إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الغـرابة فى الدعوة الإسلامية الجديدة

الرسالة الثانية من الإسلام
أو الدعوة الإسلامية الجديدة


إن الرسالة الثانية من الإسلام، أو الدعوة الإسلامية الجديدة، هي الإسلام، عايدا من جديد، وفى مستوى جديد، ليخرج بشرية اليوم الحائرة المعذّبة من متاهات الشك والخوف والضياع الى باحات الأمن والسلام.. وهي هي السنة عايدة، بعد أن اندثرت، لتكون شريعة لعامة الناس، بعد أن كانت شريعة للنبي في خاصة نفسه.. ولما صدع الجمهوريون بهذا الأمر استغربه الناس تحقيقا للنبوءة التي جاءت في الحديث الشريف: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبي للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها).. فلماذا كان الاستغراب؟
لقد ذكرنا من قبل، ان تصور الألوهية، الذي جاءت به الرسالة الأولى، قد انصب، في عمومه، على مظاهر التوحيد خارج النفس البشرية، وانما عالجها بالقدر الذي سمح به حكم ذلك الوقت – "حكم الوقت" في القرن السابع.. أما تصور الألوهية، الذي جاءت به الدعوة الإسلامية الجديدة، فقد عامل مظاهر التوحيد خارج النفس البشرية معاملة الوسيلة، فعبر بها، وعليها، الى داخل النفس البشرية.. حتى يتم التئامها بعد أن طال بها انقسامها.. والتئام النفس البشرية هو ضرورة تمليها حاجة البشرية، اليوم، الى السلام، فإنه الا يحل السلام في كل نفس بشرية لا يحل في الأرض.. وعن هذا التصور للألوهية الذي جاءت به الدعوة الإسلامية الجديدة يقول الأستاذ محمود محمد طه، في مقدمة الطبعة الثامنة من كتابه "طريق محمد": (وكل إنسان من الناس، بالغا ما بلغ من الرفعة، له ((إله)) غير ((الله)) ذلك ((الإله)) هو تصوره هو ((لله)).. وما من تصور ((لله)) إلا و ((الله)) من حيث ذاته العلية ‍‍‍‍‍‍، بخلافه، فوقعت الشقة بين التصور والحقيقة.. وكل العباد إنما محاولتهم أن ينطبق تصورهم على الحقيقة، ليكون ((إلههم)) ((الله))، وهيهات!! وإلى ذلك المطلب الرفيع الإشارة بقوله تعالى: ((وأقيموا الوزن بالقسط، ولا تخسروا الميزان)) فكان في إحدى كفّتي الميزان ((الله)) - ((الحقيقة))، وفي الكفة الأخرى ((الإله)).. وفكرة الإله تبدأ من ((الباطل)) وتدخل مداخل ((الحق)).. وإنما يطلب الحق ((الحقيقة)).. يطلب الحق أن ينطبق على الحقيقة تمام الانطباق.. ((فالإله))، بمعنى آخر، هو تصورنا ((لله))، وهو تصور، مهما بلغ من الكمال، قاصر قصورا مزريا، حتى أن النبي الكريم قد قال :((أعلم عالم، بجانب الله، أحمق من بعير..))..
بإيجاز، من الناحية العملية، والتطبيقية، فإن ((إله)) كل إنسان إنما هو ((نفسه)).. ولما كانت نفوسنا هي حجبنا الناهضة بين عقولنا وبين الحقيقة - ((الله))، فقد قال المعصوم عنها: ((إن أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك)).. وقال أحد العارفين عنها: ((وجودك ذنب لا يقاس به ذنب)).. وهذه النفس إنما هي النفس ((السفلى))، وقد سميت بالنفس ((الأمارة))، وهي تنزل من النفس ((الكاملة)) - نسبية الكمال - وهي نفس ((الإنسان الكامل)).. وهذه، بدورها، إنما هي تنزل عن النفس ((الكاملة)) - مطلقة الكمال - وهي نفس ((الله)).. وإنما سير العباد كله مجاهدة للارتقاء من النفس ((الأمارة)) إلى النفس ((الكاملة)) - إلى نفس الله.. وهذا سير سرمدي، يقع البدء فيه، ولا يتفق الفراغ منه.. وإلى هذا السير المجيد الإشارة بالآية الكريمة: ((قل يا أيها الناس!!‍‍ قد جاءكم الحق من ربكم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل)).. من اهتدى فإنما يهتدي إلى نفسه ((العليا)) - ((الكاملة)) - ومن ضل فإنما يضل في متاهات نفسه ((السفلى)).. انتهى..
هذا التصوّر الرفيع للألوهية هو، في الحقيقة، مبعث الاستغراب الذي تلاقيه الدعوة الإسلامية الجديدة.. وقد كان لتحقيق هذا التصوّر، وتجسيده، انعكاسات كبيرة وعميقة، في ميدان الدعوة لعودة الإسلام، أثارت الإعجاب وأثارت الاستغراب.. ولقد برزت هذه الانعكاسات في فكرة الإسلام الاجتماعية الجديدة، وفى مجال اسلوب الدعوة، كما برزت في تبيين المنهاج الفردي لتحقيق الكمالات الفردية وفتح الطريق للتطوّر السرمدي..
وسنورد فيما يلي بعض تفاصيل هذه الانعكاسات باعتبارها عناصر الاستغراب الذي صادفته، وتصادفه الدعوة الإسلامية الجديدة..