خاتمة
والآن، وبعد أن اتضحت لنا، من الأمثلة القليلة التي أكتفينا بها، الشقة الواسعة بين الفقه والدين، وبعد أن استعرضنا أقوال الأئمة في ذم الرأي وفي التبريء منه، في مرحلة القياس، والفقه، فكيف حالنا الآن؟؟ بعد أن خرج بنا الفقه عن الشريعة وحجبها عنا، وجاء الفقهاء الذين يعيشون للدنيا ويأكلونها باسم الدين ويطوعون الشريعة لأغراض الحكام، وكيف حالنا ونحن نعيش في مجتمع كوكبي، مجتمع إنساني طرح القضايا الانسانية الأساسية وأخذ يبحث عن الحلول الجذرية لها؟؟ هذا المجتمع يمثل "قفزة" في التطور، في كل شيء.. حتى أصبحت الفرقة بينه وبين المجتمعات الماضيات، حتى القريبة منها، أكبر من أن تقاس.. وبفضل الله، ثم بفضل هذه البيئة الجديدة من كل الوجوه، قد تجاوزنا ((القياس)).. وأصبحنا نستقبل المجتمع الانساني الكوكبي المعقد.. وهو مجتمع لن يقوم الا على أصول الإسلام – إلا على آيات الأصول - ولذلك فإن سعة الشريعة لتستوعب، وتوجه، طاقات الحياة الحديثة لا تلتمس في تطويع النصوص، ولا في ((القياس)) وإنما تلتمس في تطوير التشريع.. وهذا أمر السعة فيه أكبر من "خيال الفقهاء" إذ أنه ينتقل بالشريعة من آيات ((الوصاية)) إلى آيات ((المسئولية)) – آيات الحرية.. ثم هو ليس قولا بالرأي الفج، وإنما هو دقة فهم، وضبط عمل، بالنص.. النص الأصلي الذي كان منسوخا.. وهو إنما كان منسوخا لأن طاقة، وحاجة، المجتمع، في القرن السابع، قد كانت دونه.. وأطاقه النبي الكريم وحده.. ولذلك فقد كان هو سنته.. ولا عودة للإسلام إلا ببعث آيات الأصول هذه – إلا ببعث ((السنة)).. ((بدأ الدين غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ.. فطوبي للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها))..
الدعوة الإسلامية الجديدة
وتطوير التشريع هو جوهر ((الدعوة الإسلامية الجديدة)).. وهو يعني الانتقال من النص ((الفرعي))، الذي خدم غرضه – خدمه حتى استنفده – إلى النص ((الأصلي))، الذي كان مرجأ لأنه قد كان أكبر من طاقة، وحاجة، مجتمع القرن السابع.. وهو لم يتهيأ له الا المجتمع الحاضر – تهيأ له بالطاقة به، وبالحاجة إليه..
أمر المرأة والربا في ظل آيات الأصول
وبمناسبة الأمثلة التي أوردناها من الفقه عن الربا والمرأة يحسن أن نشير اشارة موجزة إلى ما سيكون عليه الأمر في ظل آيات الأصول، ان الرجوع لأيات الأصول سيقضي، قضاء نهائيا، على الربا، وعلى استغلال الانسان، بكل صوره، وذلك لأن الأمر فيها انما يقوم على تقديس العمل، وعلى احترامه، وعلى اعتبار كل الناس عمالا.. ويقوم على عدالة توزيع الدخول بينهم بالصورة التي تقضي على الحاجة، وعلى الاستغلال.. وكل ذلك انما يتم بانتقال تشريعنا من الآية الفرعية – آية الزكاة الصغرى: ((خذ من أموالهم صدقة تطهرهم، وتزكيهم بها..)) إلى الآية الأصلية – آية الزكاة الكبرى: ((ويسألونك ماذا ينفقون؟؟ قل العفو..)).. وأقل ما تطالبنا به هذه الآية هو ((الاشتراكية)) لأنه على هذه الآية قامت ((سنة)) النبي الكريم.. وسنة النبي فوق الاشتراكية، فانه قد كان يصرف عنه كل ما زاد عن حاجته الحاضرة..
