الفصل الرابع
الإخوان الجمهوريون وتجربة المنابر الحرة
المحاضرات والندوات:
وللإخوان الجمهوريين تجارب خصبة، متنوعة، في التوعية عن طريق المنابر الحرة.. كانت بدايتها منذ بداية حركتهم في الأربعينات، ثم أخذت في التنوع يوما بعد يوم. فقد استخدموا الصحف منبرا حرا لنشر الوعي السياسي والديني، ثم استخدموا المحاضرات والندوات التي عرف فيها أفراد شعبنا خصوبة الفكر الجمهوري، وقوة عاصفته، ونزوعه إلى الإقناع والاقتناع، وإلى الحوار الموضوعي.. بل أنهم كانوا ينعون على السياسيين، والدعاة الدينيين، في بلادنا، الملق والإسفاف والتهريج والهوس مما كان سمة لياليهم السياسية وكتاباتهم. وقد كان للإخوان الجمهوريين إنجازات عظيمة ساهمت مساهمة عظيمة في نشر الوعي الديني بين أفراد شعبنا، وأوجدت في نفوس شبابنا، بخاصة، الاهتمام بأمر الدين، والسؤال عن شئونه، فكسرت، بذلك، احتكار الطائفية ورجال الدين للدين. وكان الأستاذ محمود محمد طه يقدم في تلك المحاضرات والندوات محتوي الدعوة الجديدة الى بعث الإسلام بما عرف عنه من موضوعية وسعة صدر، وعفة لسان، فيقبل عليها أفراد الشعب بشغف وإعجاب، وتسود جوها قوة الفكر، وتطغي عليها روح النظام.. فلا يخرج منها المواطنون الا وهم أكثر اهتماما بأمر دينهم وأكثر تعلقا بقضايا الفكر، وأكثر حرصا على مصلحة البلاد.. وقد بلغت تلك المحاضرات والندوات الآلاف مما لا يزال بعضه مسجلا لدينا في "أشرطة التسجيل" كنموذج صالح، للاستخدام الصالح للمنابر الحرة. وكان يؤمها المئات من المواطنين. ويشاركون بالتعليق والسؤال وادارة الحوار، وقد شملت شتي مدن السودان وقراه..
المنابر الحرة والانفتاح على الريف
وجاء صيف عام 1973 الذي شهد انفتاح دعوتنا على الريف فقامت مجموعات الإخوان الجمهوريين بالطواف على مائة قرية من قري (الجزيرة)، استطاعت فيها أن تلتقي بجمهور الريف في بساطته وأن تخاطبه بلغته، وأن تنقل اليه الدعوة إلى بعث الإسلام، ببعث السنة النبوية، في تبسيط شديد، وروح عالية.. فكان الإخوان الجمهوريون مكان الإعجاب والاستحسان حيثما حلوا، وكانوا يلاقون في هذه البقاع الطيبة كل صور التكريم، وكل مظاهر الإعزاز.. وكان جمهور الريف يستمع إليهم مشدود الحواس، عالي الروح، مبهورا بهذه الدعوة الجديدة إلى الإسلام التي تصدر من ألسنة صادقة، رطبة، يلتزم أصحابها بما يقولون، خلافا لما ألفوا من الوعظ الأجوف الذي لا يمس حياتهم اليومية، ولا يحرك فيهم نازعا للتغيير. وكان بعض جمهور الريف، وهو ممتلئ إعجابا، يصر على بقاء الإخوان الجمهوريين معهم، وحديثهم إليهم لأطول وقت.. حتى لم يكن يفارق الإخوان الجمهوريين قرية من القري الا وقد أخذ أهلوها منهم وعدا بالعودة إليهم وتبصيرهم بشئون دينهم ودنياهم أكثر وأكثر.. كان الإخوان الجمهوريون