إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها

قصي همرور


بمناسبة الذكرى العشرين لاستشهاد الأستاذ محمود محمد طه

التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها


ضمن أسئلة وجهت له من مجلة الأضواء السودانية، سئل الأستاذ محمود محمد طه هذا السؤال: "يشهد الوقت الحاضر توفر الرغبة للتعايش سلميا بين الأديان.. الإسلام والمسيحية، من جانب، والمسيحية واليهودية، من الجانب الآخر.. فهل يمكن أن يتم هذا التعايش دون أن تكون هناك مساومة على حساب الأديان؟"..

فكانت إجابة الأستاذ كالآتي: )"لتعايش السلمي أدنى ما يطلب من الأديان، فكيف تكون هناك مساومة على حسابها، عندما يتحقق التعايش السلمي؟؟ إن الأديان مرجوة لتوحيد الناس على المحبة، لأن الناس أخوة، من أم وأب.. وقد أغرى بينهم العداوة الجهل بحقائق أمرهم.. وستسوقهم الأديان إلى العلم بعد الجهل.. إن الأديان كلها وحدة.. وهي، في أي مستوى كانت، إنما هي مراحل من الفكرة الكبيرة التي هي الإسلام.. الأديان كلها هي الإسلام، تنزل على حكم الوقت.. تستوي في ذلك الوثنيات، والتعدديات، والتوحيديات.. والإسلام معناه الإستسلام الراضي، في غير نزاع، بين العبد والرب، ولا بين العبد وبقية العباد الآخرين.. قال النبي: ((المسلم من سلم الناس من لسانه ويده)).. هذا في معنى قول الرسول: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) أن الناس، بفضل الله، ثم بفضل الإسلام، سيعيشون في سلام ومحبة"..

على ضوء هذه الكلمات التي سجلها التاريخ للأستاذ محمود محمد طه، سنحاول أن نتناول في هذه الورقة موضوع التعايش السلمي بين الأديان، أو التسامح الديني، من عدة جوانب، تاريخية وفكرية، سعيا وراء تحقيق شيء من الوعي أو الإدراك لصريح أمر الأديان، وهو الوحدة كما أخبرنا الأستاذ محمود في قوله "إن الأديان كلها وحدة"..

إن التسامح الديني لا يقوم إلا على الفهم، في أدنى مستوياته المطلوبة، لجوهر الأديان، وللغاية التي تسعى إليها هذه المنظومات الفكرية والعملية التي أثرت تاريخ البشرية وأثرت عليه بشكل مباشر منذ بداياته وحتى يومنا هذا.. إذا فالتسامح الديني هو في الأصل "التفهم الديني"، فالتسامح لا بد أن يقوم على التفهم، وإلا لما كان في حقيقته تسامحا، ولأصبح هشا ينكسر وينفضح عند أخف الصدمات.. ونحن اليوم على هذه الأرض نعاني في جميع أرجاءها من جراء هذه الهشاشة.. وأصبحت ضرورة إيجاد فهم، في أدنى مستوياته المطلوبة، ضرورة بقاء للجنس البشري.. وإلا لانتزعته الحروب، وقتلته الأحقاد والخرافات..

وسنحاول في هذه الورقة القيام بتحليلات تاريخية وفكرية لأصول بعض الأديان العالمية لتعيننا على ربط الأحداث والأطروحات وغزلها بمغزل "الوحدة" حتى يتمكن القارئ الكريم من رؤية شيء مما نرمي إليه على أقل تقدير..

محاور القضايا عند الأديان


المجتمع


لعل التشابه في الهدف المجتمعي للأديان واضح، لا يحتاج إلى إشارة، ولكن فقط للتوكيد نورد بعض الأمثلة التي توكد هذا التشابه.. فعبر التاريخ البشري كانت دوما للأديان قضايا مجتمعية اتخذت منها مواقفا واضحة، بل لعل البدايات المعروفة لمعظم الاديان كانت هذه القضايا المجتمعية، إذ أن محاربة الفساد المجتمعي من ظلم إقتصادي وسياسي وطبقي كانت دوما إحدى العناصر الأساسية في التفاعلات التي تخرج بها الأديان الجديدة في أزمانها إلى أرض الواقع.. وغالبا كانت القضية المجتمعية هي القضية الأولى التي جلبت حمد المؤيدين ونقمة المعارضين في أوساط ظهور الأديان..

