بسم الله الرحمن الرحيم
(تسبح له السموات السبع ، والأرض ، ومن فيهن .. وأن من شئ إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم .. أنه كان حليماً غفوراً ..)
صدق الله العظيم
المقدمة:
هذه مقدمة كتاب "الإسلام والفنون" وهو عبارة عن متن محاضرة ألقيت على طلبة "كلية الفنون الجميلة والتطبيقية" ، وضيوفهم ، وذلك يوم الثلاثاء ، 24/9/1968 ... ولقد أخذت هذه المحاضرة عن الشريط ، وهي تجري بلغة الكلام ، لا بلغة الكتابة ، كذلك وردت في الأصل.
ولقد اسمينا هذا الكتاب: "الإسلام والفنون" .. ولقد كان من الممكن ان نسميه "الفنون والإسلام" ولكننا آثرنا الأول لأن تقديم كلمة الإسلام فيه توخ للحكمة التي توجب تقديم الفاضل على المفضول ، فذلك أمر لا معدى عنه ، ولكننا كنا ، حين تعديناه في فكرنا ، وحين هممنا بتسمية الكتاب على النحو المشار إليه آنفاً ، كنا نعتذر عن هذا الصنيع بخطتين اثنتين: كون هذا الكتاب يعنى ، في المكان الأول ، بالفنون ، ثم يضعها موضعها في الإسلام ، هذه واحدة ، والثانية أن الفن ، والإسلام ، لصيقان ، وتوأمان .. وهذا يقتضي تعريف الفن ، وتعريف الإسلام.
الفـن:
فأما الفن ، فقد سبق لنا أن عرفناه في متن هذه المحاضرة ، وذلك حيث قلنا ، ان الفن هو وسيلة التعبير عن ملكة التعبير .. وقلنا يومها أن ملكة التعبير إنما هي الحياة .. والحياة تعبر عن نفسها بوسائل مختلفة ، في مستويات مختلفة ... فهي تعبر عن نفسها بالحركة ، وتعبر عن نفسها بالغذاء ، وتعبر عن نفسها بالتناسل ، كما تعبر عن نفسها بالشعر ، وبالنثر ، وبالغناء ، وبالرقص ، وبالنحت ، وبالرسم ، وبالتصوير ، وبالتمثيل ، وبالموسيقى ، وبغيرها من ضروب الطاقة الفكرية ، والجسدية ، التي تفيض وتنبجس .. فهل يعني هذا أن كل أساليب الحياة للتعبير عن نفسها فن ؟؟ .. نعم هذا على التعميم ، وفي جملة الأمر ، صحيح ... بيد أن صور التعبير التي تمارسها الحياة البدائية تعتبر فناً فجاً ، وتزيد فجاجته كلما انحصر في التعبير عن مجرد نوازع المعدة ، والجسد ... اننا لا نسمي أساليب الحياة ، في التعبير عن نفسها ، فناً ، بالمعنى المخصص لهذه الكلمة ، إلا إذا ما دخلت هذه الأساليب على مستوى التعبير عن القيمة – القيمة في الحياة – وأعلى قيم الحياة الحرية .. هناك الطاقة الحياتية ، وهناك الطاقة العقلية ، وإنما بالطاقة العقلية دخلت القيمة في الحياة .. فالفن إنما هو تعبير الطاقة الحياتية عن نفسها من خلال مصافي العقول المرتاضة ، الصافية ، القوية الإدراك ... الفن هو التعبير عن حياة الفكر وحياة الشعور ، في آن معاً .. والطاقة الحياتية إنما هي أصل الحياة ، في سذاجة ، وبساطة ، وهي لا تفلسف ، ولا تتأنق ، ولا تحتفل ، حين تعبر عن نفسها .. وأسلوبها في التعبير اسلوب القصد الصريح ، في ممارسة اللذة ، واجتناب الألم .. ولكننا نحن لا نعتبر اندفاعات الشهوة في هذا المستوى فناً من الفنون .. وإنما الفن تعبير الشهوة المحكومة بالعقل المهذب ، المروض المنضبط بقواعد الخلق الرصين .. وإنما من أجل ترويض ، وتهذيب العقول حمدت مساعي الفنون ، في صورها المختلفة ، وبأساليبها المختلفة .. وإنما قيمة كل أسلوب من أساليب الفنون هي قيمة ما يقربنا من تلك الغاية ...وفي هذا المضمار يقع التفاوت بين أفانين الفنون ، وفيه أيضاً يقع اختلاف ما بين الفن والدين – الإسلام ... ومعلوم انه إنما هو دائماً اختلاف مقدار .. ولقد تعرضنا لتعريف الفن في الأسطر القليلة الماضية ، ولقد قررنا هناك أن الفن والإسلام لصيقان ، وهذا يعني أنهما وجهان لأمر واحد ... هذا الأمر الواحد إنما هو الحياة ... فالفن أسلوب تعبير للحياة به يزيد عمقها ، واتساعها .. والإسلام اسلوب تعبير للحياة ، به يزيد عمقها واتساعها ، ولكن أسلوب الإسلام أشمل وأعمق ، وأبعد مدى من أسلوب الفنون .. ولقد وردت الإشارة إلى الاسلوبين: أسلوب الفنون ، وأسلوب الإسلام ، في الآية الكريمة: ((سنريهم آياتنا ، في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق .. أو لم يكف بربك أنه على كل شي شهيد ؟؟)) فهذه آيات الآفاق ، وآيات النفوس ... وهي جمعيها موضوع الفنون ، وموضوع الإسلام .. فأما الفنون فإنها تعنى بآيات الآفاق ، أكثر مما تعنى بآيات النفوس ، ولكن عنايتها بهذه غير غائبة .. وأما الإسلام فإنه يعني بآيات الآفاق ، ويتخذها مجازاً إلى آيات النفوس ، وعنايته بهذه ، وبخاصة في آخريات مراقيه أكبر وأعظم .. وللعلم التجريبي في هذين مجال ، ولكنه ليس هنا بذي بال .. ويكفي فيه أن يقال: أن الفن ، والدين ، والعلم ، متداخلة ، والاختلاف بينها إنما هو اختلاف مقدار..