الفصل السادس
الهيئة التشريعية
عندنا أن الهيئة التشريعية هي العمود الفقري للهيكل الحكومي، وهي أهم من السلطتين الأخريين بكثير، ذلك بأننا نعتبر القانون فوق كل السلطات، وفوق الشعب نفسه، وما السلطتان الأخريان إلاّ سلطتين تنفيذيتين، مهمتهما تطبيق القانون الذي تسنه الهيئة التشريعية، على أننا يجب أن نكون مفهومين فإنّا لا نعتبر كل تشريع تسنه الهيئة التشريعية قانوناً، وإنّما القانون عندنا شيء قائم بذاته، ومستقل بوجوده عن وجود العقل البشري، وما القوانين الوضعية إلاّ محاولة لمضاهاة هذا القانون المستقل، والهيئة التشريعية التي نعنيها نحن هي الهيئة التي يجيء تشريعها الوضعي مضاهياً ومستقيماً مع القانون الاساسي، وسنتخذ دستورنا بحيث يوجه تشريع هيئتنا هذه الوجهة، وسنقيم من السلطات القضائية التي تنظر في دستورية القوانين ما يضمن لنا استقامة تشريع هيئتنا مع القانون الاساسي، ولقد قلنا عند حديثنا عن السيادة: أن الشعب هو صاحب السيادة، ولكنه لا يستمد حقه هذا من مجرد وجوده، وإنّما يستمده من انطباعه على القانون، وفهمه إيّاه وامتثاله له، فالشعب لا يستحق السيادة إلاّ إذا كان قائماً بتنفيذ ما يرضي الله، وهو لا يكون كذلك إلا بالتربية، ولا يتربى الشعب إلا بالأساليب الديمقراطية التي تضعه أمام مشاكله وتتيح له فرصة تحمل مسئوليات حكم نفسه، ثم تعينه بكل وسائل الإعانة: الجماعية، والفردية، فيتربى أبناؤه على القانون، فينشأ عنهم رأي عام، أو إرادة عامة، تكون لفرط انطباعها على القانون، هي في ذاتها القانون: فإن ممثل هذا الرأى العام هو صاحب السيادة الكاملة ولأهمية هذه المسألة نحب أن نتوسع قليلا فيما نعني بالدستور الذي نقيد به تشريعنا، وما نعني بالقانون المستقل بوجوده عن وجود العقل البشري، حتى نبرز أهمية الهيئة التشريعية عندنا بالنسبة للهيئتين الأخريين: الإدارة والقضاء.
مجتمعنا الكبير ومجتمعنا الصغير
هناك ثلاث مسائل هامة قدمناها في ديباجة دستورنا هذا: واحدة منها غاية واثنتان وسيلتان، فأما الغاية فهي إنجاب الفرد الحر حرية مطلقة، وأما الوسيلتان فاحداهما المجتمع السوداني، وثانيتهما المجتمع العالمي، ولقد قلنا إن المشاكل الراهنة لأي بلد هي في حقيقتها صورة مصغرة لمشاكل الجنس البشري جميعه، وهي في أُسها، مشكلة السلام على هذا الكوكب، وعندنا انه من قصر النظر أن نحاول حل مشاكل مجتمعنا السوداني داخل حدودنا الجغرافية، من غير أن نعبأ بالمسألة الإنسانية العالمية، ذلك بأن هذا الكوكب الصغير الذي تعيش فيه قد أصبح وحدة ربط تقدم المواصلات الحديثة السريعة بين أطرافه ربطا يكاد يلغي الزمان والمكان الغاء تاما، فالحادث البسيط الذي يجري في أي جزء من اجزائه تتجاوب له في مدي ساعات معدودات جميع الأجزاء الأخرى، يضاف إلى هذا أن هذا الكوكب الصغير الموحد جغرافيا، ان صح هذا التعبير، تعمره إنسانية واحدة، متساوية في أصل الفطرة، وان تفاوتت في الحظوظ المكتسبة من التحصيل