عندما قرر سيدهارتا قوتاما – والمعروف اليوم ببوذا – أن يسلك مسلك التقشف والزهد تاركا خلفه حياة الدعة وبهرج السلطان، كان السبب الرئيسي وراء هذا القرار هو الصدمة التي أصابته بعد خروجه من القصر لأول مرة في حياته ورؤيته لأنواع الشقاء التي كان يعانيها الناس خارج الجنة الصغيرة التي بناها له والده وعاش فيها منذ ولادته، فكانت انطلاقة رحلته المعرفية التي بدأها لسبب واحد هو محاولة إيجاد حل ينهي به الشقاء الذي رآه.. بعد أن رأى الفقر لأول مرة، وراى المرض المميت لأول مرة، ورأى الفرق بين حياته التي كانت وحياة عامة الشعب، ارتطم بوذا بصخرة الواقع المجتمعي المخزي لأول مرة، فكانت تلك الإرتطامة هي البداية الرسمية للديانة البوذية المعروفة اليوم (Kessler 36)..

وعندما كان كونفوشيوس، المعاصر لبوذا ولكن في الصين، يرى بحكم تجربته كرجل دولة انتشار الظلم المجتمعي والفساد الإقتصادي والسياسي في الدولة، هداه فكره إلى رؤية المشكلة الأخلاقية التي كانت هي تلك الآفة التي سببت ذلك الفشل المجتمعي، فمضى يؤسس لقانون أخلاقي صارم يحكم علاقة الفرد بهذا المجتمع على أساس الواجبات والحقوق.. وكانت تلك بداية الديانة الكونفوشيوسية المعروفة اليوم (Kessler 43)..

وفي حين اختار بوذا طريق المعرفة الفردية للخلاص من هذا الواقع الإجتماعي، واختار كونفوشيوس طريق المساهمة المجتمعية للفرد للخلاص من نفس الواقع، جاءت التاوية في محاولة للتوفيق بين الخطين.. فالتاوية التي تنسب كثيرا لرجل معاصر لبوذا وكونفوشيوس من الصين يدعى لاوتزي، حاولت أن ترسم طريقا يوفق بين المعرفة الفردية والمساهمة المجتمعية(Kessler 430)..

وقد ظهر النبي محمد في مجتمع كان فيه الظلم الإجتماعي كبير، والفساد فيه متفشي، حيث كن البنات الصغيرات يدفن حيات، خيفة العار والإملاق، وكان العبيد مقهورين ولا حقوق لهم بالمرة، وكانت سيوف الأقوى مسلطة على رقاب الأضعف، بحق وباطل، وربما كانت تلك الحالة مقاربة لمعظم حال المجتمعات في ذلك الزمان.. وقد ساءه ما رأى من حال شعبه وانحداره الأخلاقي، كما أثار ذلك في خاطره الأسئلة الكثيرة حول قيم العدل والحرية، فأصبح يكثر من الإختلاء بنفسه في مغارات الجبال، متأملا ومتعبدا على ما تواتر من نهج النبي إبراهيم، في سعي منه لإيجاد حل لذلك الوضع الذي لم يكن ليسره.. وعندما ظهر برسالة الإسلام بعد سنين من تلك الحال، كان في تشريع رسالته رفع يد القهر عن المسحوقين والمضطهدين في المجتمع، حتى كان أكثر أتباعه من تلك الفئة التي وجدت الخلاص المنهاجي في رسالته..

كما قد كان جانب العدل الإجتماعي حائزا على النصيب العظيم أيضا في رسالتي موسى وعيسى، وقد كان دوما أوائل أنصار تلك الرسالات من المتضررين بشكل مباشر من تبعات الظلم الإجتماعي الذي كان يسود الأرض حينها، فقد وجدوا في تلك الرسالات ضالتهم المنهجية والصوت الذي يتحدث باسمهم بعدما كانت أصواتهم قد كتمت لأجيال..

