إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
بمناسبة الذكرى العشرين لاستشهاد الأستاذ محمود محمد طه
التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها
الدين وسيلة، وليس غاية
ومن الملحوظ أن أغلبية الأديان الشرقية (البوذية والكونفوشيوسية والتاوية.. الخ) قد بدأت كمدارس فلسفية وليس كأديان.. ولكن حوادث الزمان فرضت عليها تبني الكتير من الخط الديني.. والفرق بين الخط الديني والمدرسة الفلسفية ليس فرق نوع، وإنما فرق مقدار، إذا صح التعبير، فالدين يتميز بأنه يملك قاعدة من الخطوط العقائدية المبسطة والمتنزلة إلى واقع الناس.. مثل التصوير المعين لقصة الخلق وبداية الكون، والتصوير المعين أيضا لنهاية الكون، وقانون الترهيب والترغيب والجنة والنار، حسابا على فعل الخير والشر، أو اتباع التشريع ومخالفته، والصورة المحسوسة والمباشرة لطقوس العبادة.. إن هذا النوع من التصوير يكون سهل الإستيعاب على القاعدة العامة من البشر، خصوصا في المجتمعات السابقة في التاريخ، لأنه يقرب المعاني العميقة والسامية إلى فهم الناس بوضعها في قالب الصورة المحسوسة.. وعلى هذا فهو يخلق قاعدة بداية يتساوى في الفهم فيها معظم الناس، إذ ليس فيها عنتا فكريا أو عمقا صعب الولوج على غير الصفوة الفكرية في المجتمع.. وهذه القاعدة المبسطة والبدائية هي دليل على الحكمة في التعامل مع العقل البشري وسوقه بأناة ورفق في دروب معرفية وعرة جدا تحتاج إلى الكثير من التركيز والتعمق والصفاء الذهني.. ذلك بأن، بتلك البداية، يضع السالك في هذا الدرب المعرفي قدمه على أرض يطمئن لها، لأنها محسوسة ومألوفة لعقله المتأثر بالمادة الصرفة.. ومن هذه الأرض يستطيع أن يبدأ رحلته وينطلق ليسمو بفكره وشعوره لكي يلحق بالمعاني السامية لأصول الدين المعرفية.. وهو يتخذ في هذه الرحلة الطويلة والعميقة دابة وفرها له الدين أيضا، وهذه الدابة هي "العبادة".. فالعبادة هي وسيلة لتصفية الذهن وتخليص العقل من قيود الشهوات حتى يصبح حرا، ويستطيع بذلك أن يترقى في الفهم والمعرفة الجوهرية والسامية لأصول الدين..
وفي المدرسة الفلسفية، يختلف الوضع قليلا، إذ أنها لا تقدم في البداية تلك القاعدة المبسطة من الخطوط العقائدية المتنزلة إلى واقع الناس.. أو على الأقل هي لا تقدمه بالكمية الكافية المطمئنة للقاعدة العامة من الشعوب.. ولهذا السبب تفشل المدارس الفلسفية غالبا في أن تصبح مدارسا جاذبة للأعداد الكبيرة من الشعوب التي انشغل معظمها بتحصيل الرزق وصراع البقاء المادي.. فتصبح المدارس الفلسفية مدارسا صفوية في كثير من الأحيان، يأتي إليها القليل من الذين مكنتهم ظروف الحياة من التفرغ لتلك الأسئلة الصعبة عن الوجود وماهيته.. لهذا، على سبيل المثال، كانت المدارس الفلسفية، خصوصا في الماضي، تحوز على اهتمام قلة قليلة من الرجال، ونادرا ما كان النساء صاحبات اهتمام في تلك المجالات بسبب من واقع الحياة الذي فرض عليهن الواجب المباشر من متطلبات الأمومة والزوجية وغيرها، فالمرأة كانت في ماضيها مشغولة عن التأمل أكثر من الرجل بكثير، فقد حكمت عليها ظروف قانون الغاب "القرار للأقوى" بأن تكون مضطهدة من قبل الرجل، وتحت إمرته، وبان تكون غير مالكة لوقتها في معظم الاحيان.. وأيضا لم يكن معظم الرجال يجدون الوقت للتأمل بحكم قسوة متطلبات المعيشة كما ذكرنا آنفا..