يعلمون جمهور الريف الوضوء الصحيح والصلاة الصحيحة.. ويعلمونهم الغاية من الصلاة، وكيف ينيرون حياتهم بالصلاة، وكيف تكون معاملتهم الناس بنية توصيل الخير إليهم هي في حد ذاتها صلاة.. كانوا يعلمونهم العودة إلى طريق محمد صلي الله عليه وسلم، ليكونوا جميعا، أتباعا خلف رجل واحد تنطوي أنفسهم على حبه وتوقيره وتقديسه، صلي الله عليه وسلم. كانوا يعلمونهم كيف تكون "لا إله إلاّ الله" ثورة لتحرير نفس كل فرد. كانوا يعلمونهم كيف يبدأون الترقي في مراقي الإسلام العليا ببداية بسيطة مستطاعة لكل فرد منهم.. كانوا يعلمونهم تطوير التشريع من الزكاة المعروفة إلى حيث نستلهم من زكاة النبي تنظيم مجتمعنا على أساس الاشتراكية.. كانوا يعلمونهم أن خدمة الناس هي أكبر القربات إلى الله.. فالدين المعاملة.. وكان جمهور الريف يفتح قلبه وعقله لهذا الحديث الصادق، العامر بالروح، ويتقبله قبولا حسنا، فتبدوا عليه علائم التحول.. فقد كان حديثا مما يحمل المستمع اليه على النية الصادقة للعمل به تو الفراغ من مجلسه ذلك. كان حديثا صادقا، مبرأ من الوعظ الأجوف الذي يمارسه الوعاظ ومعلمو الدين في غير صدق، ثم يقبضون عليه الثمن في آخر كل شهر.
لقد كانت تلك التوعية الدينية الوسيلة الماضية للقضاء على الطائفية في مسقط رأسها. وعلى أثر هذه النجاحات التي أحرزها الإخوان الجمهوريون في مضمار نشر الوعي الديني في الريف، تحركت الطائفية، ومن ورائها الإخوان المسلمون، وأنصار السنة.. يكيدون ويتآمرون ضدنا!! ويستغلون، في الكيد والتآمر أجهزة الدولة أسوأ الاستغلال. وتحركت (الشئون الدينية) رأس الرمح في هذا الكيد والتآمر، فأصدرت أوامرها لأئمة المساجد بعدم السماح لنا بالحديث من على منابرها!! ولقد كنا نعلم أن (الشئون الدينية) لا بد أن تتحرك ضدنا، إذ لا بدّ أن تكون قوافل التوعية الدينية التي سيرها الأستاذ محمود محمد طه في ريفنا السوداني لتخرجه من قبضة الطائفية قد أزعجت هذه المؤسسة السلفية التي تشتمل على أخلاط من الطائفيين والإخوان المسلمين وأنصار السنة والسلفيين ممن يقولون بأن الاشتراكية كفر ثم يذهبون في نفاق النظام القائم الذي يتجه اتجاها اشتراكيا.. فعداء هذه المؤسسة السلفية للإخوان الجمهوريين هو عداء الضرة للضرة.. عداء مصالح، وليس عداء أفكار!! وإلاّ فإن الخلاف الفكري لا يحسم إلاّ بالحوار الفكري! وانسحبنا من المساجد، في الأقاليم وفي العاصمة، ريثما نعود اليها وقد تطهرت من القائمين عليها اليوم ممن يأكلون دينهم بدنياهم.. انسحبنا منها حتى لا نعطي (الشئون الدينية) الفرصة لتوقع بيننا وبين جمهور شعبنا الذي كانت، ولا زالت، تربطنا به أقوي العلائق الحميمة.. فهو يستمع إلينا في إعجاب، حيثما وجد إلى الاستماع إلينا سبيلا.. ويكبر مواقفنا، ويعرف صدقنا..