وقبل الديانات الكتابية الثلاثة كانت هناك الحنيفية، منذ ألفي عام قبل الميلاد في بعض التقديرات، ديانة النبي إبراهيم الخليل، والذي تنتسب له الأديان الكتابية (اليهودية والمسيحية والإسلام).. وفي جنوب وشرق آسيا كانت هناك أيضا الهندوسية منذ زمن يقارب زمان الحنيفية، غير أن الهندوسية لا يعرف لها نبيا أو مؤسسا واحدا كما هو الحال في الحنيفية.. وهاتين الديانتين كانتا مهتمتان بالجانب الإجتماعي بشكل واضح أيضا..

وبقراءة بسيطة وربما عجولة، كما قد سبق، نستطيع أن نرى بوضوح أن هدف كل هذه الأديان من الناحية المجتمعية هو العدل الإجتماعي.. هو خلق مجتمع لا ظلم فيه ولا قهر فيه، ينعم فيه كل مواطنوه بحقوق واضحة ولهم فيه واجبات واضحة أيضا يؤدونها برضا واقتناع.. هذا هو الهدف الأوحد، أما الوسيلة لتحقيق هذا الهدف فهي تختلف تبعا لظروف الزمان والمكان التي نشأت فيها هذه الأديان.. جوهر الوحدة هنا يلقي الضوء أيضا على مظهر التشريع المقيد بقيود الزمان والمكان، وهذه هي النقطة التي أشار لها الأستاذ محمود محمد طه بوضوح في مقولته التي ابتدرنا بها هذه الورقة، حيث ذكر أن الأديان في جميع مستوياتها هي مراحل من الفكرة الكبيرة التي سماها "الإسلام".. وحيث ذكر مسألة التنزل إلى حكم الوقت.. ومسألة التنزل إلى حكم الوقت هذه هي الأداة الناجعة التي يستطيع بها القارئ لسيرورة الأديان عبر التاريخ رؤية "الوحدة" المتسقة والمتناغمة في جوهرها..

البيئة الكونية


كان الإنسان منذ بداية وجوده على سطح هذه الأرض يسعى لخلق نوع من التوائم بينه وبين بيئته التي يعيش فيها، وذلك حتى يستطيع التخلص من الخوف والقلق اللذان يحتوشانه تجاهها بسبب شعوره بتأثيرها القوي عليه في شتى الجوانب وضعفه الشديد أمام تأثيرها هذا، والإنسان بطبيعته يخاف ما يجهله ولا يعي كنهه، فكانت بداية علاقته مع البيئة بالتملق.. أصبح الإنسان يتملق تلك القوى البيئية العظيمة التي يرى تأثيرها عليه ويرى ضعفه أمامها، فأصبح مثلا يقدم القرابين ويؤدي الطقوس التي يظن أنه من خلالها يضمن رضا تلك القوى الهائلة عنه، وقد كانت هذه، في بساطتها، بداية الدين كما نعرفه ونمارسه اليوم.. وللأستاذ محمود حديث مفصل ومسهب في هذه النقطة لا يغني حديثنا هذا عن مراجعته (راجع "الفرد والكون في التفكير الفلسفي"، الباب الثاني، الرسالة الثانية من الإسلام)..

مع هذه البداية البسيطة، تولدت لدى الإنسان معرفة كبيرة بالبيئة من حوله، وبهذه المعرفة دق أمر الدين وتسامت وظيفته، فاصبح الإنسان باحثا عن سر التناغم الغريب الذي ينتظم جميع عناصر هذا الكون، بما فيه هو نفسه، وأصبح باحثا عن سر الوجود وأصله وماهيته.. ونحن اليوم نرى الأديان تتنافس كثيرا في طرحها الذي يختص بهذا المجال..