أما موضوع المرأة، فإن طاقة المرأة العصرية ستستوعب، وحاجتها للحرية ستلبى.. ولأول مرة ستتمكن من أن توفق بين حريتها، وبين عفتها، من غير رقيب عليها.. ذلك لأن الأصول انما تعطيها الحرية بثمنها، وهو المسئولية.. وهي تعطيها أيضا المنهاج الفردي، التربوي، الذي يؤهلها لحسن التصرف في حريتها، فتحرزها، وتتمتع بها.. وكل ذلك يتم بانتقال التشريع من آية القوامة ((الفرعية)) إلى آية المساواة ((الأصلية)).. ((ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف.. وللرجال عليهن درجة))..
وسنكتفي بهذه الاشارات، لأن الموضوع، بتفاصيله، قد توفرت عليه كتبنا الأخرى، وبخاصة ((الرسالة الثانية من الإسلام)) و((تطوير شريعة الأحوال الشخصية))، فليراجع في موضعه..
خاتمة الخاتمة
إن من أميز ما يميز الشريعة الإسلامية بساطتها الشديدة التي جعلتها منهاجا شعبيا بداياته في متناول الأمي، والانسان العادي البسيط.. وهو منهاج يقدم للتطبيق وللعمل به لأن العلم الحقيقي في الدين، انما يجئ نتيجة للتجربة الذاتية وليس للعن أو النقل.. ولذلك نؤكد أمر العمل ((واتقوا الله ويعلمكم الله)).. أو ((من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم)) ولبساطة الشريعة، ولعمليتها، فقد كانت تقدم منهاج التربية، والثقافة الذاتية – العبادات- بصورة سهلة، وخالية من التعقيد.. فالوضوء، والصلاة، كانت تتعلم بالكيفية و"بالهيئة".. وهيئة الوضوء، وهيئة الصلاة، يمكن للإنسان العادي أن يلتقطها، ثم هي بممارستها تثمر، في عقله، وفي قلبه، المعرفة والعلم.. فكان الأصحاب يأخذون هذه العبادات من كيفية عمل النبي الكريم.. وكانوا يعلمون الناس ((الهيئة))، فيقدمون لهم هيئة الوضوء، وهيئة الصلاة.. ويقولون لهم هكذا كان وضوء رسول الله وكانت صلاته.. ولكن تلك الصورة التي كانت تقدم فيها الشريعة، صرفة، وخالية من الاخلاط، والتعقيد، قد أفسدها ((الفقه)) فذهب ببساطة، وسحر، ذلك المنهاج.. فالعبادات التي كان يتعلمها الإعرابي فيلم بكيفيتها في عدة دقائق وينصرف للعمل بها معلنا أصراره عليه فيقول عنه النبي الكريم ((أفلح ان صدق)).. أصبحت بعد أن لمستها يد الفقه أمرا معقدا أبتدعوا فيه للوضوء وللصلاة فرائض وسنن، ومستحبات، ومكروهات، إلى آخر تلك المسميات وما يلحق بها من حواشي، وخلافات، وافتراضات.. مع أنه لم يرد ذكر لهذه التسميات، والتصنيفات، في الحديث، ولا في صلاة النبي الكريم.. وهكذا انتقل ذلك المنهاج من منهاج عمل بسيط إلى أمر غامض، ومعقد، لا يعرفه الا أهل التخصص الذين يفنون فيه أعمارهم، ويصورون لك أن معرفة هذا الأمر، والتي كانت تتم للإعرابي الأمي في دقائق – يصورونها بأنها تتطلب منك أن تلازمهم، وأن تتلمذ عليهم سنين عديدة، وبذلك نشأ المحترفون الذين يسمون الآن بـ ((رجال الدين))، و((العلماء))، الذين ينفقون أعمارهم في هذه الدراسات، ثم يهدرون ما تبقى منها في اخراج نسخ منهم ممن ابتلى بالتلمذة عليهم.. فالفقه بذلك قد عقد ذلك المنهاج البسيط الذي لبساطته هذه تمكن من تغيير المجتمع الأمي العربي ذلك التغيير الكبير السريع.. ثم أنهم زادوا على تشويههم للمنهاج بأن ذهبوا بمركزية المنهاج التي يدور حولها وهي العمل.. فأصبحت الدراسات الدينية لا تتطلب للعمل بها، ومن ثم انفك التلازم والترابط بين الشريعة والعمل، فقل العاملون، وكثر ((العلماء)).. وأكثر من ذلك، فقد علق الناس أملهم، في عودة الإسلام على تلك المؤسسات التي تتولى تقديم هذه الدراسات العقيمة، المتحجرة، ولذلك طالت غيبة الإسلام، وتمت عزلته عن مناشط الحياة الحديثة..