المنابر الحرة في الشوارع
وابتدع الإخوان الجمهوريون سنة الدعوة (الميدانية) إلى الدين.. فقد أخذوا منذ صدور كتبهم الأولي، قبل ما يزيد على عشر سنوات، يخرجون، مجموعة مجموعة، إلى الشوارع والأماكن العامة، وهم يحملون كتبهم في أيديهم، فيعرضونها للبيع على من يقابلونه من المواطنين، شارحين له من أمر دعوتهم ما يحتمله المقام ولقد بلغ عدد هذه المؤلفات ما يزيد على الثمانين وبلغ عدد النسخ المباعة منها ما يزيد على نصف المليون! وتتكرر حملات بيع الكتاب وحملات الدعوة كل شهر، وتمتد إلى شتي مدن السودان وقراه، ويزداد تكثيفها في المؤتمرات التي يعقدها الإخوان الجمهوريون دوريا في العاصمة أو في إحدى المدن الكبرى.
ولقد توطدت بين جمهور الشعب والإخوان الجمهوريين في هذه اللقاءات الميدانية الحرة أوطد الصلات، وصار كثير من المواطنين ينتظرون كتابا جيدا لنا كل حين، فيسارعون إلى اقتنائه حين صدوره، ويقرأونه بشغف، ويعلقون عليه باستحسان.. حتى كان شهر أكتوبر، وشهر نوفمبر، وشهر ديسمبر من العام الماضي.. فشهدت مدن بورتسودان وعطبرة وكوستي ومدني ورفاعة والحصاحيصا والخرطوم أكثر حركات التوعية الميدانية تكثيفا لدي الإخوان الجمهوريين.. وتميزت هذه الحركة المباركة بأركان النقاش الميدانية. وبخروج الأخت الجمهورية لأول مرة تدعو إلى الدين في الشوارع والأماكن العامة.. وكانت تلك، أيضا، أول تجربة للمرأة عبر التاريخ. وحققت التجربتان نجاحات تفوق التصور.. وزاد إعجاب شعبنا بنا، واحترامه لنا... وزادت تجربتنا في التوعية الميدانية.
تجربة أركان النقاش الميدانية
يخرج الإخوان الجمهوريون إلى الشوارع، والأماكن العامة، في أتيام، لا يزيد التيم منها على الأربعة أخوان... فيعرضون كتبهم على من لقيهم، أو من سعوا اليه، فيتولى قائد التيم الحديث، شارحا الدعوة الجديدة إلى بعث الإسلام، باختصار وتبسيط.. فمن المواطنين من يكتفي بهذا الشرح، ومنهم من يدير حوارا أطول، فتتجمع حول حلقة النقاش أعداد من المواطنين تأتي للاستماع إلى الحوار أو المشاركة فيه.. وقد تتسع الحلقة حتى يبلغ عددها المائة والمائتين، فيأخذ الأخ الجمهوري القيادي في إدارة الحوار، مختارا له ناحية من الشارع لا يضير الوقوف فيها حركة المرور أو محال البيع بشيء.. وتكون لهذا الأخ الجمهوري السيطرة الكاملة على حلقة النقاش، وذلك بأسلوبه الهادئ الموضوعي في النقاش، وبعدم الاستجابة إلى أي اتجاه للخروج عن الموضوعية.. وقد تستمر حلقة النقاش لأكثر من ساعة يملك الأخ الجمهوري بعدها أن يفض الحلقة متي رأي أنها استنفدت غرضها، فيترك التيم الناس منفضين عن الحلقة، وهم أحسن حالا مما وجدهم عليه..
وفي أثناء انعقاد الحلقة يكون الإخوان الجمهوريون أكثر حرصا على حالة الأمن من رجال الأمن أنفسهم، وذلك لعلمهم أن الحفاظ على حالة الأمن هو مسئولية المواطن، أولا وأخيرا، فيتحكمون في النقاش بحيث يتجنبون الخروج به إلى ما يخل بحالة الأمن، ويضعون حدا له حيثما وجدوا أن الاستمرار فيه لغير مصلحة الأمن..
