لجنة الدستور القومية
بعد إعلان الاستقلال، وفي أواخر عام 1956، تم تكوين لجنة قومية لوضع الدستور الدائم.. ولقد وجهت الحكومة الدعوة للأحزاب والهيئات لتوفد ممثليها في اللجنة.. وقد تكونت اللجنة بالفعل، واشترك الجمهوريون فيها.. وفي أول اجتماع فوجئنا بأن الحكومة قد حاولت أن تهيمن على اللجنة، وتؤثر على قراراتها.. فقد عيّنت رئيسها، واختارت أعضاءها المعينين المستقلين.. فاعترضنا على تغوّل الحكومة هذا.. وتجاوب معنا رئيس اللجنة نفسه وكثير من الأعضاء.. وننقل هنا صورة من محضر جلسة اللجنة القومية بتاريخ 27/9/1956م..
السيد زيادة أرباب وزير العدل: ان واجب اللجنة أن تضع مسودة الدستور وبالطبع ستكون كل مداولاتها مدونة، وسوف تقدم إلى جهة الاختصاص.
السيد محمود محمد طه: هل ستقدم مسودة الدستور التي تضعها هذه اللجنة إلى الجمعية التأسيسية رأساً أم إلى الحكومة؟
السيد زيادة أرباب: لقد عينت الحكومة هذه اللجنة بغرض أن تساعد في وضع التوصية اللازمة بشأن الدستور للجمعية التأسيسية، ولا يمكن أن تقدم إليها توصيات هذه اللجنة ما لم تكن مصاغة صياغةً قانونية، وعندما تصاغ تلك التوصيات بطريقة لا تخرج عن المعنى الذي تحمله تسلّمها الحكومة للجمعية التأسيسية..
السيد محمود محمد طه: إن موضوع الصياغة هذا لا نقره، لأنه سوف يجعل بيننا وبين الجمعية التأسيسية وسيطاً، ونحن في الواقع نعتبر أنفسنا هيئة استشارية.. ولهذا فإننا نرفع توصياتنا وقراراتنا للجمعية التأسيسية، ولا نرضى أن يكون للحكومة دخل في ذلك..
السيد مبارك زروق: أود أن أشير إلى النقطة التي تحدث فيها السيد محمود محمد طه، فيما يختص بجهة الاختصاص: هل هي الحكومة، أم هي اللجنة الوزارية؟ ثم مسألة صياغتها بواسطة المستشار القانوني: فهل هي ستعرض على اللجنة بعد صياغتها؟ لأنها قد تكون بُدِّلت، أو غُيِّرت بسبب الصياغة.. وأن الجهة المختصة في نظري هي الجمعية التأسيسية، لا أية جهة أخرى.
السيد عقيل أحمد عقيل: إنه يجب أن لا يكون هناك أي شبح رسمي على هذه اللجنة، سواء كان ذلك عن طريق الإيحاء أو الصياغة.
السيد عبد الرحيم أحمد: إنني أرى أن حديث السيد محمود محمد طه في هذه الناحية يجب أن يكون موضع الإعتبار لأن وجودنا في هذه اللجنة، ومعرفة اختصاصاتها، أهم من هذا التعديل.
السيد مبارك زروق: إنني لا أقر أن الحكومة هي التي عيّنت هذه اللجنة، وإنني كنت أعترض دائماً وخصوصاً عندما فرض مجلس الوزراء نفسه وعيّن رئيساً للجنة. إن اعتراضي ينصب على المبدأ، وليس على شخص السيد الرئيس..
السيد محمود محمد طه: إن الهيئة التي أمثلها قد تعيد النظر في الاستمرار في عضوية هذه اللجنة بعد معرفة الاختصاصات، إننا نريد أن نعرف هل نحن أحرار في كل الخطوات التي نخطوها أم يجب أن نرجع للحكومة في كل شيء؟
السيد أحمد سليمان: إنني ذكرت في اقتراحي "الجمعية التأسيسية" وليس "جهة الاختصاص".