لهذا مثلا، نبعت الرؤية الدينية في البوذية، على سبيل المثال، والتي كانت مدرسة فلسفية قلت فيها حتى الإشارة إلى وجود الخالق بشكل كافي.. حيث أدرك مؤسسي طائفة "الماهايانا" البوذية أن النصوصية التي عاشت عليها الطائفة الأصلية "الثيرافادان" (Theravadan) من نهج أسلوب تفرغ تام للتأمل الذي يحتاج للرهبنة ومقاطعة المجتمع لا يمكن أن يجذب سوى القلة القليلة من الناس.. وإذا كان البوذي مقتنع برؤيته فهو سيكون ساعيا بطبيعة الحال إلى إرشاد باقي الناس إليها للخير الذي يرجوه لهم فيها، ولهذا فلابد من تبسيط هذه الفلسفة وتبسيط متطلباتها حتى تصبح مستساغة للقاعدة العامة من الشعوب، وقد كان.. فظهرت طائفة الماهايانا التي جعلت تعاليم بوذا أكثر استساغة وأكثر قدرة على التطبيق من داخل المجتمع دون الحاجة إلى تقديم الكثير من التنازلات تجاه الواجبات المعيشية.. وأصبحت الماهايانا في طرحها أقرب لطرح الأديان الكتابية في رسمها لقاعدة عقائدية تساعد العامة من الشعوب على الإطمئنان لها بسهولة.. حتى أن تسمية "الماهايانا" (Mahayana) نفسها تعني "العربة الأكبر" أي أنها قادرة على حمل عدد أكبر من الركاب، في حين أصبح أهل الماهايانا ينادون الطائفة الأصلية "الثيرافادا" بـ"الهينيانا" (Hinayana) أي "العربة الأصغر".. وفعلا هذا هو الواقع اليوم، فانتشار البوذية اليوم بشكل عالمي يعود إلى الماهايانا دون شك..
في هذه النقطة نقرأ حديثا للأستاذ محمود عن الدين، في خطاب له للأستاذ كمال شانتير، في كتابه "رسائل ومقالات – الكتاب الثاني" يقول فيه: "ثم إني لا أكاد أجد، (على طول ما بحثت في نتاج الفكر البشري)، غير الدين، منهاجا فكريا يصل بك إلى الأصول القائمة وراء ظواهر الشكول".. ولعل هذه النقطة استبانت لبعض اصحاب المدارس الفلسفية القديمة، ففضلوا تقديم فلسفتهم في القالب الديني بعد زمن من التجربة.. هذا ونحب ان ننبه مرة أخرى، إلى أن الفرق بين الدين والفلسفة ليس فرق نوع، وإنما هو فرق مقدار، فالدين يبدأ من خلف "ظواهر الشكول" ليصل بنا إلى "الأصول القائمة ورائها".. أما الفلسفة فهي في منهاجها كثيرا ما لا تبدأ من خلف تلك الظواهر، وإنما تنطلق من بدايات أبعد، وهذا هو أساس الفرق في رأينا..
والأديان الكتابية كانت منذ بداياتها مدركة لذلك الأمر، فظهرت منذ بداياتها في دعوة عقائدية صريحة، سهلة الإستيعاب والفهم، بل هي كانت من السلاسة بحيث كان أكثر أتباعها من المسحوقين الذين كانوا في معظمهم أميين، سلمت فطرتهم من "زغل التحصيل، وتعقيد التفلسف، والتنطع الذي يصاحب التعليم عادة" كما قال الأستاذ محمود في تعريف له للأمية.. بل إن من أعظم الشخصيات الدينية تاثيرا على مجرى التاريخ من كان أميا، وأولها النبي الكريم محمد بن عبدالله.. فالدين إذا وسيلة ناجعة، بهذا الفهم.. ولكنه ليس غاية في حد ذاته..