ولكن ما زال الإنسان إلى اليوم يحاول أن يجد شيئا من التواءم بينه وبين البيئة المحيطة به، فهو وكأنه يسعى بشكل غريزي إلى محاولة خلق وئام بينه وبين كائنات الأرض، بدل الخوف المتبادل أو الإستغلال المتبادل وسيطرة الأقوى.. والأمم تسعى لأن تكون هناك مواءمة بينها وبين الأمم الأخرى حتى ينجلي هاجس الخوف والحذر الذي يقلق المضاجع ويستهلك الطاقات، وإن اختلفت وسائل هذا السعي.. وكذلك يسعى الإنسان لفهم الظواهر الطبيعية التي يزخر بها الكون فهما يعينه على التخلص من هاجس القلق تجاه المجهول، وهاجس الخطر الذي يتهدده دوما بسبب تصرف تلك الظواهر الطبيعية بخلاف ما يتمناه ويريده في معظم الأحيان.. الإنسان، بطبيعته، يسعى لأن يعيش في بيئة مسالمة، يسودها السلام والحب وإحساس الأخوة وصلة الرحم، سواءا كانت هذه البيئة هي الأسرة الصغيرة، أو القرية، أو المدينة، أو الدولة، أو الكرة الأرضية، أو الكون.. الإنسان يسعى لأن يعيش في بيئة بهذا الشكل لمصلحته هو في المقام الأول، فمثل هذه البيئة هو الخيار الوحيد أمامه للتخلص من الخوف والإنزعاج الذي لا يكاد يتركه للحظة.. ويصعب علينا جدا أن نتخيل أن يكون هناك إنسان لا يريد مثل هذا النوع من البيئة الآمنة المطمئنة إذا استطاع إليها سبيلا، ويحبذ استبدالها بما هو دونها أو غيرها..

والأديان جميعها، عبر التاريخ، قد كانت وسيلة للإنسان لتحقيق هذا السلام، وهذه الطمأنينة.. فقد تفتقت الأديان من حاجة البشر إليها في قديم الزمان، وهي ما زالت متقدة بسبب حاجتهم إليها التي ما زالت قائمة.. فإذا أدركنا نحن اليوم – وقد حان الوقت لأن ندرك – وحدة الهدف الذي من أجله نبتت هذه الأديان من الأرض، فما بقي لنا سوى أن ننسق جهودنا سويا، وننسق إنجازات جميع الأديان لخدمة ذلك الهدف الأوحد.. فنكون بذلك حققنا هدف كل هذه الأديان بما يرضيها جميعا، ونكون أيضا حققنا الغاية الأساسية من وراء ذلك وهي السلام والطمأنينة لنا جميعا.. نحن اليوم، بلا شك، بحاجة إلى النظر إلى هذا الخيار، الذي ذهلنا عنه في ماضي تاريخنا، وذقنا بسبب الذهول عنه، وما زلنا، مرارات لا تعد ولا تحصى..

من هذا المنطلق جاءت كلمات الأستاذ محمود محمد طه، في مكتوبه الصغير الحجم، الكبير المعنى، "خلق الجمال"، كالآتي: "نحن نبشر بعالم جديد، وندعو إلى سبيل تحقيقه، ونزعم أنا نعرف ذلك السبيل معرفة عملية.. أما ذلك العالم الجديد، فهو عالم يسكنه رجال ونساء، أحرار، قد برئت صدورهم من الغل والحقد، وسلمت عقولهم من السخف والخرافات.. فهم في جميع أقطار هذا الكوكب متآخون، متسالمون، متحابون.. قد وظفوا أنفسهم لخلق الجمال في أنفسهم، وفيما حولهم من الأشياء.. فأصبحوا بذلك سادة هذا الكوكب.. تسمو بهم الحياة فيه سمتا فوق سمت، حتى تصبح وكأنها الروضة المونقة.. تتفتح كل يوم عن جديد من الزهر، وجديد من الثمر"..

الفرد والسلام الداخلي


لعله، مما تقدم، يتضح جليا أن عمل الإنسان الخارجي في محاولة خلق مجتمع عادل ومحاولة التواؤم مع البيئة المحيطة به هو في الأصل كله وسيلة أيضا للغاية العليا، وهي السعادة التي يحس بها.. وهو يريد سعادة تامة، لا تشوبها شائبة، ولا ينغصها منغص.. وهو يعلم، بحكم تجربته، أن هذه السعادة لا تؤتى إلا بالسلام والمحبة، لأنه وحده السلام يهزم الخوف، ووحدها المحبة تصنع السلام..

