القضاء فهي خير مطلق لكل الخلائق ، وأما السابقة في القدر فهي: إما خير ، وإما شر ، وأمرها مغطى على الناس ، وقد تدل ، على هذه السابقة ، اللاحقة ، وهي ما يكون عليه الإنسان في حياته اليومية من صلاح أو طلاح ، وأمر اللاحقة غير مغطى على أصحاب البصائر ، الذين يعرفون عيوب العمل بالشريعة ، وإرسال الله الرسل ، لكشف اللاحقة ، بتفصيل الشريعة ، وتغطيته تعالى السابقة في سر لوحه المحفوظ ، ألزم عباده الحجة ، وأوجب عليهم العمل بأوامر الشريعة ، ونواهيها، "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" - الرسالة الثانية -
فبالطاعة والهدى، يتم تجاوز العذاب، وتجاوز الشر، الذي هو بطبيعته مرحلي.. وكل انسان مصيره الى الهداية، إن عاجلا أو لاحقا، لأن الله وتعالى ملتزم بهدايته، والهداية عليه تعالى وحده، فهو يقول: (إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى) فمن لم يهتد في الأولى، لا بد له أن يهتدي في الآخرة.. ومن يرد به الله تعالى خيرا يهده في الأولى، ولكن الهداية كائنة في حينها، ما في ذلك ريب.. ولذلك، ما من نفس إلا وهي خارجة من العذاب، وصائرة الى النعيم.. والنار نفسها، التي هي مكان العذاب، ووسيلته، والتعبير عنه، فانية، ومنتهية، عندما تؤدي وظيفتها، وهي سوق الخلق الى الله - الى الهداية.