وتشهد مدن بورتسودان، وعطبرة وكوستي ومدني، ورفاعة والحصاحيصا، والخرطوم للإخوان الجمهوريين بهذا المستوي الرفيع من السيطرة على حالة الأمن في هذه الحلقات التي يعقدونها للتوعية، فلم تسجل في هذه المدن حالة واحدة من حالات الإخلال بالأمن تسبب فيها الإخوان الجمهوريون في هذه الحلقات، طوال مدة إقامتهم بتلك المدن.. بل أن رجال الأمن الذين كانوا يرقبون حلقات النقاش عن كثب، كانوا يبدون إعجابهم بمستوي الانضباط، وروح المسئولية التي كان يتحلى بها الإخوان الجمهوريون، ومنهم من عبّر عن ذلك بأحسن العبارات. وكان دور رجل الأمن يقتصر على مراقبة الموقف فلا يحدث ما يضطره للتدخل. وترك الإخوان الجمهوريون أحسن الانطباع عند رجل الشارع، وغادروا تلك المدن بتجربة ناضجة في إقامة المنابر الحرة في الشوارع والأماكن العامة..
أما تجربة الأخت الجمهورية في قيادة حلقات النقاش الميدانية فقد كانت، بحق، أعظم إنجازات عام المرأة العالمي.. وهو أن تخرج المرأة إلى حيث يخرج الرجل تدعو كافة قطاعات الشعب إلى الدين. لقد حكت الأخت الجمهورية حكاية المرأة ذات الدين أحسن حكاية.. المرأة العفيفة المظهر، العفيفة الخلق.. المرأة المسئولة عن صيانة عفتها بنفسها.. وتناقل أفراد الشعب أحاديث الثناء عليها والإعجاب بها.. وساهمت الأخت الجمهورية مساهمة فعالة في توعية قطاعات كبيرة من النساء ممن كن يتواجدن في الشوارع والأماكن العامة، وضربن أروع المثل لهن في العفة، والنضج الفكري، والسمو الخلقي...
المنابر الحرة وجامعة الخرطوم
لقد تأسست حركة الإخوان الجمهوريين بجامعة الخرطوم عام 65 وبرزت بروزا أكبر عام 1967 تحت اسم رابطة الفكر الجمهوري، وطوال هذه الأعوام العشرة الماضية ظل يقوم الإخوان الجمهوريون بالجامعة بدور رائد في نشر الوعي الديني الصحيح بين الطلاب، وفي تأسيس المنابر الحرة التي يدار فيها الحوار الموضوعي بين الطلاب.. وكان رأي الإخوان الجمهوريين، ولا يزال، أن الجامعة يجب أن تكون أعلى منبر فكري يعني بمعالجة شئون البلاد الحيوية، ويقود حركة التوعية بين صفوف الشعب. ولكن الجامعة نكصت عن الاضطلاع بهذا الدور، فصارت تتصدي لقيادتها تنظيمات كتنظيم الإخوان المسلمين الذي ينطوي على تخلف فكري، وتبعية للطائفية... وصارت الجامعة تعمل بإشارة المخططات الطائفية. وجاز على الطلاب ادعاء الإخوان المسلمين والشيوعيين فيها بأنهم المدافعون عن الحريات! والطلاب يعلمون، حتى من واقعهم الطلابي، أن هذين التنظيمين أعدي أعداء الحرية.
في هذا الجو دعا الإخوان الجمهوريون الطلاب للحوار الفكري الموضوعي، ومارسوه، أكفأ الممارسة، بينهم.. ودعوهم إلى تقويم المرحلة الراهنة التي تمر بها بلادنا كمرحلة يجب أن توظف فيها كافة الطاقات الفكرية في سبيل توعية أفراد شعبنا ليتحرروا من عقابيل الجهل والطائفية.. ودعوهم إلى أن يقودوا الحركة الفكرية في البلاد، لا أن يكونوا ذيولا لأحزاب طائفية، خارج الجامعة، عاشت في ماضيها طفيليات على مقدرات هذا الشعب، وتتآمر، اليوم، على مصلحته لتعود السلطة إلى الطائفية مرة أخري..