لهذا، فإنه ليس من الغريب أن تكون صفة ملازمة لوجود الأديان، وجود صيغة من المنهاج العملي المتعلق بشؤون الحياة اليومية والأحداث الكبيرة في الحياة الخاصة والعامة.. يمكن تلخيص هذا المنهاج في عبارتين: العبادة والسلوك.. ويمكن تعريف العبادة بذلك النوع من العلاقة بين الفرد والقوى الهائلة المتجلية له في مظهر الكون من حوله.. ويمكن تعريف السلوك بذلك النوع من العلاقة بين الفرد والفرد، أو الفرد والجماعة، القائم على تشاريع وأعراف.. وهذا المنهاج له أيضا غاية واحدة في جميع الأديان، وهي خلق السلام الداخلي، أساس السعادة ونزع الخوف وإرساء المحبة.. وقد أشار الأستاذ محمود محمد طه لهذا السلام بـ "الإستسلام" في خطابه الذي استهللنا به هذه الورقة، حين قال: "والإسلام معناه الإستسلام الراضي، في غير نزاع، بين العبد والرب، ولا بين العبد وبقية العباد الآخرين".. وهذا الإستسلام لا يفهم بأنه الخضوع السلبي، كما قد يتبادر إلى الكثير من الأذهان، فالإستسلام هنا، كما وضحه الأستاذ، هو نقيض النزاع، حيث قال "الإستسلام (الراضي)، في غير نزاع".. فالإستسلام هنا يعني عدم المنازعة، يعني التناغم.. إذ طالما أن هناك منازعة بين طرفين لا يمكن ان يكون هناك سلام تام بينهما.. وفي طرح الأديان عموما نجد ان هذه المنازعة لا تكون من جانب الرب، أو القوى العظمى المسيطرة على هذا الوجود، وإنما تكون دوما من جانب العبد، أو الإنسان.. ولهذا فإن المنهاج الديني يسعى لجعل الإنسان يتخلى عن منازعة تلك القوى، ويستبدل النزاع بالتناغم.. والتناغم إنما يكون بالمعرفة التي يورثها المنهاج الديني، وفي منطقة المنهاج هذه بالذات، يظهر تفاوت الأديان، وتظهر قدرتها الحقيقية على تحقيق السعادة للكائن البشري.. هذه هي منطقة التنافس الشريف بين الأديان، إن صح التعبير، حيث يجلب هذا التنافس المزيد من الرقي والتفهم وحسن التعايش بينها..

وقد هامت البشرية منذ بداياتها، وفي معظم الأديان، بالكمال الإنساني، أي تجسيد الإنسان الذي لا يخطئ، ولا يقول أو يفعل إلا الصواب.. الإنسان الذي يعلم أسرار كل شيء، ويعرف كيف يتصرف عند كل موقف.. باختصار يمكن أن نقول "الإنسان الكامل".. وقد قدمت طلائع البشرية من الرجال والنساء عبر التاريخ أمثلة قوية في هذا الإتجاه، وقد كان مؤسسي الديانات من أعظم تلك الطلائع.. منذ إبراهيم، وقبله، ومرورا بكرشنا، وبوذا، وموسى، وعيسى، إلى محمد، وبعده من الشخصيات الإسلامية وغير الإسلامية التي أثرت بشكل قوي فيمن كان حولها من الناس عن طريق تجسيد صفات الكمال تلك إلى حدود كبيرة أقنعت الكثير ممن كان حول تلك الشخصيات.. وكان الناس الذين أعجبوا بتلك النماذج يسعون أيضا لأن يكون لهم حظ في تلك الصفات، وهم ما زالوا، لأن هذه الصفات تعني أن من يملكها قد حقق قدرا عظيما من المعرفة بقضايا نفسه وقضايا البيئة من حوله بشكل حقق معه قدرا أكبر من السلام الداخلي، فانعكس ذلك السلام الداخلي على أقواله وأفعاله حتى أصبح يتصف بصفات الكمال تلك.. وقد تفتقت هذه المعرفة التي حققتها تلك الطلائع عن مناهج للناس يدعونهم إليها ليحققوا بها السلام الداخلي هم أيضا.. ونحن إذا دققنا النظر في هذه المناهج، سنجد تشابها كبيرا للغاية في سبل تلك المناهج..

