حركة 23 يوليو ودعوة القومية العربية
عندما قامت حركة يوليو 1952 المصرية وأطاحت بالملك فاروق، كان موقف الجمهوريين متميزاً عن موقف الآخرين.. فليست العبرة عندهم بطرد الملك، وإسقاط حكمه، وإنما العبرة بإقامة الحكم الصالح، والنهج القويم.. هذا هو منطلق التقويم عند الجمهوريين.. ذلك بأن الشعوب في كل حقب التاريخ كثيراً ما كانت مستطيعة نقض أنظمة الحكم الفاسد، وهدم صروح ظالميها، ولكنها، عبر تاريخها الطويل، كانت قلّما توفق إلى إحداث التغيير الصحيح.. وحتى هذا لم يتفق لها إلا بقيادة المصلحين الذين يعرفون غاياتهم، ويملكون وسائل الوصول إليها.. أما بغير ذلك، فإنما هو السير في التيه، مرة نجاحاً، ومرات إخفاقاً.. وهذا ما انطبق على التجربة المصرية..
رسالة إلى نجيب
لقد أرسل الجمهوريون رسالة إلى اللواء محمد نجيب عند قيام الثورة المصرية.. وقد كانت رسالة يتيمة وسط سيل رسائل، وبرقيات التهنئة التي انهمرت على زعماء الثورة.. ومما جاء في تلك الرسالة ما يلي:ـ
(والفساد في مصر ليس سببه الملك، وليس سببه الساسة، والأعوان الذين تعاونوا مع الملك، بل إن الملك، وأعوانه هم أنفسهم ضحايا لا يملكون أن يمتنعوا عن الفساد، أو أن يدفعوه عنهم.. فإن أردت أن تلتمس أسباب الفساد، فالتمسها في هذه الحياة المصرية، في جميع طبقاتها، وجميع أقاليمها، تلك الحياة التي أقامت أخلاقها، إما على قشور الإسلام، أو على قشور المدنية الغربية، أو على مزاج منهما.. وأنت لن تصلح مصر، أو تدفع عنها الفساد، إلا إذا رددتها إلى أصول الأخلاق، حيث يكون ضمير كل رجل عليه رقيبا..
من أنت؟؟ هل أنت صاحب رسالة في الإصلاح فتسير بشعب مصر إلى منازل التشريف؟؟ أم هل أنت رجل حانق، جاء به ظرف عابر، ليقلب نظاما فاسدا، ثم يضرب ذات اليمين، وذات الشمال، حتى ينتهي به المطاف، إما إلى الخير، وإما إلى الشر؟
ذلك هو السؤال الذي يترقب التاريخ جوابه.. فانظر حيث تجعل نفسك.. فإنك رجل مجازى بالإحسان، مـأخوذ بالإجترام..)
ورسالة أخرى إلى جمال
ولقد مضت الأيام، وبعد ست سنوات من ذلك التاريخ يرى المراقب أن الثورة المصرية قد تنكبت الطريق، فقد انشغلت على يد جمال عبد الناصر بشئون الدول الأخرى، أضعاف انشغالها بإصلاح داخليتها، وأخذت تحاول أن تفرض وصايتها على شعوب الدول العربية حولها فتقوِّم أنظمة حكمها: فما سار في ركابها فهو تقدمي وما خالفها فهو رجعي، يؤلب عليه شعبه، وتدبر الإنقلابات لإسقاطه، وكان طبيعياً أن تدخل الثورة المصرية بهذا الاتجاه في حلبة الصراع الدولي منحازة، بغير شعور منها، إلى جانب الشيوعية الدولية، فاحتضنتها هذه وأخذت تغدق عليها معوناتها، وأسلحتها، وتغريها بعداوة الغرب ومقاطعته، فكان للجمهوريين دور في مواجهة هذا الاتجاه، وتنبيه الناس إلى خطورته، فنشروا على الشعب البيانات، وأصدروا الكتيبات، وقد بعثوا أيضاً خطاباً إلى جمال عبد الناصر، في أغسطس 1958، إبان أحداث العراق، واضطرابات لبنان، وقد جاء في ذلك الخطاب تحليل للموقف في الشرق الأوسط، ودور مصر فيه، وقد استهل الخطاب بالتذكير برسالة الجمهوريين إلى اللواء نجيب في 1952 ثم مضى يقول:
(فقد لبثنا نراقب الثورة في كل ما تأتي وما تدع، فنراها تنحرف شيئاً فشيئاً عن النهج القويم.. فبدل أن توقظ العقول المصرية، والضمائر المصرية بالتربية الرشيدة، والفلسفة الإنسانية البانية، والحرية الفردية، التي تخلق الرجال والنساء، أخذت تكبت المصريين كبتاً ألغى عقولهم، وأفسد ضمائرهم، وساقهم سوق السوام بلا إرادة ولا اختيار، ثم ضربت عليهم من الرقابة ما أخرس ألسنتهم، وأقامت عليهم من الجاسوسية ما أفسد ذات بينهم، وألبسهم لباس الخوف.)
انحراف الثورة
ثم إن الثورة لما انحرفت عن رسالة البناء، والحرية، انحدرت في سراديب مظلمة لا يحفزها في شعابها إلا البغض، والضغينة والحقد، وقديماً قيل أن الشيطان يعطي عملاً للأيدي العاطلة، وهو أيضاً يعطي فكراً للرؤوس الفارغة.. وكذلك نفث الشيطان في روع الثورة فأغراها بعداوات كانت في غنى عنها، ولو أنها قد اعتدلت في تلك العداوات وحملت منها ما تطيقه، وأبقت منها بقية لغدها، لما كان عليها في ذلك من بأس، فإنه ليس سبيل إلى الحرية بغير مناجزة القوى التي تعوقها، ولكنها حملت من العداوات ما ليس لها به يدان، فاضطرت أن تستعين على عدو بعدو، هو أشد لدداً، وأقوى مراساً، وأسوأ من ذلك، أن هذا العدو يظهر في ثياب الصديق الشفيق..