وقام الإخوان الجمهوريون بدعوة الطلاب إلى بعث الإسلام في مستواه العلمي ليلبي حاجة وطاقة الإنسان المعاصر.. وكشفوا تناقضات الإخوان المسلمين وعدم صدقهم في التزام ما يدعون إليه.. وبذلك استطاعوا كسر احتكار الإخوان المسلمين للدين بين الطلاب، ورفع وصايتهم على الحياة الطلابية باسم الدين..
وقد ابتدع الإخوان الجمهوريون نظام حلقات النقاش اليومية في الجامعة.. وهي حلقات يزيد عدد الطلاب المشتركين فيها على المائة والمائتين يقفون الأربع ساعات لا يملون الحوار الموضوعي الذي يديره الإخوان الجمهوريون، فيضعون فيه تنظيمات الإخوان المسلمين والشيوعيين في منطقة الضوء، ويكشفونها على حقيقتها..
وأحال الإخوان الجمهوريون الجامعة إلى سوق للفكر، يجتمع فيها الناس على فكر، وينفضون عنها على فكر.. وسارت الحياة الجامعية، والإخوان المسلمون والشيوعيون يفقدون كل يوم جديد أرضا جديدة بين الطلاب.. وذلك بفضل الحوار الفكري الذي كان يجري في تلك المنابر الحرة.. غير أن الإخوان والشيوعيين قد أحسوا بأنهم سائرون إلى نهاياتهم بأقدامهم في جو الحوار الموضوعي الذي يصرف الطلاب عن التهريج السياسي.. فما كان منهما إلاّ أن أمعنا في هذا التهريج، مفتعلين مواقف التحدي البطولي للسلطة.. وعاد الهرج ليطغي على صوت الفكر إلى حين! ومارس الإخوان المسلمون وهم يزعمون لأنفسهم الدفاع عن الحريات، أسوأ صور كبت الحريات بتمزيق الصحف الحائطية لمعارضيهم، وباستعمال العنف معهم، وإزاء هذا تدخلت السلطة في الجامعة تدخلا مسلحا.. فصادرت حرية التعبير التي كان يتمتع بها الطلاب، على مختلف تنظيماتهم، فأوقفت حلقات النقاش، والمحاضرات والندوات وصحف الحائط. وتقويمنا – نحن الإخوان الجمهوريين – لهذا الموقف هو أن تدخل السلطة المباشر في الجامعة لم يأت إلاّ نتيجة طبيعية لسوء استعمال تنظيمات الإخوان المسلمين والشيوعيين للحرية.. فإن ثمن الحرية، دائما، هو حسن التصرف فيها..
وانقطع صوت المنابر الحرة بالجامعة، ووقف تيار الوعي الجارف الذي كان الإخوان الجمهوريون يقودونه بين صفوف الطلاب في حلقات النقاش.
وهنا تقدم الإخوان الجمهوريون بالجامعة إلى الطلاب، ممثلين في تنظيماتهم، وإلى السلطة، ممثلة في إدارة الجامعة، باقتراحات بعودة الحياة الطبيعية إلى الجامعة.. وهي مقترحات يتم الاتفاق عليها بين الجانبين، الطلاب والإدارة.. فدعوا الإدارة إلى السماح بحرية التعبير عن طريق الصحف الحائطية وحلقات النقاش والمحاضرات والندوات مع أن يلتزم كل تنظيم بالموضوعية، وأن يوقع على هذا الالتزام مع الإدارة ممثلوه.. ودعوا التنظيمات بالجامعة إلى قبول هذا الالتزام ثمنا لعودة الحياة الطبيعية إلى الجامعة، وهو ما فقدوه نتيجة لسوء تصرف الإخوان المسلمين والشيوعيين ولا زالت مساعي الجمهوريين مبذولة لتحقيق هذا الاتفاق.
إن الإخوان الجمهوريين، وهم يدعون إلى عودة المنابر الحرة بالجامعة يرون أن التنظيمات المنحرفة لا تنمو وتزدهر إلاّ في جو الكبت الفكري، بما يهيئه لها هذا الجو من اصطناع البطولات الزائفة، وبما يكسبها من عطف القاعدة الطلابية عليها، وتجربتنا أن المنابر الحرة هي الوسيلة الوحيدة لكشف هذه التنظيمات في أساس فكرتها، وفي اتجاه ممارستها، فيتم عزلها عن القاعدة الطلابية..