ثورة التغيير داخل المؤسسات التقليدية
ونحن نعرف أن طلبة تلك الدراسات قد نبههم التناقض الحاد بين دراساتهم وبين الحياة الحديثة، والفرقة الواسعة بين حيوية الدين، ومقدرته وبين تلك الدراسات الأثرية المتخلفة، فأصبحوا ينفرون من تلك الدراسات ويكرهونها.. ونحن نحب لهم أن يبدأوا من هذه الحقيقة البداية الجادة للتغيير فيرتفعوا عن هذا الموقف السلبي إلى الموقف الإيجابي.. ونحب لهم، الا ينخدعوا بالاسماء عن هذه الحقيقة، وعن ذلك الواجب.. فيجب الا تسمى لهم تلك الدراسات بأسماء عصرية فيعكفوا عليها، يبددون ملكاتهم.. ونحب لهم أن يتبينوا أن الحل لن يكون، اطلاقا، في تحويل مرافق الدراسات الدينية إلى مرافق تقلد الدراسات المدنية، كما هو الاتجاه في جامعة أم درمان الإسلامية.. فالأمر ليس هو في التشبه بالحضارة الحاضرة التي خدمت مرحلتها حتى استنفدتها، ولا هو في أن نلغي عقولنا، ونعطلها، ونتجمع لنجتر الفقه، ولا تراثنا في الدراسات الإسلامية.. فالمطلوب أكبر من هذه وتلك بكثير.. وهو يتطلب الأصالة، ومعرفة ((حكم الوقت)).. ويكفي أنه يتعلق باستخراج المدنية الجديدة من القرآن إلى واقع حياة الناس، لتملأ الأرض عدلا وسلاما ورخاء ومحبة.. واملنا في أولئك الشباب يجعلنا نقترح عليهم أن يتداركوا أنفسهم قبل أن تتم صياغتهم فيصبحوا شيوخا في أسلاخ شباب، وذلك بأن يقيموا مراجعة دقيقة في تجرد، ونقد ذاتي، لمحتويات مناهجهم، ويقيسوها على ضوء طاقة العصر، وأصول الإسلام، فانهم، ان يفعلوا ذلك، فسيتضح لهم أنهم لا يدرسون الدين، وانما يدرسون ((الفقه)).. يدرسون آراء الرجال، وفي حقبة معينة.. وهم بذلك بعيدون عن الدين، وعن عصرهم.. فهم، حتى في دراستهم للقرآن الكريم، انما يدرسونه مقيدين بآراء المفسرين فهم لا يجدون التأهيل، ولا الفرصة ليعلموا من القرآن.. وانما هم يعلمون آراء الماضين حول القرآن، وواضح أن تفسير أى مفسر، مهما كان مستواه، انما هو رأي ذلك المفسر عن القرآن.. وهو رأي يتأثر بتجربة المفسر الشخصية، وبثقافته، وبمشاكل عصره.. ولا يمكن أن يكون هناك تفسير للقرآن في مختلف العهود والبيئات لمختلف العهود والبيئات..