والتمدين. فلا يصح عقلا أن تنجب قمتها الإنسان الحر، إذا كانت قاعدتها لا تزال تتمرغ في أوحال الذل والاستعباد، او قل، على أيسر تقدير، انه لا يمكن أن يفوز جزء منه بمغنم السلام والرخاء إذا كانت بعض اجزائه تتضرم بالحروب، وتتضور بالمجاعات، ولذلك فقد نظرنا إلى المجتمع العالمي كانه وسيلة في المكان الثاني، حين نظرنا إلى مجتمعنا السوداني كانه وسيلة في المكان الأول ولقد اخترنا لتنظيم مجتمعنا الصغير النظام الاتحادي المركزي لأمرين أولهما وأهمهما أن هذا النظام يناسبنا من جميع الوجوه، وثانيهما أن تنظيمه لمجتمعنا الصغير يتجه في نفس الاتجاه الذي بمواصلة السير فيه نصل إلى تنظيم مجتمعنا الكبير - المجتمع العالمي - فإنه مما لا ريب فيه أنه، وقد توحد هذا الكوكب جغرافيا بفضل تقدم العلم المادي، لن يحل فيه السلام إلا إذا ما توحد اداريا، وذلك بأن تقوم فيه حكومة عالمية على نظام الاتحاد المركزي، تقيم علائق الأمم فيه على أساس القانون كما تقيم كل حكومة في الوقت الحاضر علائق الأفراد في داخليتها على القانون، وسيكون لهذه الحكومة العالمية المركزية دستور عالمي مركزي، تقوم بمقتضاه هيئة تشريعية عالمية مركزية، تسن من القوانين ما ينظم علائق الدول ببعضها البعض، ويضعف من سلطان الحدود الجغرافية، والحواجز الجمركية، والسلطات المركزية لدي كل دولة، كما تشرف على دستورية قوانين الهيئات التشريعية المحلية، حتى لا تجيء معارضة للدستور العالمي المركزي، الذي ستقوم بمقتضاه أيضا هيئة تنفيذية عالمية مركزية وهيئة قضائية، بكل ما يلزم من جيش وقوات أمن ومال، وسنحاول إلا تغيب عن ابصارنا، أثناء تنظيمنا مجتمعنا الصغير صورة تنظيم مجتمعنا الكبير. وسنعمل للإثنين معا من الوهلة الأولى، وقد يكون أكبر همنا موجها، باديء ذي بدء، إلى تجويد الأنموذج الصغير، بيد انا لن نتوانى عن نصرة المظلومين والمستعبدين في أرجاء هذا الكوكب أثناء ذلك، جهد طاقتنا، ولا نعتبر أنفسنا بذلك منصرفين عن أصل قضيتنا.
وبديهي أنه لن يكون هناك دستور عالمي مركزي موحد، إلا إذا استمد من الأصول الثوابت، التي تشترك فيها جميع الأمم، وجميع الأجيال، وتلك هي الأصول المركوزة في الجبلة البشرية، من حيث أنها بشرية، ذلك بأن تلك الأصول هي نقطة الالتقاء التي يتوافى عندها سائر البشر، بصرف النظر عن حظوظهم من التعليم والتمدين، فهم عندما يختلفون فيها انما يختلفون اختلاف مقدار لا اختلاف نوع: وقوام تلك الأصول العقل والقلب، أو ان شئت، فقل، الفكر والشعور، وسنحاول أن نبرز هذا الدستور أثناء معالجتنا لقضية الفرد.
الإنسان الحر
قلنا اننا قدمنا في ديباجة دستورنا هذا ثلاث مسائل: وسيلتين وغاية، فأما الوسيلة الأهم، وهي المجتمع السوداني فإن الدستور يخصها، واما الوسيلة المهمة، وهي المجتمع العالمي، فقد أسلفنا فيها القول بايجاز، وأما الغاية، وهي إنجاب الفرد الحر، حرية مطلقة، فسنخصص لها من القول ما يبرزها، ويبرز معها الدستور الذي نبتغيه.
