التعليم المهني
وأعني بهذا كل تعليم يعين على إتقان عمل جسدى، بصرف النظر عما إذا كان حظ الفكر في العمل أكبر، كالبحث العلمي التجريبى في المعمل، مثلا، أو كان حظ البدن أكبر، كأعمال النجارة في الورشة، مثلا.. فإنى أسمى كل هذه الأعمال مهنية.. يستوي عندي فيها الفلكي والرياضي، والعالم الطبيعي، والطبيب، والمهندس، والنجار والبناء.. كل أولئك مهن، وكلها يتطلب إتقانا، ومهارة، مما يوجب التدريب، والتمرين.. وبالطبع فإن كل مسئول عن التعليم المهنى يجب أن يعطى المتعلمين أقصى قدر ممكن من التدريب، والتعليم النظرى، حتى يبلغوا، بإتقان مهنهم، المبالغ.. ولكن ذلك لا يكون يسيرا ولا ميسورا.. وحسبنا أن البشرية سائرة، في كل حين، نحو الإتقان، والتجويد.. وفي بلد كبلادنا فإنا بحاجة ماسة إلى البدايات نفسها، لأننا قلّ أن نعمل عملا، في الوقت الحاضر، بطريقة عملية، متقنة، إلا في القليل النادر..
سيكون تعليمنا المهني مقيدا بثلاثة قيود: -
1) إمكانياتنا المالية.. 2) مواهب أطفالنا.. 3) حاجة البلاد لأنواع المهن المختلفة..
1) وأعنى بالإمكانيات المالية: مقدرتنا على بناء دور العلم واستجلاب المعدات الضرورية للبحث العلمى، وإعداد المدرسين، المدربين تدريبا كافيا.. هذا إلى جانب رفع مستوى حياة المواطنين عامة وتحسين حالة الأسر الصحية، والعقلية..
2) وأعنى بمواهب أطفالنا عدد المؤهلين منهم، بالفطرة، ليكونوا مهندسين مهرة، وأطباء مقتدرين، ورياضيين ضليعين.. فإنا يجب أن نكتشف الموهبة الطبيعية، في كل طفل ثم نعمل على تنميتها، وتثقيفها.. فإنه ليس في طوق كل طفل أن يكون طبيبا.. وإذا حاولنا أن نخلق من الموسيقار الموهوب، مثلا، طبيبا، قديرا، فإنا قد نضيع الموهبة التي فيه، ونضعه في غير موضعه، ونضيع بذلك، على المجتمع عدة مزايا.. فيجب، إذن، إكتشاف المواهب أولا، ثم تشجيعها بالتعليم، والتثقيف، لتبرز خير ما فيها لمصلحة صاحبها، ولمصلحة المجتمع برمته.. يستوي في هذا بالطبع الرجال، والنساء..