بالنسبة للأديان الكتابية، اليهودية والمسيحية والإسلام، نجد أن التشابه في المنهاج أوضح من أن نشير إليها في كثير من الأحيان، فالصفة العامة للمنهاج في هذه الأديان تحكيها الأية القرآنية الكريمة ((واتقوا الله، ويعلمكم الله، والله بكل شيء عليم)).. فالصفة العامة للمنهاج هي تقوية العلاقة مع الرب بترويض النفس على النزول عند حكمه، والرضا به، والثقة فيه، والتأدب معه، ومجاهدة الشهوات الحيوانية التي تقيد حرية العقل.. وبهذه المجاهدة في هذا المضمار يفيض الرب على العبد من خزائن علمه اللامحدود، فيصبح العبد بذلك الفيض صافي العقل، وسليم القلب، ويصبح بذلك الصفاء وتلك السلامة حيا، عالما، مريدا، وقادرا، في قرب للحياة الكاملة، التي لا تشوبها شائبة، ولا ينغصها منغص.. ومن ثم فإن العبد يكون مستمرا في الترقي في هذا المضمار إلى ما لا نهاية، حيث أن فيض العلم الإلهي لا ينتهي لأنه مطلق ولا نهاية له.. هذه الصورة للمنهاج المفضي إلى السلام الداخلي هي تقريبا نفس الصورة في الأديان الكتابية، وهي أكثر ما تكون ظاهرة في الفكر الصوفي لهذه الأديان..

وإذا نظرنا مثلا إلى الأديان الشرقية، فنحن لن نجد اختلافا كبيرا في الصورة العامة للمنهاج، فها هو بوذا يتحدث عن أن سبب الشقاء هو الشهوة والرغبة الكامنة فينا، وأن طريق الخلاص هو معرفة هذه الحقيقة، ومن ثم سلوك المنهاج الذي يخلص عقولنا منها، فتصبح عقولنا بصفائها دليلنا على المعرفة السامية التي تسمو بقيمتنا الإنسانية حتى نصبح مستنيرين سعداء، وكلمة بوذا نفسها تعني "المستنير".. فبالرغم من أن بوذا لا يشير إلى الرب بالكثافة والتحديد اللذان تشير بها الأديان الكتابية إليه، إلى أن محتوى طرحه واضح فيه أمر التسليم للقوى العظمى التي تسير هذا الكون بكل تفاصيله (Kessler 37)..

ونقرأ مثلا لشنكارا، المعلم الهندوسي المعروف تاريخيا، في رائعته "جوهرة التمييز" (The Crest-Jewel of Discrimination)، حيث يقول تقريبا نفس الشيء من أن الشهوات هي التي تعطل حرية العقل وتمنعه من تحصيل المعرفة اللدنية من الأتمان(The Atman)، روح هذا الكون المطلق.. ويتحدث شنكارا في تشبيه بليغ عن أن العقل المصفى من الرغبة الدنية يستطيع التحصل على المعرفة بسهولة كما يلتقط الشخص الفاكهة من الشجرة الحانية الغصن، وكأن شنكارا في هذا التشبيه يتمثل قول الآية القرآنية الكريمة ((ودانية عليهم ظلالها، وذللت قطوفها تذليلا)) في الحديث عن أهل الجنة، وقد عاش شنكارا بعد ظهور الإسلام بمائة عام تقريبا(788-820 AC)، ونحن ننوي التطرق مرة أخرى لشنكارا كمتحدث باسم الهندوسية في فقرات أخرى من هذه الورقة (Kessler 451)..

ومن غير الغريب أن يكون عامل الإيمان مشتركا في كل هذه الأديان التي ذكرناها هنا، فالإيمان هو الخطوة الأولى في سلوك المنهاج.. وشنكارا مثلا يقول أن الإيمان بمعرفة المعلم الروحي وصدق منهاجه هو الخطوة الأولى لاتباع ذلك المنهاج، وأن هذا الإيمان كفيل بان يتحول إلى معرفة يقينية في المستقبل عن طريق الممارسة، وبالطبع الإيمان يجب أن لا يلغي العقل، بل إن الإيمان يبدأ أساسا باقتناع العقل بشخصية المعلم الروحي (أو النبي أو الشيخ إذا شئت) بما يشاهده فيه من صفات الكمال في الكلمة والسيرة..

في هذا السرد المبسط، غاية التبسيط، لأصل المنهاج المعرفي العملي لبعض الأديان العالمية، أحببنا أن نشير إلى "الوحدة" التي أشار لها الأستاذ محمود في استهلال هذه الورقة، وهي تتجلى في شتى المظاهر لتعلن عن نفسها للباحثين عنها..