إلا أن التحدي الذي واجه الأديان، وما زال يواجهها، هو كيفية الصعود بأتباعها من القاعدة العقائدية الغليظة، إلى القمة المعرفية اللطيفة.. فمعظم أتباع الأديان اليوم قد فضلوا الكسل الذهني والركون إلى العقيدة البحتة دون محاولة سبر أغوار الأسئلة الملحاحة، واكتفوا بالعقيدة، رغم أن الإنسان في داخله دوما لا يطمئن تمام الإطمئنان إلا باليقين، بالعلم وحده.. في هذه النقطة يقول الاستاذ محمود في كتابه "الرسالة الثانية من الإسلام" الآتي: "وجلية الأمر أن الإسلام، كما هو وارد في القرآن، قد جاء على مرحلتين: مرحلة العقيدة، ومرحلة الحقيقة أو سمها مرحلة العلم".. الاستاذ محمود هنا تحدث عن مرحلة العلم من الدين، وهي المرحلة التي ليست مرحلة العقيدة إلا تأهيلا لها، وقد تحدث في كتابه المذكور هذا عن هذا الموضوع بتفصيل لا تغني هذه الورقة عنه بأي حال من الأحوال.. وهو في هذا الكتاب أيضا يتناول مشكلة هذا التحدي الذي يواجه الأديان في سوق أهله من مرحلة العقيدة إلى مرحلة العلم.. ونحن في هذه الورقة فقط أردنا الإشارة إلى هذه النقطة المهمة لأن في حلها يكمن الأمل في توحيد الأديان، فالعقائد لا يمكن أن تتوحد، (رغم أنها قادرة على التعايش مع بعضها رغم الإختلاف)، لأنها متفرقة ومختلفة، أما العلم فهو دوما واحد، لا فرقة فيه ولا اختلاف..
بين الإيمان والعقيدة
ربما يكون من المستحسن، هنا، أن نتحدث قليلا عن الإيمان والعقيدة.. ولعل هذين المصطلحين ينظر لهما كثيرا على أنهما يعنيان نفس الشيء.. ونحن اليوم نريد أن نشير إلى مقدار الإختلاف بينهما، في إطار دعوتنا للتسامي على الإختلافات العقائدية بين الأديان..
في مرحلة العقيدة، كما ذكرنا، يكون هناك تصور معين لصور كثيرة من الغيبيات، أي أنه يكون هناك تصور محسوس ومقيد لما هو غير محسوس ومطلق، ونعني بالمحسوس هنا، بشكل عام، ما تستوعبه حواسنا الخمس.. أما الإيمان فهو يختلف عن تلك المرحلة، فالإيمان يكون مفتوحا على الإطلاق، ويكون متناميا، في معنى أنه لا يقيد نفسه بصورة واحدة معينة لما يترقبه وما يحلم به.. فالإيمان، مثلا، لا يقف عند التصورات المحددة باللغة لليوم الآخر، أو يوم القيامة، كما تحدثنا عنه الأديان الكتابية بصور مختلفة، على سبيل المثال، ولا يحجر تصوره في أن تكون صورة اليوم الآخر، مثلا، كما أتتنا به اللغة في نصوص الكتب المقدسة بحذافير شكلياته، وعلى هذا يرفض أي تصور آخر، حتى ولو كان مصاقبا لتصوره نفسه في المعنى العام.. ببساطة، الإيمان يتعلق بالمعنى، لا بالشكل، في حين تتعلق العقيدة بالشكل والمعنى سويا بدون تمييز بينهما..
الإيمان معنى.. والعقيدة صورة، أو تجلي واحد لهذا المعنى.. كما يستطيع المرء أن يقول نفس الكلام بأكثر من لغة، فكلامه، من ناحية الصوت المسموع، والكلمة المكتوبة، مختلف جدا، ولكنه من ناحية الإستيعاب أو القصد، هو هو دون تغيير.. إن العقيدة، بهذا الفهم، هي ترجمة للمعنى، متقيدة بقيود اللغة والدلالة المجتمعية للشعوب التي تنزل فيها تلك العقيدة.. أي أن العقيدة مقيدة بقيود زمانية ومكانية، لا تملك الإنحلال منها، في حين تسامى الإيمان عن تلك القيود، لكونه متعلقا بالمعنى الذي لا تحجره الظروف الزمانية والمكانية، ولكونه متناميا، في اضطراد، يطلب العلم المحقق الذي لا شك فيه.. نأخذ مثالا على هذا من قوله تعالى ((إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين، من آمن بالله، واليوم الآخر، وعمل صالحا، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون)).. فالإيمان بالله هنا، هو أمر مشترك بين جميع تلك الأديان التي ذكرتها الآية، ولكن العقيدة ليست مشتركة، فعقيدة المسلم غير عقيدة المسيحي، وعقيدة المسيحي غير عقيدة اليهودي، وهكذا..