هل هو ممكن؟
وأول ما نبدأ به هو تصحيح الخطا القائم في أذهان بعض الناس حين يظنون ان الحرية الفردية المطلقة غير ممكنة التحقيق، وان أقروا، بفضل ما يجدونه في أنفسهم، بأن هذه الحرية الفردية المطلقة هي، في الحقيقة، حاجة كل فرد بشري. فإنه ان صح، وهو لا محالة صحيح، أن الحرية الفردية المطلقة حاجة كل فرد وغايته، فإنها تكون بذلك حاجة الإنسانية وغايتها، فكأن من يظنها غير ممكنة التحقيق يقضي على الإنسانية سلفا بالهزيمة والخزي، وذلك أمر منكر اشد النكر، ولا عبرة عندنا برأى من يزعمون أن الكمال ليس من حظ هذه الحياة، وانما هو من حظ الحياة الأخرى، وان الحرية الفردية المطلقة، من ثم، لا تحقق هنا، وانما تحقق هناك، ذلك بأن كل شيء يكون هناك انما يتم نموذجه هنا.
وكيف؟؟
والإنسان الحر حرية فردية مطلقة هو الذي استطاع ان يحل التعارض القائم بين عقله الباطن وعقله الواعي، حتى يكون وحدة: ظاهره كباطنه وسيرته كسريرته، فيفكر كا يقول ويقول كما يفكر ويعمل كما يقول، فتتحقق له حياة الفكر وحياة الشعور ويبلغ الإنسان هذه الغاية بوسيلتين: اولاهما وسيلة المجتمع الصالح، حيث تهيئ الحكومة للفرد الحرية، والعلم، والفراغ وتوفر له حاجات معدته، وجسده، وحيث يكون الرأى العام من الاسماح، بحيث لا يضيق بانماط الشخصيات المتباينة، ولا يحارب مناهج الفكر المتحرر. وهذا المجتمع هو ما خططنا تنظيمه في دستورنا وثانيتهما وسيلة العقل الجاد في تحرير نفسه بمجهوده الفردي، الذي يبدأ من حيث ينتهي مجهود المجتمع في تحرير كل فرد، ويكون مجهود الفرد، في هذا المستوى امتدادا وتتويجا للمجهود الذي أسهم به، ويسهم دائما، في كيان الجماعة.. وسبب التعارض القائم بين العقل الباطن والعقل الواعي الخوف، ومنشأ الخوف الجهل، ذلك بأن الإنسان، بكل مافي جسده من التركيب الآلي الضعيف، وبكل ما في نفسه من الرغبات، والمطامح، والشكوك، رأى نفسه امام عالم طبيعي، امتزجت رحمته وقسوته، وخطره وامنه، وموته وحياته، على اسلوب كأنه في ظاهره، يعمل على أسس تناقض بناء التفكير البشري فشوهت هذه القسوة المستهترة التي تلقاه بها القوي الصماء في البيئة الطبيعية التي عاش فيها الصورة التي قامت بخلده عن أصل الحياة، وعن غايتها، وعن حقيقة العالم المادي الذي يحيط بها، ويؤثر فيها، فإذا ما أردنا ان نحرر الفرد حرية فردية مطلقة وجب أن يستهدف تعليمنا أياه وتعليمه نفسه تصحيح تلك الصورة الخاطئة الشائهة التي قامت بعقله، حتى تقوم مكانها صورة صحيحة كاملة، عن أصل الحياة، وعن قانونها، وعن غايتها، وعن العالم المادي الذي يحيط بها ويؤثر فيها، فتتركز هذه الصورة الصحيحة في خلده، فتؤثر في اخلاقه وعاداته وتفكيره، وتفضي به إلى الحرية من الخوف، فيستعيد بذلك وحدة الفكر والقول والعمل في وجوده ووعيه كليهما ويحل حينئذ التوافق والاسماح بين العقل الباطن والعقل الواعي محل التعارض والكبت الذي هو سبب الجريمة بين الأفراد وسبب الحروب بين الأمم.
الجبر والاختيار... والقانون
وللتعارض بين العقل الباطن والعقل الواعي مظهر آخر، هو مسألة الجبر والاختيار، وهي مسألة أساسية طالما ظهرت واختفت في تاريخ الفكر البشري من غير ان تظفر بحل، وعلى حلها يتوقف أمر تربوي هام، في المستوى الفردي، وفي المستوى الجماعي، ونكاد نجزم انه لا بد لنا من حلها، إذا كان لا بد لنا أن نجد أسلوب التعليم الجديد، الذي به يعيد كل فرد تعليمه، ليكون لنفسه صورة صحيحة عن الوجود، وذلك أمر قد سبقت الاشارة إلى أهميته.
