إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٣)

خالد الحاج عبد المحمود


بسم الله الرحمن الرحيم

الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته


خالد الحاج عبد المحمود


(3)
الحياة



ما هي الحياة؟


لقد قررنا في الحلقة السابقة، حقيقة أساسية، نحب أن نبدأ بها هنا، وهذه الحقيقة هي: أنه ليست هناك غاية في ذاتها إلا الانسان.. فكل شئ في الوجود إنما هو وسيلته .. والإنسان ليس كائنا، وإنما هو مستمر التكوين.. هو مشروع بدايته في الأزل ونهايته في السرمد.. والانسان كمشروع، وسيلته الأساسية الاسلام.. الاسلام العام، الذي هو دين الخلائق جميعها، والاسلام الخاص، الذي هو دين الانسان، دين العقول، والذي افترع بآدم، أبو البشر الحاليين.. والاسلام هذا ـ دين الانسان ـ كانت بدايته، مع أول نبوة في الأرض ـ نبوة آدم ـ ولكن ليس له نهاية.. نهايته في السرمد، لأنه حركة من المحدود الى المطلق ـ الله ـ وليس للمطلق نهاية فتبلغ.. وعلى ذلك، الاسلام، مثل الانسان، مشروع له بداية، وليست له نهاية.
وقد نزلت البشرية، اليوم، آخر منازل تطورها نحو بداية مرحلة الإنسانية، والتي ينتظر لها أن تنزلها، في الايام القليلة القادمة، إن شاء الله.. ويومها، ستدخل الإنسانية مداخل الاسلام الاخيرـ المستوى العلمي من الاسلام.. وهذا الاسلام، الأخير، هو ما تبشر به دعوة الأستاذ محمود محمد طه، وهو ما سنتناوله، ببعض التفصيل لاحقا.
وتطور الانسان في مراقي الاسلام، هو تطور في الحياة ـ حياة الانسان.. حياة الفكر والشعور.. فبالنسبة للإنسان، الحياة وحدها، هي الغاية في ذاتها، وكل ما عداها وسيلة لها، وهكذا ينبغي ان تتخذ.. وحياة الانسان تقوم على أمرين أساسيين، هما: العلم والحرية.. فالعلم هو وسيلة الحرية، والحرية هي وسيلة الحياة.
الحياة في تعريفها الأساسي، هي تجلي الله، باسمه (الحي).. والتجلي عام، وما يعين مستواه أو درجته، هو استعداد المحل في المتجلي عليه.. وعلى ذلك، ما من شئ الا وهو حي، المادة العضوية، والمادة غير العضوية، في ذلك سواء، ولكن لضرورة التمييز، اصطلحنا على قصر الحياة على المادة العضوية، أما المادة غير العضوية، لأن الحياة فيها كامنة، لم تبرز، فقد اصطلحنا على اعتبارها اصطلاحا غير حية..
وقد بدأت، الحياة، بمعناها الاصطلاحي، بحيوان (الخلية) الواحدة.. وهذه (الخلية) إنما تمثل الانسان، في منزلة متقدمة، من منازل سيره في طريق الرجعى.. وبهذه الخطوة الجليلة، والخطيرة، أفتتح عهد جديد، عهد عظيم.. عهد الحياة والموت.. وبعهد الحياة والموت هذا، دخل الخوف في المنطقة.. وبدأت الحياة تنقسم.. وهذه القسمة تمثل بداية ظهور اللطيف من الكثيف.. وهذه بداية الإدراك.. وقد كان الإدراك البدائي يتمثل في الحس.
الموت هو نقيض الحياة، التي به تظهر.. وكما ذكرنا، الاختلاف بين النقيضين، اختلاف في الدرجة فقط.. والنقيض الأعلى دائما هوالأصل، والأدنى متحرك يطلبه.. فالموت وجه من وجوه الحياة، ووسيلة من وسائلها.. أما الموت بمعنى الانعدام التام للحياة، فلا وجود له.. يقول الاستاذ محمود: ((الموت الحسي ليس، في الحقيقة، كما نظن نحن الآن، وإنما هو ميلاد في حيز غير الحيز الذي كنا نألفه نحن، مثله، في ذلك، مثل ميلاد الطفل في عالمنا هذا، فإنه جاء من حيز عاش فيه مدة، وألفه، واطمأن إليه، ولم يخطر بباله حيزغيره، ولو خير لكره الخروج عنه إلى عالمنا هذا كما يكره أحنا أن يموت الآن.. نحن أيضا عندما نموت سنجد أنفسنا في عالم خير من عالمنا هذا.
الموت بمعنى الفناء ليس هناك.. فالإنسان لا يموت، وإنما يتخلص من القوقعة كما يتخلص أحدنا من الملابس البالية.. وتبرير الاسلام للموت أنه سير الى الله.. سير من البعد الى القرب