في مستوى العقائد، لا بد وأن يكون هناك اختلاف، ولكن في مستوى الإيمان، فإن الإختلاف يقل كثيرا، وهو من ثم يدق ويدق، مع التطور في فهم المعنى، حتى يختفي، وفي هذه النقطة تتجلى وحدة الجوهر عند الاديان.. إن الدعوة للتسامي على الضيق العقائدي، وتطوير العقيدة باستمرار، هي دعوة للسير الحثيث نحو الجوهر.. فالإيمان، مثلا، بالقوى الهائلة، والحكيمة، المسيطرة على معالم هذا الوجود، يتجلى في صور كثيرة لآلهة بأسماء مختلفة، وصفات مختلفة، عبر تاريخ الشعوب، وكل صورة من تلك الصور، تسمى عقيدة، وذلك الإيمان هو نقطة التقائها جميعها.. لعل هذا المثال هو أقرب ما نستطيع أن نضعه هنا لتوضيح الإختلاف بين الإيمان والعقيدة، ولعله أيضا أقرب ما يمكن أن نترك القارئ معه، للتأمل في مغزى الدعوة للتسامي على الإختلاف العقائدي بين الأديان، والطوائف داخل الأديان..
ولعل قلق أصحاب الدين الواحد تجاه بعضهم البعض، وعداوتهم تجاه أصحاب الأديان الأخرى نابعان في معظم الأمر من التزمت العقائدي الذي يتمسك بقشور المفاهيم والطقوس دون المحاولة الكافية للإقتراب من الجوهر.. إذ أن تكيف العقول على عقيدة معينة يصبح مرات كثيرة إدمانا يجعل صاحب العقيدة يخاف ويتوجس من العقائد الأخرى، أيا كان حجم اختلافها مع عقيدته، فيهاجمها هجوم المدافع عن بقاءه، لان بقاءه أصبح مرهونا عنده ببقاء عقيدته التي تمكنت منه كما تتمكن المادة المخدرة من المدمن الذي يرى استحالة حياته بدون حصول جسده على الجرعة المطلوبة من المخدر.. هذه الظاهرة تسمى اليوم عالميا بظاهرة الهوس الديني.. وهي ظاهرة نحن في غنى عن الحديث عن خطرها الذي نراه ماثلا أمامنا اليوم أكثر من أي يوم مضى في تاريخنا..
التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها
إن الدعوة للتسامح الديني التي تعتمد على التفهم لأصل الأديان وجوهرها، هي عنصر مهم جدا في تركيبة السلام البشري الذي تسعى اليوم الجهات المستنيرة من الشعوب والمنظمات لإرساء دعاماته.. ونحن اليوم في حاجة حقيقية لأن نقيم أنفسنا بأنفسنا، أفرادا وجماعات، وننظر فيم إذا كنا حقا ندرك الغاية التي يريدها لنا ديننا، أيا كان، وإذا كنا حقا نسعى لها بالوسائل الصحاح.. فيجب علينا أن ندرك أن الدين وسيلة وليس غاية، وأن الغاية هي السعادة، سعادة كل فرد منا.. وهذه السعادة لا تتأتى إلا بهزيمة الخوف، خوف الإنسان من أخيه الإنسان، وخوف الإنسان من البيئة التي يعيش فيها، واستبدال هذا الخوف بالحب، إذ لا يهزم الخوف إلا الحب.. ولابد لنا أن نوظف وسيلة الدين لخدمة هذه الغاية، بالتسامي على الضيق العقائدي بالآخر، ومحاولة رؤية الوفاق الجوهري الذي يتفوق على مرحلة العقيدة..
وهناك أمر لا بد من التنبه له، وهو أن التسامح الديني يشمل كل الأديان، ويجب أن يكون كذلك وإلا لفقد قيمته، فعندما يتسامح المسلم مثلا مع اليهودي والمسيحي بحكم أنهما كتابيان مثله، هذا لا يغنيه عن أن يكون على نفس القدر من التسامح مع أصحاب ديانات أخرى قد يعتقد هو أنها وثنية مثلا (كحال نظرة الكثير من المسلمين للهندوس والبوذيين، وكحال نظرة الكتابيين الأفارقة إلى أهلهم من أصحاب المعتقدات المحلية) أو أنها باطلة بحكم عقيدته لأنها ظهرت بعدها (مثل نظرة الكتابيين إلى البهائية والسيخية).. فالتسامح الديني إن لم يكن شاملا فهو لن يعدو كونه تحزب مجموعة من الأديان في نظرتها للأديان الأخرى، ومثل هذا التحزب لا يحل المشكلة بأي حال من الأحوال ولا يحقق التعايش السلمي الذي نرجوه ونحتاجه على هذه الأرض.. ومن باب اولى، فإن التسامح بين أهل الدين الواحد هو أمر لا محيص عنه..
