إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٣)

خالد الحاج عبد المحمود


بسم الله الرحمن الرحيم

الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته


وسائل الحياة:


إن مصدر الحياة الأساسي، بل الوحيد، هو الله تعالى، فهو وحده الذي يحي ويميت، ولا يوجد شريك له في ذلك.. ولكن الله تعالى، رتب أسبابا ظاهرة للحياة والموت، يعمل من خلالها.. وبذلك أصبح هنالك سبب حقيقي للحياة والموت، وهو واحد، وهنالك أسباب مباشرة، وهذه الأسباب المباشرة لا تعمل من عندها، هي لا تعمل إلا بالتوافق مع السبب الحقيقي، فهي وسيلة تنفيذ لما هو مقرر، في السبب الحقيقي.. فالسبب الحقيقي للحياة هو الله، أما الأسباب الظاهرية "الشرعية"، فهي عديدة وتختلف باختلاف مستويات الحياة، في تجلياتها المختلفة.. فأسباب الحياة، عند الملائكة، وعند الجن، وعند الحيوانات والبشر، وعند النبات مختلفة.. وحتى السبب الواحد قد يختلف من وقت لآخر، فالأكسجين مثلا، الذي يشكل العنصر الأساسي في اسباب الحياة المادية، كان في وقت من الأوقات هو السم الأساسي الذي هدد الحياة، حتى برزت أنواع من الأحياء تأقلمت عليه، فتحول دوره من خطر يهدد الحياة، الى لازمة من لوازم بقائها.
والحياة عند الانسان، ليس مجرد الحياة البيولوجية، وإنما بالإضافة لهذه الحياة، هنالك بعد آخر، أساسي، هو البعد الروحي للحياة.. فالانسان جسد وعقل (روح) وليحي حياة متوازنة، لا بد من إشباع حاجات الجسد، وحاجات الروح، وهنا يقع الخلاف الأساسي بينه وبين الحيوان، وقد قال السيد المسيح: (ليس بالخبز وحده يحيا الانسان) .. وقال أكرم القائلين: (استجيبوا لله وللرسول، إذا دعاكم لما يحييكم).. وعندما نهى النبي الكريم، الأصحاب عن صيام المواصلة، قالوا له: إنا نراك تواصل يا رسول الله .. قال: (إني لست كأحدكم، فإني أبيت عند ربي يطعمني ويسقـيني)، وهو بالطبع، لا يطعمه خبزا، ولا يسقيه ماء.. وهذا يقودنا الى مستويات الحياة عند الإنسان.