ولذلك كان رأينا أن اتجاه السلطة إلى إقامة الندوات في الجامعة بالصورة التي تمت بها (ندوة الاثنين) عمل في مصلحة تلك التنظيمات وضد مصلحة نشر الوعي بين الطلاب..
إن الوضع الأمثل أن تتيح السلطة فرصة المنابر الحرة بالجامعة، فإن التهريج السياسي لا يزدهر إلاّ في غيبة هذه المنابر!
هل دعوتنا صفوية؟
يزعم بعض الناس أن دعوتنا دعوة صفوية، لا يستجيب لها إلاّ الصفوة من المثقفين!! وهذا لعمري، زعم أبعد ما يكون عن الحقيقة!! صحيح أن المثقفين يستجيبون لدعوتنا، ولكن، صحيح أيضا أن الأميين من أفراد شعبنا، شديدو الاستجابة لدعوتنا، فدعوتنا، بما هي دعوة إلى بعث الإسلام، إنما تتجه، فيما تتجه، إلى الأميين!! فهذا الدين دين الأميين.. نبيه أمي، وأمته أمية.. (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب، والحكمة، وإن كانوا من قبل، لفي ضلال مبين).
ولقد كانت لنا، كما أسلفنا القول، تجربة في نشر دعوتنا في الريف.. بلغنا فيها قمة النجاح.. فدعوتنا، أصلا، إنما هي إلى بعث السنة النبوية، في العبادة والمعاملة.. وتعليم السنة يسهل الاستجابة له من أفراد شعبنا، لأنه تعليم بالهيئة.. فيتوضأ الداعية أمام جمهور الحاضرين الوضوء الصحيح، ويصلي الصلاة الصحيحة، حتى يتعلموها.. ويقوم بتبسيط حكاية السيرة لهم وشرح الحكمة من ورائها.. حتى يقبلوا على تقليد النبي الكريم بتجويد ووعي.. وهذا التعليم يقوم به الداعية السالك في طريق السنة النبوية، الذي أكسبه سلوكه من الأنوار ما ينقله إلى بسطاء هذا الشعب، وشعبنا بحمد الله، دقيق الحاسة في التمييز بين الصادقين، وأولئك المنافقين من الوعاظ.. فإذا عمل الفرد الأمي بهذه البداية البسيطة، في وعي، وصدق استضاء عقله، وعمرت نفسه، وأستقام خلقه.. وغدا عالما بالله، وبحقوقه وواجباته في مجتمعه. وهذه البداية البسيطة الميسورة هي في متناول الأمي كما هي في متناول المثقف.. وتلك هي الثورة الثقافية الحقة... ولقد أخرجنا في الثورة الثقافية كتاب (الثورة الثقافية) وكتاب (طريق محمد) وكتاب (تعلموا كيف تصلون) ودعونا أفراد شعبنا إلى إحداث هذه الثورة الثقافية في أنفسهم. وقد حقق الإخوان الجمهوريون، في أنفسهم قدرا طيبا من محتوى دعوتهم يجيز لهم أن يدعوا إليه غيرهم، وهم المتأدبون بأدب القرآن العظيم: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
فهل يصح أن يقال عن دعوة سمتها الأساسية بساطة المنهج، وقوة أثره في التغيير، أنها دعوة صفوية؟!