القانون والقرآن
ان القرآن يبشر بعودة الإنسانية، على هذا الكوكب، إلى الاهتمام بمسألة الجبر والاختيار من جديد، وهو لا يبشر بتلك العودة فحسب، وانما يقدم لتلك المسألة التاريخية الحل الأخير حينما يقول في جملة ما يقول
((أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّـهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
)) ويطيح في جملة واحدة بالوهم الذي يسيطر على عقولنا ويخيل لنا أننا نستقل بارادة، ثم هو يطوع جميع تشاريعه لتعين عقولنا حتى تقوي على مواجهة النور، وذلك ان الوجود وحدة، يخضع لارادة واحدة من ذراته إلى شموسه، فتلك الارادة هي القانون الطبيعي، الذي اختط للعوالم المختلفة وللحيوات التي تعج بها تلك العوالم، بداياتها ونهاياتها، ثم رسم لها خط سيرها فيما بين ذلك رسما محكما لا مكان فيه للمصادفة، وانما كل ما فيه بحساب دقيق وقدر مقدور: وهذا القانون الطبيعي المحكم الدقيق هو أثر العقل الكلي القديم، الذي ما عقولنا الجزئية المحدثة إلا أقباس منه. والقرآن يهدف إلى تحرير عقولنا بأن يوجد بينها وبين العقل الكلي القديم صلة موصولة، وذلك بأن يقيدها بقانون يحكي في دقته وفي وحدته القانون الطبيعي، ليخلق بقانون الوحدة من عقولنا المنقسمة بين عقل باطن وعقل واع كلا واحدا متسقا قادرا على التوفيق والتوحيد بين المظاهر المختلفة في الحياة، وبذلك تقوم في اخلادنا الصورة الصحيحة عن الحياة وعن حقيقة البيئة التي نعيش فيها.
القانون والتقنين
وبفضل قانون الوحدة
((التوحيد
)) في القرآن يقوى العقل البشري على أن يميز الفروق الدقيقة بين الوسائل والغاية، حتى حينما تكون الوسيلة طرفا من الغاية، وكذلك نستطيع أن نعرف ان الفرد هو الغاية، وأن الجماعة هم وسيلة اليه.. ونتج عن هذا أمران: اولهما أن القرآن قد اشتمل على دستور للفرد في المكان الأول، ودستور للجماعة في المكان الثاني، وثانيهما أن القرآن نسق تنسيقا متسقا بين حاجة الفرد الذي هو غايته، وحاجة الجماعة التي هي وسيلته، فلم يقم هناك تعارض يوجب التضحية بأيهما، ويمكن ان يلتمس هذا التنسيق الدقيق في تشريع الحدود، حيث قد بلغ أقصى أوجه، والله تعالى يقول
((وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّـهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ
)) وان توهم المعتدي جهلا انه قد ظلم غيره، ولذلك فإن اقامة الحد عليه انصاف لنفسه من نفسه في المكان الأول، وانصاف لغيره من نفسه في المكان الثاني، كذلك يلتمس هذا التنسيق الفريد في قوانين القصاص، والله تعالى يقول
((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
)) فهي حياة للفرد المقتص منه بنفي أوهامه، وتنشيط ذهنه، وتوسيع خياله، وهي حياة للجماعة المقتص لها، بحفظ نظامها واستتباب أمنها، ونحن نرى لذلك أن قوانين الحدود: الزنا – الخمر - السرقة - القذف - قطع الطريق -، يجب ان تقام، ونرى أن تشريعنا يجب أن ينهض على مبدأ القصاص، لأن بذلك يتحقق لنا أمران: أولهما التنسيق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة، وثانيهما اننا نضع الفرد من الوهلة الأولى في طريق تحقيق الحرية الفردية المطلقة، لأننا بتشريع القصاص كأننا نقول له: انت حر مطلق الحرية في أن تفكر كما تريد وان تقول كما تفكر، وان تعمل كما تقول، بشرط واحد، هو ان تدفع ثمن هذه الحرية، وهو ان تتحمل المسئولية المترتبة على تصرفك فيها، فإن اعتديت على أحد اعتدينا عليك بمثل ما أعتديت عليه. ثم علينا إلا نفارق تشريع القصاص، إلا حيث لا يكون التطبيق ممكنا، وفي تلك الحالة نجعل عقوبتنا أقرب ما تكون للقصاص.
