مهزلة محكمة الردة
في يوم من أيام نوفمبر 1968 حضر إلى منزل الأستاذ أحد ضباط البوليس حاملاً إعلانا بمثول الأستاذ أمام ما سميت بالمحكمة الشرعية العليا بالخرطوم، للفصل في مهزلة الردّة، المرفوعة من الأمين داؤد وحسين محمد زكي.. وقد أُكْرِمَ ضابط البوليس، وأُخْبِرَ أن الأستاذ لن يوقِّع على إعلان حضوره أمام المحكمة الشرعية العليا، وبالتالي لن يحضر.. وانصرف الضابط في سبيله..
ولقد امتنع الأستاذ من المثول أمام المحكمة لكي لا يعطيها وزناً لا تستحقه، فهي ليس من اختصاصها ولا من اختصاص أية محكمة أخرى أن تنظر في مثل هذه القضية.. فهي قضية فكر ودين وليس للمحاكم وصاية على الفكر، والرأي، والإعتقاد..
وفي يوم الإثنين 18 نوفمبر انعقدت المهزلة وكانت بحق مهزلة في تاريخ القضاء على إطلاقه، إذ استمعت المحكمة لمدة ثلاث ساعات لأقوال المدعيين وشهودهما، وهي أقوال كلها زيف، وتحريف، نقلت فيها عبارات وفقرات مبتورة من كتب الجمهوريين.. وزادوا عليها أقوالاً لم ترد على ألسنتهم، ولا من أقلامهم، ثم رفعت الجلسة لمدة ثلث ساعة وعادت للإنعقاد لتقرأ على الناس حيثيات حكمها التي لا يكفي ثلث ساعة لكتابتها.. وهذا بلا شك يعني أن الحكم كان معداً، وجاهزاً، وأن المحكمة لم تراجع أقوال المدعيين وشهودهما، ولم ترجع إلى الكتب التي نقلوا منها الفقرات المبتورة، المشوهة، لتتبين أمرها.. فكانت نموذجاً صارخاً لما يمكن أن يحل بالناس لو آلت أمورهم إلى أيدي أمثال هؤلاء، مُدَّعِي الدين والعلم..
ولقد استثمر الجمهوريون هذه المحكمة فكثفوا نشاطهم، وتجاوب الجمهور معهم، وقد انفضح أمر مهزلة محكمة الردّة هذه بمحاضرات الجمهوريين ومنشوراتهم وبالمقالات التي كتبها المثقفون.. وقد أصدرنا في دحض افتراءات محكمة الردّة كتابين بعنوان "بيننا وبين محكمة الردة" و "مهزلة محكمة الردة مكيدة سياسية". وقد تبين بذلك التآمر الذي اشترك فيه السلفيون والسياسيون لتدبير محكمة الردّة.. ويمكن الرجوع لهذين الكتابين لمن يريد تفاصيل أمر المهزلة..
لقد ذهبت محكمة الردّة ومدبروها مثلاً من أمثلة الكيد الخاسر، والإفك المحيط بأهله، المرتد إليهم، وبقي الجمهوريون يدعون إلى الله على بصيرة، وبقي فكرهم قوياً، تتساقط من حوله الشوائب..