هل دعوتنا انصرافية؟
ويزعم بعض الناس أيضا أن دعوتنا دعوة انصرافية بحجة أنها لا تتناول مشاكل الحياة اليومية!! وهذا زعم باطل، مسرف في البطلان، بل أننا لا نعرف دعوة إلى ترقية الحياة اليومية، والتغلب على مشاكلها كدعوتنا!! إن مشاكلنا اليومية في نقص الإنتاج، وفي سوء الإنتاج، وفي احتقار العمل اليدوي، وفي العزوف عن العمل في الريف، وفي اختناقات التموين، وفي الإهمال، والتفريط في المال العام.. كل هذه المشاكل، سببها نقص الأخلاق.. ودعوتنا أساسا إنما هي إلى تغيير الفرد لتكون لديه قيمة جديدة، هي قيمته كإنسان نافع لمجموعته، وليكون ضميره، وحده، هو الرقيب عليه، والمحاسب له.. وليكون عمله مرادا به وجه الله، وخير الناس.. وليكون العمل اليدوي من أحب الأعمال لديه، لأن به تتوحد شخصيته بتوحد عمل يده ورؤية عينه وتفكير عقله.. ولأن به تعمير حياة الآخرين.. في كلمات: دعوتنا إنما هي لخلق المواطن الصالح الذي يري أن مصلحته لا تأتيه الا من تحقيقه مصلحة الجماعة: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).. ودعوتنا لخلق هذا المواطن تقدم منهجا مبسطا ميسورا، في متناول كل فرد من أفراد شعبنا. فهل هذه دعوة انصرافية؟ بل هل يمكن أن تكون هناك دعوة إلى زيادة الإنتاج كهذه؟
ونحن ندعو إلى تحقيق الاشتراكية عن طريق تربية أفراد شعبنا على السلوك الاشتراكي، وذلك بتقليد النبي الكريم، الذي كانت سنته في الإنفاق إنفاق كل ما زاد عن حاجته الحاضرة والمعيشة على الكفاف فهل هذه دعوة انصرافية؟
ونحن ندعو إلى حل مشاكل الأسرة الناجمة من تخلف قانون الأحوال الشخصية، وذلك بتطوير التشريع من نصوص قوامة الرجال على النساء في القرآن إلى نصوص مساواة النساء مع الرجال في القرآن، فهل هذه دعوة انصرافية؟
هل الدعوة إلى أن يحدد الفرد علاقته بالمجتمع، وعلاقته بالكون، وأن يحي في سلام مع نفسه بتسيير إرادته خلف الإرادة الإلهية المحيطة، دعوة انصرافية؟؟
الحق أنه ليس هناك من عمل انصرافي أكبر من الانصراف عن هذه الدعوة التي وجبت الاستجابة لها اليوم، وصارت الحاجة إليها، اليوم، أكثر من أي يوم مضي.. وهي حاجة تكاد أن تكون حاجة حياة أو موت، بل هي كذلك، تماما.
هل دعوتنا مثيرة للأمن؟
ويزعم بعض الناس أن دعوتنا مثيرة للأمن لأنها غريبة على جمهور الشعب!! وحق أنها غريبة، ليس على جمهور الشعب، فحسب، وإنما على (العلماء) أنفسهم!! وغرابتها مصدرها أنها دعوة إلى إحياء السنة بعد اندثارها.. فلما جاء أوان بعث الإسلام ليعيش الناس على لبابه، بدت الدعوة إلى هذا البعث غريبة!!.. قال النبي الكريم (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبي للغرباء! قالوا: من الغرباء، يا رسول الله؟ قال الذين يحيون سنتي بعد اندثارها!)
وجمهور شعبنا يحس، إحساسا صادقا، أن هذه الغرابة تصحبها الصحة، وقد عبر عن ذلك كثيرا.. فسمعنا من علق عليها في الريف بقوله (أهو دا الدين!! والله قبل كدا ما سمعنا بكلام زي دا!!)