رجوع الى مراجعة المقال
ولعل تاريخ الأديان يظهر لنا نوعا من سياسات العنف والإقصاء والضيق بالآخر حتى بين أصحاب الدين الواحد، بل من الممكن أن نقول أن تاريخ علاقة بعض الطوائف الدينية التي تتفرع من دين واحد مع بعضها البعض لا تختلف كثيرا عن علاقتها مع أهل الأديان الأخرى من ناحية العداء والحذر المتواصل.. مثل هذه الحقائق التاريخية طرحت سؤالا قديما، ما زال قائما حتى اليوم، وهو "هل العنف وإقصاء الآخر هما أمران من طبيعة الفكر الديني بشكل عام؟".. وهو سؤال على أهل الأديان النظر فيه، وتحليل عوامله، للخروج منه بالدروس والعبر المفيدة للمستقبل.. في تاريخ البشرية، كان العنف أداة فعالة في التغيير، سواءا كان سياسيا، أو اقتصاديا، أو دينيا، كما كان استعماله ضرورة بقاء في كثير من الأحيان، وقد استخدمته الأديان في تاريخها بلا شك.. واليوم، ونحن ننظر لتاريخنا، لا بد أولا أن لا نحاكم ماضينا بقيم العصر الحاضر، فتلك ستكون محاكمة غير منصفة، لأن قيم العصر الحاضر لم تكن ماثلة ولم تكن حتى قادرة على المثول في العصور الماضية، لأنها عبارة عن تراكم تجارب البشرية عبر السنين، فتلك القيم لم تولد بين يوم وليلة على هذه الأرض، وإنما نبتت ونمت عبر القرون.. لقد كان العنف فارضا نفسه كضرورة بقاء، كما ذكرنا، فإذا أردنا أن ننسب تاريخ العنف إلى الأديان وحدها في ماضينا، فميزاننا سيكون مختلا بلا شك، والأديان لم تكن لتغير سمات المجتمعات بين يوم وليلة، كما ان ممارسة الشعوب لأديانها، كما ذكرنا، في كثير من الأحيان لا تكون حجة على تلك الأديان، لأن ممارسة الشعوب، ببساطة، لا تتحلى دوما بوصايا أديانها.. ولكن من الجانب الآخر، فإن شرائع الكثير من الأديان تحمل بين طياتها نصوصا أو تعاليما تبيح استخدام العنف، في ظروف معينة.. المطلوب من أهل الأديان اليوم أن يعيدوا دراسة تلك التشاريع، ويعيدوا النظر في الظروف الزمانية والمكانية التي حكمت بوجودها، ليعيدوا قراءة تلك التشاريع بعيون حاضرهم، لا عيون ماضيهم.. وهذا ليس مطلب فيه اعتداء على?قدسية التشاريع أو طلب من الأ ياريللتنازل عن رؤياتها، لا، وإنما هو طلب لاستنباط التشاريع وفهم النصوص بصورة تناسب العصر، وتصاقب الغاية الأساسية التي من أجلها قامت الأديان، فالأديان لم تقم لتحبس الفكر الإنساني في حقبة زمانية معينة، هي حقبة ظهور تلك الأديان، وإنما قامت لتمده بالآلية التي بها يستطيع أن يسير على هدى في طريق تطوره نحو الأفضل والأسمى.. هذا ما فعله الأستاذ محمود في قضية التشريع الإسلامي، إذ أنه أبان الجانب المشرق من ذلك التشريع الذي يصاقب حاجة العصر وقامته.. إن حل مشاكل مجتمعات اليوم بنفس تشاريع مجتمعات الأمس هو أمر لا يقبله العقل في أدنى تصوراته، فما بالك بالأديان؟ وهي الساعية للسمو بالعقل إلى القمم الشواهق!.. إن إحالة قصورنا في حل مشاكلنا المعاصرة إلى تشاريعنا الدينية هو آخر ما يرجوه منا الفكر الديني السليم.. المطلب بتطوير تشاريع الأديان هو مطلب للإرتقاء بتلك التشاريع إلى مستوى جوهر تلك الأديان.. المطلب بتطوير تشاريع الأديان هو مطلب تلك الأديان نفسها.. أهل الأديان، أيا كانت، مدعوون للنظر في هذه النقطة، ضمن إطار النظر في قضية تنزيل واقع جديد من التسامح الديني على هذه الأرض..