الدستور والقانون
يتضح من هذا اننا نتمسك بالتوحيد، ونستقي منه تشريعنا الفرعي بالقياس على تشريعي الحدود والقصاص، حتى يجيء منسقا في اتجاه موحد لحاجة الفرد وحاجة الجماعة، ونستقي منه تشريعنا الاساسي
((الدستور
)) بتمثل روح القرآن – لا إله إلا الله -، حتى يجيء منسقا في اتجاه موحد لحاجة الحكومة المركزية، وحاجة أعضاء الاتحاد المركزي في مجتمعنا: المجتمع الصغير – السودان – والمجتمع الكبير – الكوكب الأرضي.
فنحن اذن نتخذ دستورنا من روح القرآن ولا نقيد تشريع هيئتنا التشريعية إلا بالتوحيد المنسق للحقوق، التي تبدو لدي النظرة الأولى متعارضة، لأنه ان لم يكن كذلك لا يكن قانونا – وننظر إلى نصوص تشاريع القرآن، ونصوص تشاريع السنة في المعاملات، كوسائل لتحقيق روح القرآن، ونصر على التمسك بها، إلا إذا كانت المصلحة في تطويرها بحيث تتقدم خطوة أخرى بمجتمعنا الحديث نحو تحقيق ذلك الروح، في مضمار الحياة اليومية، وأما نصوص تشاريع القرآن ونصوص تشاريع السنة في العبادات، فهي باقية على ما هي عليه وليس لمشرع عليها من سبيل، فمن شاء اتاها على صورتها المأثورة عن النبي ومن شاء تركها و
((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ
)) ذلك بأن الله تعالى حين شرع العبادات انما اراد بها اعانة الفرد على أن يحسن التصرف في الحرية الواسعة التي أعطاه اياها، من غير أن يتورط في العقوبات التي اشتملت عليها القواعد القانونية او القواعد الاخلاقية، حتى يفضي به السعي، وهو موفور، إلى الاستمتاع بحقه الكامل في الحرية الفردية المطلقة، وبمعنى آخر، ان الله تعالى يضع الإنسان، من الوهلة الأولى، في طريق الحرية الفردية المطلقة، على شرط واحد، هو أن يتحمل مسئولية تصرفه فيها، ثم أستن له الاسلوب التعبدي الذي بلغ نهاية كماله في النحو المأثور عن النبي، ليستعين بممارسته على حسن التصرف في تلك المسئولية الباهظة التي قد تنقض ظهره ان لم يأخذ نفسه بتلك الرياضة الروحية الحكيمة.
الإنسانية ومستقبل الدين
اننا نحن نعتقد ان الإنسانية اليوم تعاني القلق والاضطراب الذي يصحب فترة المراهقة وأنها لن تلبث أن تخلف عهد الطفولة والنقص وتستقبل عهد الرجولة والنضج، ولن تحتاج في غدها القريب الدين، على نحو ما احتاجته في ماضيها، يقوم على الغموض ويفرض الاذعان وانما تحتاجه يقوم على الوضوح، ويقدم اسلوبا للحياة وفق قانون الطبيعة، ولذلك فإنا نرى ان تشريع العبادة في الإسلام، بما يحقق هذا الغرض، ستهوي اليه أفئدة الإنسانية. والآن، وبعد هذه المقدمة الطويلة، التي بينا فيها رأينا في القانون، وفي الدستور، مما تتقيد به هيئتنا التشريعية، نحب ان نتحدث حديثا مباشرا عنها.