إن جمهور شعبنا لا تثيره دعوتنا الإثارة التي يحدث بها الإخلال بالأمن، ولكن الذي يحدث أن رجال الدين، بحكم عدائهم التقليدي لدعوتنا، يذيعون بين جمهور شعبنا صورا مشوهة عنها، فيثيرون البسطاء منهم ضدنا... وقد يثيرون ضدنا من ليسوا على دين من المشاغبين!! ونحن نشهد منذ سنوات، حتى اليوم، هذا التشويه المتعمد المخطط لدعوتنا من على منابر المساجد وتحت سمع وبصر، بل ورعاية (الشئون الدينية)!! ثم لا نعطي الفرصة في الرد عليه في أي منبر من المنابر!! بل أن مجلس الأمن القومي، في هذا الجو الذي أثاره رجال الدين حولنا، أصدر أمرا بمنع الأستاذ محمود محمد طه وتلاميذه من مخاطبة الجمهور من أي منبر عام!!
الحق الذي لا مرية فيه أننا أكثر الناس إمعانا في الحرص على استتباب الأمن، وأكثر الناس رعاية للعلاقة الطيبة بيننا وبين جمهورنا.
ولكن!! كيف تتم توعية شعبنا، والطائفية ورجال الدين يحجبونه عن كل منافذ التوعية؟ وكلاهما له المصلحة، كل المصلحة، في إبقاء هذا الشعب على جهله ليمارس وصايته عليه؟ كيف تتم توعية هذا الشعب؟
إن واجب سلطات الأمن حماية حرية الرأي، لا حماية أعداء حرية الرأي.. واجب رجال الأمن مراقبة كل ندوة أو محاضرة أو حلقة نقاش تقام حتى يضربوا على يد كل خارج عن القانون مخل بالأمن.. إن مصلحة شعبنا في انتشار الوعي، فأين تقف سلطات الأمن؟ إن على مجلس الأمن القومي أن يعيد النظر في قراره بمنع الأستاذ محمود محمد طه من مخاطبة جمهور الشعب، فإنه لا تستفيد من هذا القرار الا القوي المناوئة لحركة الوعي..
ومن المؤسف أن تكون نتيجة قرار مجلس الأمن القومي أن يمنع الإخوان الجمهوريين من إقامة المحاضرات والندوات العامة، وهم، وحدهم اليوم، العاملون في ميدان التوعية الشعبية، ثم تطلق أيدي الطائفيين والإخوان المسلمين ومن لف لفهم من السلفيين، يشوهون دعوتنا أشنع التشويه، ويخوضون في عرضنا خوضا موبقا.. ثم لا نجد فرصة مخاطبة جمهور شعبنا، الذي يسلط عليه هذا التضليل، فرصة كتلك الفرص التي يجدها خصومنا في الرأي..
إننا أحرص الناس على استتباب الأمن، وسيادة النظام، ذلك لمصلحة نشر دعوتنا نفسها... فإن جو استتباب الأمن، وسيادة النظام هم أصلح الأجواء لنشر دعوة فكرية تقوم على الإقناع والاقتناع كدعوتنا..
إن عودة محاضرات الأستاذ محمود محمد طه العامة هي أكبر انتصار لحركة التوعية في بلادنا.. فهلا استجاب مجلس الأمن القومي؟
المنابر الحرة!! المنابر الحرة!! المنابر الحرة!!
إن الحاجة إلى المنابر الحرة لدي شعبنا قد صارت حاجة حياة أو موت.. فإن بها، وحدها، تقام الثورة الثقافية على أنقاض الجهل والطائفية، وبها نضوج شخصية شعبنا، وتحصينه ضد التآمر الطائفي، وخلق روح المسئولية فيه!!
وهل ثمة مكسب لشعب من الشعوب يعدل انتشار الوعي بين أفراده؟
المنابر الحرة هي مجالات الحوار التي يشترك فيها جمهور شعبنا.. وموضوعها معالجة شئون البلاد العامة، ونشر الوعي الديني الصحيح.. وشروطها أن يلتزم المشتركون فيها بالموضوعية وأن يتحملوا مسئولية قولهم أمام القانون القائم، وأن يشتركوا بصفتهم الفردية، لا كتنظيمات..
فلتسمح السلطة بقيام المنابر الحرة، وستجد غدا أن أفراد شعبنا صاروا أكثر وعيا، وأكثر مقدرة على تحمل المسئولية مما هم عليه اليوم..