دائما ما تلاقي الأديان الجديدة الرفض والمكيدة من جانب أهل الأديان السابقة لها.. ودائما ما تبني هذه الأديان الجديدة، رغم ذلك، رصيدها من الأتباع على حساب تلك الأديان القديمة.. والأمثلة على هذا الأمر أكثر من أن تذكر كلها، وعلى سبيل المثال نذكر العلاقة التاريخية بين اليهودية والمسيحية في القرون الأولى لظهور الرسالة المسيحية، ونذكر أيضا علاقة مشركي بلاد العرب بالإسلام عند بدايات ظهوره، وكذلك علاقة الديانتين اليهودية والمسيحية بالإسلام، وعلاقة الهندوسية بالبوذية.. ولا يفوتنا أن نذكر هنا مثالين مهمين جدا، والمثال الأول يخص علاقة المسلمين بأهل الديانة البهائية، فقد لقي البهائيون، والذين خرجوا من بيئة مسلمة، صنوفا غريبة من العنف والإقصاء على يد المسلمين، وهذا العنف وهذا الإقصاء لم يفلحا رغم ذلك في رد البهائيين عن دينهم الذي اعتنقوه برضاهم وتركوا من أجله عقيدة الإسلام.. والمثال الثاني عن علاقة المسلمين والهندوس، على حد سواء، بأهل الديانة السيخية، فقد قامت الديانة السيخية على أنقاض عدم الرضا عن الهندوسية والإسلام في منطقة الهند والسند، ورغم أن الديانة الجديدة قد استمدت أصولها بشكل واضح من الديانتين إلا أن ذلك لم يكن شفيعا لها عند أي من الديانتين، فلاقى أصحابها من الجانبين ما لقيوا أيضا من الرفض والمكيدة..
إن ظهور وانتشار الأديان الجديدة يأتي في الغالب من شعور الناس بعدم الرضا عن الأوضاع الفردية والمجتمعية القديمة، والذي يتولد منه عدم الرضا عن الأديان القديمة، كلازمة من لوازم القديم، وعنصر من عناصره، وهذا الشعور بعدم الرضا يأتي من عدم رؤية النتائج المتوقعة جراء اتباع تلك الأديان القديمة، فصاحب الديانة يعتنقها ويتوقع أن تصلح له أمور نفسه وأمور معاشه في مجتمعه، فإذا بقيت نفسه مضطربة وخائفة كما هي، وبقي المجتمع فاسدا وظالما كما هو، فإن الشعور بعدم الرضا عن الدين المعتنق يظهر تلقائيا، ولعل مشكلة البشر أنهم دوما ينسبون الفشل إلى سبب خارجي قبل أن ينسبوه إلى أنفسهم، فعندما يرى المسلم، مثلا، أن اعتناقه للإسلام لم يصلح له أمره فهو قليلا ما يفكر بأن الخطأ ربما يكون كامنا في سوء تحليه بوصايا دينه، وفهمه له، وهذا ينطبق على بقية الأديان أيضا..
يروى عن مؤسس الديانة السيخية، شري قورو ناناك (1469- 1538AC )، أنه كان يقول "ليس هناك هندوسي.. ليس هناك مسلم"، بمعنى أن أهل هذه الأديان لا يطبقون حقيقة وصايا أديانهم حتى ينسبوا لها، ولبهاء الله، مؤسس الديانة البهائية، رأي مشابه لهذا الرأي بخصوص أهل الأديان أيضا، ففي دعوته يرى أن حال الناس سيكون أفضل كثيرا لو اتبعوا وصايا أديانهم، على تنوعها، بصدق.. والأستاذ محمود قد تحدث كثيرا أيضا عن أن المسلمين اليوم "ليسوا على شيء" بسبب تعلقهم بقشور دينهم وتركهم لجوهره، أي بسبب تعلقهم بالطقوس دون الإهتمام بانعكاسات تلك الطقوس على أخلاقهم وسلوكهم، كما كان قد تحدث أيضا في بعض كتاباته عن أن أهل الأديان الأخرى بحاجة إلى الإلتفات إلى تقصيرهم في التحلي بوصايا أديانهم.. هذه النقطة تحتاج إلى الكثير من التأمل في اعتقادنا..