3) وأعني بحاجة البلاد لأنواع المهن المختلفة: أننا يجب أن نوجه التعليم المهني، بعد أن نكشف عن المواهب الطبيعية لدى الأطفال الذين بين أيدينا، فنوجه لمهنة الهندسة المدنية ما نعتقد أننا سنحتاجه في كذا من السنين، وكذلك للطب، ولغيرهما من المهن.. وغرضنا وراء ذلك بالطبع رفع مستوى معيشة المواطنين، من جميع وجوهها: المادية، والصحية، والعقلية، مراعين في ذلك المساواة، من جميع هذه الوجوه، بين جميع المواطنين، سواء كانوا في الحضر، أو في البادية.. ويجب ألا ننشئ المدن الكبرى على حساب الريف، فنترك بعض المواطنين رحلا، كما هم، ثم نطور المدن تطويرا يجعل البون شاسعا بين الحضريين والبادين بل يجب أن نعمل على توطين البادين من مواطنينا، بتوفير مياه الشرب لهم، ولمواشيهم، وبإعداد المراعي المستديمة، بطرق الرى الحديثة، وبحفظ العلف، بالطرق الفنية الحديثة حتى يستقروا في مكان واحد، وحتى يربوا مواشيهم بالطرق العلمية الحديثة.. نهتم بالكيف، أكثر مما نهتم بالكم، وبذلك نستطيع أن ننشر التعليم، والتمدين، بينهم، بنفس المستوى الذي ننشرهما به في المدن.. وكل ما هناك، من فرق، إنما يكون فرق مقدار، لا فرق نوع، ذلك بأن التعليم المهني للأرياف سيكون في سبل الزراعة وتربية الحيوان، وتصنيع منتجات الحيوان، ومنتجات الزراعة، بينما التعليم المهني في المدن قد يكون في الصناعة، والتجارة، وما شابههما وطبعا هذا لا يعني ألا يتعلم سكان الأرياف ما يتعلمه سكان المدينة، ولكن يعني أن نوع تعليمهم، في الغالب الأعم، وعلى الخصوص في البداية، سيكون المقصود منه إعدادهم لبيئتهم إعدادا نافعا.. وما يقال هنا عن الأرياف يقال مثله عن المدن..
أقترح ألا يكون عمل لجنتكم قاصرا على جانب التعليم وحده لأن التعليم إنما يمارس في المجتمع.. وهناك مسائل كثيرة تؤثر على المجتمع، وتؤثر، من ثم، على التعليم.. فإذا ما أهملت هذه المسائل الكثيرة، ثم إقتصر الكلام على التعليم وحده، فلن يكون مثمرا، الثمر لمطلوب، لأن الطفل لا يجيء للتعليم إلا بعد أن تكون المؤثرات الأولى على شخصيته قد عملت عملها فيه، مما لا يستطيع التعليم، فيما بعد، أن يصحح ما أفسدت.. وهذه المؤثرات الأولى تجيء من بيئته المنزلية، ووسطه في الحارة، والشارع، والحي.. ثم أن الطفل لا يكون في المدرسة إلا جزءا يسيرا من يومه، يعود بعده إلى هذه البيئة التي يكون أثرها عليه، دائما، أبلغ من أثر المدرسة ولذلك فيجب على رجل التعليم أن يعني، بعض الشىء، بهذه البيئة، وإن كانت، في تفاصيلها، تخص رجالا آخرين، غير رجال التعليم... ولكن يجب أن يتضافر مجهود كل الهيئات لينتج الرجال الصالحين للغد من أطفال اليوم.. وأنا شخصيا أعتقد أن وزارة المعارف في البلاد يجب أن تكون أكبر وزارة، وأن يكون لها إشراف تام على (المورد البشري) عندنا، لأنها هي التي سترعى نوعه، وتتعهده بالتهذيب الذي بدونه لا يكون الإنسان خير حالا من الحيوان..
يجب أن يكون من حقها الأشراف على الأطفال من قبل أن يولدوا وذلك بتنظيم الزواج، والتأكد من أن الفتى والفتاة، اللذين ينويان الزواج صحيحان، وخليقان، بأن ينجبا أطفالا أصحاء.. ثم برعاية الأمومة، أثناء الحمل.. ثم برعاية الطفولة، في السنين المبكرة.. ثم باستلام الطفل في سن أبكر مما نفعل اليوم.. يجب أن تكون لنا مراحل من التعليم تأخذ الأطفال في سن الخامسة مثلا.. على أن يكون التعليم مختلطا بين البنين والبنات، ومعدا في كل قرية من القرى.. وليكون ذلك عمليا فيجب تجميع البيوتات القليلة في القرى الصغيرة على بعض في موضع مناسب، حتى تنشأ منها قرية محترمة، مخططة تخطيطا صحيا حديثا، وبها تنهض جميع المرافق الضرورية كالسوق، والمدرسة والشفخانة ومنشآت الماء الصالح للشرب..