فالحياة درجات متفاوتة، من حياة حيوان الخلية الواحدة، والى حياة الله تعالى، في اطلاقه.. كل درجة من درجات الحياة، هي حياة بالنسبة لما دونها، وبالنسبة لما فوقها هي موت، وتتفاوت الحياة بحسب موقعها من مصدر الحياة الأصلي "الله" .. ففناء الحياة هو تقلبها في الصور، في طريق رجعاها الى مصدرها.. وقد تحدثنا في الحلقة الأولى عن الفناء والبقاء، وقلنا (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام).. (فان) يعني متقلب في الصور، وقلنا (يبقى وجه ربك) يعني يبقى البقاء النسبي، الوجه القريب من الله من الأشياء، ويبقى البقاء المطلق، وجه الله المطلق.. ففناء الحياة يعني تطورها في المراقي، تطلب الحياة الكاملة المطلقة الكمال، ولذلك تطور الحياة، لا نهاية له، السير في مضمارها سير سرمدي!!
والموت من اهم وسائل تطوير الحياة (خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) .. فالابتلاء هو وسيلة تطوير الحي (لقد خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه، فجعلناه سميعا بصيرا) .. فبالموت والحياة، يكون احسان العمل (أيكم أحسن عملا)، وباحسان العمل يكون الانتصار على الموت، والانتصار للحياة.. "فالجسم هو مظهر الروح يخضع للعلة، والموت، ولكن الروح غير خاضعة لأيهما".. فالانتصار على الموت يكون بتغليب جانب الروح على جانب الجسد، بتحويل كثافته الى لطافة، وهذا هو عمل العبادة الاساسي، وهي عمل العذاب لمن يحتاج للعذاب .. والعبادة إنما هي عمل في الفكر، به يتم الاستغناء عن العذاب (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم، وكان الله شاكرا عليما)
الموت الحقيقي، الموت الأعظم، هو موت القلوب بالغفلة عن الله، قال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نورا يمشي به في الناس، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) قوله: (أو من كان ميتا) بالجهل بالله.. (فأحيناه) بالعلم بالله.. يعني أو من كان ميت القلب بظلام الكفر، فبعثنا قلبه، وأحييناه بنور الايمان، كمن هو في ظلمات الجهالات يتخبط فيها على غير هدى؟ والى غير خروج)) ـ كتاب القرآن ومصطفى محمود ـ فالحياة هي السير من البعد عن الله الى القرب من الله، وهو "الحي" بالأصالة.. فالبعد موت، والقرب حياة - بعث من الموت .. فنحن أموات بالقدر الذي به نكون غافلين عن الله، وأحياء بالقدر الذي نكون به حاضرين معه تعالى.. فالقرب من الله هو قرب معنوي .. والقرآن وطريق محمد، صلى الله عليه وسلم،هما وسيلة هذا القرب، وعلى ذلك، هما وسيلة الحياة، الحقيقية الباقية، التي لا يزيدها الموت الحسي، إلا كمالا، يقول تعالى: (واستجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم..) ويقول: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب).. ويقول تعالى عن الشهداء: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)
كلمة (موت) تستخدم في الاسلام، للموت الحسي، الذي به تبدأ مرحلة دخول عالم البرزخ، وهي نفسها تستخدم لتعبر عن الموت المعنوي، بصورة سلبية، بمعنى الغفلة وموت القلوب، وهذا هو الموت الحقيقي، كما ذكرنا، وتستخدم كلمة "موت" في بعض الأحيان، بمعنى ايجابي، بمعنى موت النفس السفلى ـ الرغائب والشهوات ـ وهذا (الموت) هو الحياة الحقيقية والباقية، واليه الاشارة بقول المعصوم (موتوا قبل أن تموتوا) يعني موتوا عن رغائبكم وشهواتكم، قبل أن تموتوا الموت الحسي، أو بمعنى آخر، حققوا بالعبادة والسلوك، السيطرة على شهواتكم بالصورة التي ترفع عنكم الحجاب، قبل أن يرفعه عنكم الموت الحسي.