ورع الأئمة الأوائل وانحراف خلفهم
ونحن حين نبهنا إلى بعد الفقه عن الدين، وخروجه عنه، لم نقلل من دور الأئمة الأوائل، فكما قدمنا في متن هذا الكتاب فانهم قد كانوا يتحلون بأمانة الثقافة، وبالمسئولية الدينية.. ولذلك، وهم يتصدون لخدمة مرحلتهم، قد كانوا يتحرجون من الاجتهاد فيما ليس فيه نص.. ولكن خلف من بعدهم خلف كبرت الدنيا في صدورهم، وهان أمر الدين عندهم.. فأصبحوا يجتهدون فيما فيه نص، بل يفتون ضد النص، تزلفا للأمراء، والحكام، وأكلا للدنيا بالدين..
الثورة الإسلامية الكبرى
ونحن حين نهاجم الفقه وخروجه عن الدين لا نحارب الفكر، بل إن دعوتنا للمؤسسات التعليمية السلفية لترك الفقه، وترك آراء الرجال، والاتجاه لدراسة الدين نفسه، بمنهاجه العملي، إنما ندعو لاحترام العقل، وتكريمه، وندعو لأن تفتح تلك المعاهد مسارح للفكر وللحوار الموضوعي، وندعو شعبنا جميعه للفكر، ونبذ التبعية، والتزام منهاج العبادات، في بساطته التي كان عليها حتى تقوم ثورة ثقافية شاملة.. فالفكر في الإسلام هو أدق عمل، وهو أفضل العمل.. ((تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة)). ولدقة الفكر، ولعزته، جاء القرآن بأدب حقيقته، وأدب شريعته، ليعدنا لهذا الأمر الخطير ((وأنزلنا اليك الذكر، لتبين للناس ما نزل إليهم.. ولعلهم يتفكرون))..
اننا نمر بفترة مصيرية جعلت شباب العالم الأذكياء يرفضون المسلمات الجاهزة، والقوالب التقليدية، حتى أفرطوا في ذلك، فهل في مثل هذه الفترة سيظل شبابنا يتلقى دينه العظيم بعقول الماضين، وضيق أفق الحاضرين؟؟ مع أن هذا الدين هو مدنية الغد التي نحن على أعتابها.. وما حجب حقيقة الدين هذه الا تلك الأخلاط التي ندرسها باسم الدين، وبديلا عنه، والا تلك المؤسسات الصورية المتخلفة عن العصر، البعيدة عن روح الإسلام
خروج الفقه عن الدين
هذا العنوان اضطررنا اليه، بهذه الصورة الحاسمة، لأن من يعكفون على هذه الدراسات اليوم، ويفرطون فيها، ويعتبرونها ((الدين))، لا يتيقظون بأقل من هذه الصيحة ليتركوا مضاجعهم، ويتجهوا للعمل، وللفكر.. ولذلك فقد اتخذنا هذا العنوان مضطرين.. ونحن نعلم، وكما ذكرنا في كتابنا هذا، ان ((الفقه))، في أساسه، ولدى الأئمة الورعين، الأوائل، قد كان له دوره في مقابلة ضرورات تلك المرحلة.. وواضح أنهم قد كانوا يتبرئون من الرأي، كما أوردنا ذلك في كتابنا هذا.. ولقد وضحت مفارقة ((الفقه)) للدين في وقت مبكر، حتى لقد أصبح عهد صلاح الفقه، وتمشيه مع الشريعة، عهدا قصيرا، غاية القصر، إذا ما قورن بالعهود المتخلفة التي عاشها الفقهاء، الفساق، قليلو الورع، رقيقو الدين، الذين مردوا على اكل الدنيا بالدين..
((الفقه)) في هذه الحقبة الطويلة قد خرج عن الشريعة، وخرج، ومن باب أولى، عن الدين.. ومن ههنا اسم هذا الكتاب.. والله المسئول أن يهدى المسلمين، والانسانية من ورائهم إلى حقائق الإسلام ليجدوا حقائق أنفسهم، وليرتقوا إلى كمالهم المقدور لهم، فانه نعم المسئول، وهو أسرع مجيب..
الأخوان الجمهوريون
أم درمان. ص ب 1151 – ت 56912 –
29 سبتمبر 1975م – 24 رمضان 1395هـ