كلمة أخيرة
إن الدعوة للتسامح الديني اليوم هي دعوة تستدعيها الضرورة، فنحن اليوم نرى أن وسائل الدمار أصبحت أكثر شراسة وضراوة، فقد تطورت أسلحة الدمار الشامل حتى وصلت إلى مستويات القنابل التي تستطيع مسح الحياة تماما في مناطق شاسعة بإشارة يد.. وقد وضعتنا تطورات واقع الأحداث هذه أمام خيارين لا ثالث لهما لمستقبلنا، إما السلام الشامل، وإما الحرب السعور التي لن تتوقف نارها إلا بهلاك الحياة على هذا الكوكب.. فالحياة إذا على هذا الكوكب أصبحت مستحيلة بدون السلام، والسلام مستحيل بدون تسامح متبادل تجاه معتقدات وثقافات بعضنا البعض..
ورغم ذلك أيضا فإن الدعوة للتسامح الديني هي أيضا دعوة تبشر الأحداث بقرب انتصارها، لأن البشرية الآن ترى بشكل أوضح كل يوم أهمية هذه الدعوة وضرورة الإنضواء تحت لوائها لما تقدم من الأسباب..
إذا عملنا جميعا، كل من موقعه، على التحلي بوصايا أصول أدياننا، في سلوكنا الخاص والعام، وإذا عملنا جميعا، كل من موقعه، على إبانة الجانب المشرق والمبشر من تشاريعنا الدينية، والذي يتفق مع العرف الإنساني المعاصر وينفتح على روح التسامح والتعايش السلمي بين أهل الدين الواحد، وبينهم وبين أهل الأديان الأخرى.. إذا استطعنا أن نخطو خطوات جادة في هذا الإتجاه، فإن السلام لا بد آت، وحينها ستذهب الأحقاد من النفوس، وتنجلي الحروب والمجاعات، وتتضافر جهود البشرية في السعي وراء خيرها ورخاءها جمعاء.. وحينها تشرق الأرض بنور ربها، ويتحقق موعود جميع الأديان بالخير والرخاء لشعوب الأرض..
ولقد عاش الأستاذ محمود محمد طه تفاصيل حياته، بحركاتها وسكناتها، داعيا لتلك القيمة، التي توجد عند قمة التسامح الديني، والتي توجد عند نقطة التقاء الأديان جميعها، وتلك هي النقطة التي يدخل منها الإنسان عهد إنسانيته.. فحق على البشرية أن تذكر، في كل مرة تذكر فيها هذا الأمر، سيرته الناصعة، وكدحه الجليل في هذا المضمار.. إن أمثال الأستاذ محمود في تاريخ البشرية هم من سيكونون محل احتفالها في المستقبل.. ففي كل مرة ستنظر فيها الإنسانية لتاريخها ذاكرة ما لاقته في طريقها الطويل نحو الحرية، ستكون ذكرى أمثال الأستاذ محمود، من الذين مهدوا لها الطريق، وأضاؤوه، دوما حاضرة.. وستكون نتيجة كدحهم ماثلة، عيانا بيانا أمام الناس، حتى ولكأنهم هم بذواتهم حاضرين في كل لحظة، وكل زمن..
قصي همرور
يناير 2005
*ملحوظة: الترجمات التي قمنا بها في هذه الورقة هي ترجمات شخص غير ضليع في الترجمة، لذا نرجو المعذرة، وننصح بعدم تبني المصطلحات أو العناوين المترجمة هنا من دون مراجعة مصادر متخصصة..
المراجع
محمود محمد طه، "الرسالة الثانية من الإسلام" – الطبعة الرابعة، 1971
محمود محمد طه، "الله نور السماوات والأرض" – الطبعة الثانية، مايو 1976
محمود محمد طه، "رسائل ومقالات – الكتاب الثاني" – مايو 1973
محمود محمد طه، "خلق الجمال" – جريدة الجمهورية، العدد الأول، 15 يوليو 1954
محمود محمد طه، "بيني وبين الدكتور الفاضل مصطفى محمود" – أسئلة مجلة الأضواء السودانية..
زكريا بطرس، "الله واحد في الثالوث المقدس" – موقع "دار الهداية" الالكتروني (The-good-way.com)، القسم العربي..
Kessler, Gary E, “Voices of Wisdom: A Multicultural Philosophy Reader” 4th Edition. Belmont: Wadsworth, 2001.