هيئتنا التشريعية
السلطة التشريعية يخولها الدستور لبرلمان مركزي، مكون من مجلس واحد نيابي، يكون ممثلا للولايات الخمس، كلا بحسب أهميتها ودرجة تمتعها بحكمها الذاتي، فيمكن ان يكون به ممثل واحد لكل 200 ألف مواطن في الولايتين الغربية والجنوبية، وممثل واحد لكل 150 الف مواطن في الولايتين الشرقية والشمالية، وممثل واحد لكل 50 ألف مواطن في الولاية الوسطى: هذا على سبيل المثال، وسيكون هذا الاجراء أجراء مؤقتا، فيتعدل الدستور ليحقق التمثيل المتكافيء بين المواطنين في جميع الولايات كلما تقدمت نحو مباشرة السلطات التامة للحكم الذاتي، ويمكن أن يخول للمجلس التشريعي لكل ولاية تحديد أهلية نواب ولايته، وطريقة ترشيحهم، على أن يكونوا مستوطنين بالولاية التي يمثلونها ما لا يقل عن سبع سنوات، وألا تقل أعمارهم عن الخامسة والعشرين وأن يحسنوا الكتابة والقراءة، ويشترك في إنتخاب البرلمان الرجال والنساء البالغين من العمر الثامنة عشرة، ويشرف على إجراء الإنتخابات لجنة مخصوصة، يعهد إليها أيضا بوضع حدود للولايات مستديمة، على أن يقر هذه الحدود البرلمان الأول في أول أعماله، فإن أجرى فيها تعديلا لا يصير التعديل نافذا إلا بعد نهاية مدة نيابته، لدي إجراء الإنتخاب للبرلمان المقبل، وتستمر دورة البرلمان أربع سنوات، وله أن يشرع في أي أمر يراه لمصلحة الجماعة، على أن يتقيد بالقيود التي تجعل تشريعه قانونا حكيما على نحو ما سلف به القول، فإنه، إن لم يفعل ذلك، فإن هناك رقابة مشددة على دستورية القوانين من الشعب ومن الرئيس ومن القضاء ومن محكمة العدل الدستورية بشكل خاص، وسيرد اليه تشريعه إن لم يكن دستوريا، وقد يعتقد بعض الناس أن في ذلك تدخلا في عمل الهيئة التشريعية قد يؤخر التشريع، وقد يكون ذلك حقا في باديء الأمر، حين لا يكون للنواب ثقافة قانونية صالحة، وليس بالتأخير من ضير، إذا ما كانت نتيجته وضع تشاريع واعية وحكيمة، وهناك أمر ما ينبغي أن يغرب عن بالنا، وقد وردت الإشارة اليه عند حديثنا عن السيادة، وهو إننا نقيم نظامنا على محاربة الفكرة الخاطئة، حيث القوة تصنع الحقوق، وتقتضي الحقوق، وحيث الدولة هي القانون، ونيمم وجهنا شطر الفكرة الصائبة، حيث الحق هو القوة، وإن بدا أعزل، قليل الناصر، وحيث الدولة تخضع للقانون، والشعب هو صاحب السيادة، يخضع للقانون أيضا، لأنه لا يستمد سيادته من مجرد وجوده، وإنما يستمدها من حبه للقانون، وفهمه إياه، وإمتثاله له، وهذا ما جعلنا نشدد في دستورية القوانين، وما جعلنا نعتبر الهيئة التشريعية العمود الفقرى في الهيكل الحكومي.
دستورية القوانين
والحق أن التشديد في الرقابة على دستورية القوانين أمر طبيعي بالنسبة لكل مجموعة بوجه عام، وبالنسبة لمجموعتنا المتخلفة بوجه خاص، وذلك لأنه قد إتضح من حديثنا عن القانون، وعن الدستور، أنه لا يحسن التقنين إلا من أوتي حظا وافرا من العلم بخصائص النفس البشرية، وبطبيعة الجريمة، حتى يجيء التقنين عدلا شافيا لمرض الصدور، ونحن إذ نجعل التشريع في البرلمان حقا من حقوقه الطبيعية، بصرف النظر عن مستوى النواب، إنما نسير في إتجاهنا الأساسي: وهو أنك لا يمكن أن تربي الناس إلا إذا أعطيتهم الفرصة الواسعة في التجربة، وحتي يتعلموا بأخطائهم، وما الرقابة على دستورية القوانين إلا وسيلة لتنبيه الهيئة التشريعية إلى الخطأ وإعانتها على تصحيحه، وسيكفل الدستور الإجراء الذي يتبع في ذلك.
