الفصل الثاني
السيادة
السيادة، ونعني بها السلطة الآمرة التي تستطيع أن تفرض ارادتها على الأفراد، ملك للشعب السوداني المستوطن داخل حدود السودان القائمة إلى عام 1934، وسيكون نظامنا الديمقراطي بجميع دعائمه وسيلة لتحقيق هذه السيادة للشعب، وغني عن القول إن السيادة ليست غاية في ذاتها وانما هي وسيلة لتحقيق الحرية السياسية، والمساواة الاقتصادية، والاجتماعية، التي بدونها لا يتهيأ الجو الذي فيه وحده تترعرع الحرية الفردية المطلقة.. ويجب أن نكون حذرين فإن مسألة اعطاء السيادة للشعب مسألة دقيقة وحساسة، وذلك بأن الشعب، عمليا، لا يباشر الحكم بنفسه، وانما يعين بضعة أفراد يقومون بمباشرة السلطة نيابة عنه، وكثيرا ما يحصل أن يستفيد هؤلاء من مبدأ السيادة الشعبية، فيجورون على الحريات، ويتغولون على حقوق الأفراد، فإننا لا نزال نعيش على مخلفات المجموعة البشرية من تراث الماضي، وحتي فكرة السيادة الشعبية ما هي الا تطوير لهذا التراث لم يتخلص بعد من الأوضار، فقد كان الأقوياء يفرضون ارادتهم على الضعفاء بشتى الوسائل، فمن ذلك وسيلة القوة المادية، أو القوة الأدبية أو الدينية، أو العقلية أو الاقتصادية أو العددية، وهذه الأخيرة، بتقدم المدنية، قد أصبحت قوة الجماعات المنظمة، ومن ثم جاءتنا فكرة السيادة الشعبية فهي فكرة تقوم على القوة، وهي لذلك خليقة أن تستغل، فيساء باسمها استعمال القوة، بيد أن الأمل معقود باطراد تقوية الفكرة الحديثة، حيث الحق هو القوة لا العكس، وحيث تخضع الدولة للقانون، فإن ذلك أدنى أن يحد من السير في الاتجاه المؤدي، أما إلى جعل السلطة السياسية عبارة عن حكم القوي للضعيف، باعتبار شرعية كل ما يأتيه الحاكم، أو إلى منح تصرفات البرلمان شرعية كاملة، بصرف النظر عن محتوياتها، مما يساعد البرلمانات على ادعاء السلطة المطلقة، ويفتح الطريق إلى العصمة البرلمانية المرعبة: وليس المخرج من هذا الحرج الا يعطي الشعب السيادة، بل، على النقيض، فانه يجب أن يعطاها، وأن يعطاها كاملة حتي يتعلم بممارستها: على أن يوضع القانون أمام ناظريه دائما وأن يكون موضع التجلة عنده والاحترام، حتي يصبح شعاره
((الحق هو القوة
)) ثم تبذل الحكومة والشعب، كل وقت ومال وجهد، ليربوا الأفراد على فهم القانون، والخضوع لحكم القانون فينشأ رأى عام
((أو ارادة عامة ان شئت
)) مستنير شرعي يستمد شرعيته من انطباعه على القانون وامتثاله له، وتمثله اياه، واستقامته معه.. فهذا الرأي العام، بهذا الوصف، هو صاحب السيادة وعليه يتوقف نجاح قيام الحكومة، ونجاح تطبيق القانون، ولا يحسبن أحد أن رأيا عاما كهذا، يمكن أن يوجد عفوا بفعل التطور الزمني، ذلك بأنه يشترط لوجوده ايقاظ ضمير كل فرد من أفراد المجموعة. ولذا لا بد من أسلوب تربوي يوجه التطور ويحفزه، بأن يخاطب كل فرد خطابا فرديا مباشرا يجعل ضميره الرقيب الأول على حركاته وسكناته، والحسيب الأول على أخطائه وهفواته، فإن اقامة حكومة القانون في حياة الجماعة العامة تتحقق على خير صورها اذا كان كل فرد من أفراد الجماعة يقيم حكومة القانون في حياته الخاصة، ونحن لم نجد هذا الاسلوب التربوي الا في القرآن، لأن القرآن في آن معا، دستور للسلوك الفردي ودستور للسلوك الجماعي، وهو بذلك يكسب الفرد المقدرة على المواءمة بين حاجته وحاجة الجماعة التي يعيش فيها، فإنه يعلمه أن أبعد حاجاته منالا، ليس اليها من سبيل الا حب الجماعة والتفاني في ابغائهم الخير والاخلاص لهم في السر والعلن، ومنهاج محمد النبي في العبادة والسلوك هو الصورة الحية الماثلة من هذا الاسلوب التربوي.
ان الشعب المربى هذه التربية هو الشعب الذي يستحق السيادة كاملة ونحن انما نعطيها في دستورنا هذا شعبنا منذ الوهلة الأولى لأن ممارستها تجعل تربيته التربية التي أسلفنا ذكرها أمرا ممكنا.