السيد الرئيس: في الواقع إننا رجعنا إلى خطاب الحكومة الذي صدر عند تكوين اللجنة وتصرفنا هذا التصرف بوضع كلمتي "جهة الاختصاص" بدل "الجمعية التأسيسية"
وقوع التأثير على اللجنة
هذه صورة لبعض ما دار في تلك الجلسة.. وقد ظهر منها، كما يلاحظ، بداية تأثير الحكومة على سيرها.. ويمكن أن يفهم هذا من تصرف رئيس اللجنة في استبدال عبارة: "الجمعية التأسيسية" التي وردت في اقتراح السيد أحمد سليمان، الذي يوصّي بأن ترفع اللجنة توصياتها، بعد إجازتها إلى "الجمعية التأسيسية"، ولكن سلطان الحكومة الذي وقع على الرئيس، في أول وهلة، من غير أن يشعر، دفعه ليغير كلمات الاقتراح، بصورة أبعدتها كلية عن المقصود منها..
ولقد تقدمنا باقتراح لتتولى اللجنة القومية للدستور تصحيح الوضع ولكن الإقتراح سقط، كما تحدثنا جريدة الرأي العام بتاريخ 19/1/1957 وهي تنقل ما دار في اجتماع اللجنة:
(استقلال اللجنة عن الحكومة:
وتقدم الأستاذ محمود محمد طه باقتراح بأن تكون لجنة الدستور مستقلة استقلالا تاماً عن الحكومة، تعين رئيسها وأعضاءها، وتتخذ ما تشاء، بعيدة عن الحكومة، وقد سقط الاقتراح).
انسحاب الجمهوريين من اللجنة
وبإسقاط اللجنة، نفسها، لإقتراحنا انسحبنا من اللجنة، وأصدرنا الخطاب التالي الذي نشرته جريدة الرأي العام بتاريخ 26/1/1957م:
(حضرة السيد رئيس لجنة الدستور القومية، والسادة أعضاء اللجنة المحترمين..
تحية طيبة،
وبعد:
يؤسفنا أن نبلغكم إنسحابنا من اللجنة القومية للدستور، وذلك لانهيار الأساس الذي قبلنا به الإشتراك فيها.. فقد جاءت فكرة تكوين هذه اللجنة عقب رغبة حقيقية أعلنها الرأي العام السوداني، كيما تساعد على إبراز الرأي المعبر عن مُثُل الشعب الإنسانية، ليصاغ منها دستوره، وقامت الحكومة بتنفيذ فكرة تكوين اللجنة باعتبار أنها أصلح من يقوم بمثل هذا العمل.. وما كنا لنبخس الحكومة حقها في شكرها على أدائها هذا العمل لو سارت فيه السير الصحيح.. ولكن مع الأسف كونت اللجنة بصورة يصدق عليها أن تعتبر لجنة حكومية، وليست قومية، فاستحلّت الحكومة لنفسها أن تعيّن رئيسها، وتعيّن أعضاءها المستقلين، حسبما يروقها، وهذه من أخص حقوق اللجنة التي ما كان للحكومة أن تتغوّل عليها.. وكان أملنا أن تسترد اللجنة حقوقها المسلوبة، ولكن اللجنة نفسها، خذلتنا عندما أسقطت الإقتراح الذي تقدمنا به في هذا الصدد فارتضت لنفسها بذلك وضعاً مهيناً، لا نشعر بالكرامة في قبوله، والإستمرار فيه.. وقد قال بعض أعضاء اللجنة، أن اللجنة عينتها الحكومة، وعينت لها اختصاصاتها، وليس من حق أعضائها أن يعيدوا النظر فيما حددته الحكومة، بل لا يتورّع بعض الأعضاء من أن يعلن أن الدستور منحة تمنحها الحكومة للشعب الذي هي ولية أمره فيفصح بذلك عن كفرانه بالشعب أصل الدساتير، كل هذا يقال داخل اللجنة، واللجنة تقبله.
وبذلك وضح أن الحكومة تريد أن تجعل هذه اللجنة مخلب قط في يدها وتتخذ منها أداة لعمل تلبسه ثوب القومية.. وإزاء كل هذا لا يسعنا إلا أن نعلن إنفصالنا من هذه اللجنة..
وختاما تفضلوا بقبول فائق الاحترام.
الحزب الجمهوري)