إرادة الحياة وإرادة الحرية:
عندما تهيأت الظروف في الأرض، أبرز الله تعالى المادة العضوية، من المادة غير العضوية، في مستوى الخلية الواحدة، وكانت هذه بداية الحياة.. واودع الله تعالى، في الحياة (إرادة الحياة) وهي قوة تعمل، بدافع حب البقاء، للاحتفاظ بالحياة.. وقانونها السعي وراء اللذة، والفرار من الألم.. وإرادة الحياة تتمتع بالحركة التلقائية، وذلك لأن دوافع حركتها، وقوى حركتها، فيما يظهر مودعة فيها، وهي حركة يستخدمها الحي في تحصيل قوته، وفي الاحتفاظ بحياته، والاحتفاظ بنوعه..
ثم لما ارتقى الله تعالى بالحياة الى مرتبة الانسان، زاد على إرادة الحياة، عنصرا جديدا، هو (إرادة الحرية)، وهي إنما تختلف عن ارادة الحياة اختلاف مقدار، فهي الطرف الرفيع الشفاف من ارادة الحياة.. يقول الأستاذ محمود عن الإرادتين: ((.. فإرادة الحياة حواء البنية البشرية، وإرادة الحرية آدمها، والعقل هو نتيجة اللقاء الجنسي بين آدمها وحوائها هذين. وفي مرتبة اللقاء الجنسي الذي ينتج العقل فإن لإرادة الحياة اسما آخر، هو الذاكرة، وإرادة الحرية هي الخيال. والذاكرة هي حصيلة التجارب السوالف جميعها، ومن ثم فقد أسميناها النفس، في موضع آخر، وقد ورد أن القصاص المراد به تقوية التخيل عند من يحتاج أن يوضع بالقصاص في موضع ضحيته. والتخيل هو إسم آخر للذكاء، وهو القدرة الدراكة، والإرادة الكابتة لرغايب النفس التي لا يرضى عنها القانون. والذكاء يعمل في توجيه رغايب النفس بفعل الخوف فيه - أو قل بفعل الرغبة والرهبة فيه - وهو، كلما أحسن السيطرة على رغائبها، كلما زاد قوة ومقدرة على التمييز.)) ـ الرسالة الثانية من الاسلام ـ
فدخول العقل، ودخول الارادة البشرية، يشكلان نقطة تحول أساسية في الحياة.. بل هي نقطة التحول الأساسية، وبها أصبحت الشخصية البشرية منقسمة بين دوافع (إرادة الحياة) التي تقوم على الغرائز ، ومقتضيات (إرادة الحرية) التي تقوم على العقل، وتعمل على تهذيب الشهوة الحيوانية وتقييدها.. وبذلك أصبح هنالك صراع داخل الشخصية البشرية، لم يكن موجودا عند الحيوان.. وبذلك اختلفت مسيرة الانسان عن مسيرة الحيوان، واصبحت حاجات الانسان، اكثر تعقيدا من حاجات الحيوان، ولا يكفي فيها اشباع جانب واحد من الجانبين دون الآخر.. ومن هنا تنبع أزمة الانسان، ومن هنا ينبع كماله.. وانقسام الانسان، مر بمراحل، وكانت بدايته الحقيقية منذ ظهور الحياة نفسها، فإن ظهور المادة العضوية من المادة غير العضوية، الذي يؤرخ بدء الحياة، في صورتها البسيطة، إنما هو انقسام المادة بين لطيف وكثيف.. وقد ظل الكثيف يلطف، واللطيف يزداد لطافة، حتى بلغا في مرحلة الانسان، أن أصبح اللطيف يمثل العقل، والكثيف يمثل الجسد.. ولقد كان الانقسام في جميع أطواره بدافع الخوف.. فلولا الخوف لما ظهرت الحياة في المكان الأول، ولما ترقت بظهور العقل في المكان الثاني.. ولكن الحياة لن تبلغ كمالها إلا إذا تحررت من الخوف تماما.. فالخوف كان صديقا في بدايات النشأة، وهو عدو في أخرياتها.
من كل ما تقدم يتضح أن الحياة مستويات، والله تعالى يسيرنا، بالوسائل المختلفة لنرقى درجات هذه المستويات ((فالناس مسيرون ، من مرتبة العناصر إلى مرتبة الحياة ومن مرتبة الحياة البدائية إلى مرتبة الحياة المتقدمة الراقية المعقدة ، ومن هذه إلى مرتبة الحرية الجماعية بدخول العقل في المسرح ، ومن مرتبة الحرية الجماعية ، إلى مرتبة الحرية الفردية المطلقة ، والتسيير يطرد في هذه إلى غير نهاية، لأنه سير إلى الله في إطلاقه)) - الرسالة الثانية -
لقد ذكرنا أن العقل عند الانسان، أمر بترويض الشهوة.. وعلى هذا قام التكليف، وبه ظهر الانسان.. فالحياة عند الانسان في هذه المرحلة من تطوره، تقع في مستويين: مستوى حياة الحيوان، ومستوى حياة الانسان.. أو الحياة الدنيا، والحياة العليا أو الأخرى.. والفيصل بين الحياتين هو التخلص من النزعة الحيوانية.. فالإنسان ما دامت مسيطرة عليه صفات الحيوان، خضع لها أو قاومها، فهو في الحياة الدنيا.
والعمل في المنهاج الديني كله إنما هو سير من النفس الدنيا ـ الحيوانية ـ الى النفس العليا ـ الإنسانية ـ ولذلك هو عمل في تحقيق انسانية الانسان.. والنفس العليا، إنما هي النفس الخاضعة، في شهواتها، لمقتضيات العقل القوي المستحصد.. وإنما جاءت الشرائع لتعين العقول على هذه القوة وهذا الاستحصاد.. والحياة العليا، هي حياة الفطرة السليمة، وهي الاستعداد الكامن عند كل الناس، وعمل المنهاج أن يبرزه من كمونه، بإزالة الحجب التي تغطيه.. ففي قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم.. ولكن أكثر الناس لا يعلمون) .. هذه الفطرة في سويداوات القلوب، وهي وإن تغطت، إلا أنها ثابتة لآتتغير، ولذلك قال تعالى عنها: (لا تبديل لخلق الله).. والاسلام دين الفطرة، لأن العمل وفق منهاجه يقود الى هذه الفطرة، وهي صفاء الفكر وسلامة القلب.
فعلى ضوء هذا التعريف للحياة، فإن العلمانية تتعلق بالحياة الدنيا ـ الحياة السفلى ـ حياة الحيوان في الانسان، وتغفل عن الحياة الأخرى ـ حياة الانسان.. ونحن سنعرض هذا الأمر بشئ من التفصيل، عندما نتحدث عن الحضارة الغربية.
إن قضية الحياة، ستصحبنا في جميع الحلقات اللاحقة، خصوصا عندما نتحدث عن المنهاج وعندما نتحدث عن الفكر وعن الحرية، ولذلك هنالك الكثير من القضايا، المتعلقة بالحياة، سنتركها الى حين الحديث عنها عندما نتحدث عن القضايا المذكورة.. فنحن هنا إنما أردنا فقط تقديم تصور عام لمفهوم الحياة.

خالد الحاج ـ رفاعة
21/1/2007