وإلتزام البرلمان في تشريعه تحقيق التنسيق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة يلزمه أن يكون تشريعه إشتراكيا، يملك موارد الثروة جميعها للشعب، لا للأفراد ولا للدولة، ويحدد الملكية الفردية بإمتلاك مالا يستخدم في إستغلاله أي مواطن. وعندما تقدم للبرلمان مشروعات قوانين يحسن سماع آراء المواطنين الذين سيتأثرون بها، وآراء الفرع التنفيذي الذي يمكن أن تمسه أثناء إنجاز عمله قبل أن تصبح تلك المشروعات قوانين، ويمكن أن تقدم مشروعات القوانين من أي فرد، أو جماعة، أو من مجالس الولايات التشريعية، إلى البرلمان، أو أن يطلب البرلمان رأى هذه المجالس في أي تشريع يري أنه سيؤثر على الرعايا الذين تخدمهم بعملها التشريعي، وستتكون لجان إختصاص داخل البرلمان من الفنيين في كل فرع من فروع المرافق العامة.
وللبرلمان الحق في الاعتراض على أي تشريع، أو إجراء تتخذه الولايات، لا يكون دستوريا، أو متمشيا مع مصلحة الحكومة المركزية عامة. والقانون الذي يجيزه البرلمان يقدم للرئيس للتوقيع عليه.. فإذا ما وقع عليه صار قانونا، وإذا أعاده للبرلمان مصحوبا بأسباب رفضه التوقيع عليه لم يصر قانونا إلا إذا أجازه البرلمان بأغلبية الثلثين، وإذا لم يوقع عليه، ولم يعده في ظرف شهر من الزمان، صار قانونا، من تلقاء ذلك.
والبرلمان المركزي يقوم على وحدة تشريعية لسائر البلاد، ولكن المجالس التشريعية للولايات يمكنها أن تشرع لمجموعتها حسب الأوضاع، والإمكانيات، والحاجة، على أن تحرص على أمرين: أولهما موافقة تشريعها للدستور دائما، وثانيهما أن يستهدف تشريعها تطوير الولاية، حتى تتحقق الوحدة التشريعية لسائر البلاد، حتى في الأحوال الشخصية.
وإلى جانب سلطاته التشريعية هذه، فإن البرلمان يختص بالمسائل التي تهم الإتحاد بأكمله: في الداخل، كتنسيق نشاط الولايات في جميع وجوهه، حتى يطرد تطورها إلى تقارب، وتماسك، وإتحاد، يقوى كل حين بمحض إختيار الولايات، وفي الخارج، إعلان الحرب، إذا إقتضى ذلك ضرورة الدفاع، والتصديق على المعاهدات، والإشراف على تجارة البلاد الخارجية، واستيراد رؤوس الأموال الأجنبية لأي من الولايات لدى الضرورة وبالصورة التي يراها لمصلحة البلاد، والتصديق على الميزانية العامة للحكومة المركزية، والخاصة بكل ولاية من الولايات، وله أن يشرف على تنمية الإقتصاد الوطني بإجراء التحقيقات، وابتداع وسائل للتنمية يقترحها على الرئيس، كما للبرلمان الحق في أن يعترض على تعيين أي من كبار الموظفين، وله الحق في أن يتهم أي موظف مدني بإساءة التصرف، بحيث يمكن أن تحال التهمة لتحري مجلس الدولة. وللبرلمان الحق في إختيار رئيسه، وسائر موظفيه، ولجان إختصاصه، ومقرري تلك اللجان، وله سلطة التحقيق ليتسنى له دراسة الأحوال الخاصة التي تدعو لسن القوانين الجديدة، وليعرف كيف يشتغل كل من أعضاء السلطتين التنفيذية والقضائية، مما قد يؤدي إلى إبتداع منافع جديدة للشعب، وله حق إقتراح إقامة الإصلاحات التي يراها، كما له حق التحقيق في سيرة أعضائه بأن يطلب مثلا من أشخاص ممتازين من الشعب معلومات عنهم أو بأي وسيلة أخري.
وللبرلمان حق الأشراف على تشريع جميع الهيئات التشريعية في الولايات والمقاطعات والمدن والقرى، ليرى ملاءمتها للدستور ولأغراض الحكومة المركزية، من حيث حماية حقوق الناس جميعا، حتى يكون لهم حق التنقل، بدون قيد، بين جميع الولايات، وحق الإستيطان في أيها شاءوا، متمتعين بحقوق الحياة، والحرية، والإمتلاك، في حدود القانون، وأن يلجئوا إلى المحكمة في طلب العدالة، والحماية، كلما شعروا بظلم أو هضم.