16) الحضارة الغربية الحاضرة بشقيها - الاشتراكي والرأسمالي - إنما هي حضارة مادية، قيمة الإنسان فيها مهدرة، وقيمة الحطام مرتفعة.. هي حضارة، وليست مدنية.. هي حضارة التكنولوجيا الهائلة، والآلات الرهيبة، ولكن الإنسان فيها ليس سيد الآلة.. لقد نمّت التكنولوجيا الثروة بصورة خيالية، ولكن، لغياب القيمة، لم يكن هناك عدل في توزيع الثروة، وإنما انحصـرت في أيدي القلة، وأصبح الفقر نصيب الكثرة، فذُهل الغني، بالغنى، عن إنسانيته، كما شُغل الفقير، بالفقر، عن إنسانيته، فانهزم الإنسان، في هذه الحضارة المادية، الآلية الهائلة، المذهلة.. لقد وصلت هذه الحضارة إلى نهاية تطورها، ووقف طلائعها في نهاية الطريق المقفول - طريق المادية الخالية من الروحية.. ولابد للبشرية التي سارت في هذا الطريق العلماني حتى بلغت نهايته من أن تعود لتدخل من جديد، في الطريق العلمي..
17) من الأمم الإسلامية أمم متقدمة، بمقاس الوقت الحاضر، فدخلت خلف طلائع الحضارة الغربية في هذا الطريق العلماني، وقطعت فيه شوطا، به اعتبرت متقدمة، في الوقت الحاضر.. ومن الأمم الإسلامية أمم متخلفة، بمقاس الوقت الحاضر، فلم تصل حتى إلى مفترق الطريقين - الطريق العلمي والطريق العلماني - وهي بذلك اعتبرت متخلفة.. أما نحن- السودانيين- فإننا، بفضل الله علينا، نقف اليوم في مفترق الطريقين.. لقد دخل بعضنا في طريق الحضارة الغربية الحاضرة، تبعا لطلائـع هذه الحضارة، ولكنه لم يوغل، ولم يبعد عن مفترق الطريقين.. أما الشعب فإنه بفضل الله علينا، وعلى الناس، يقف عند مفترق الطريقين، تماما، محتفظا بأصائل طبائعه التي قد قدّها الله تعالى له من شريحة الدين.. أما نحن الجمهوريين، فإننا، فبفضل الله علينا، وعلى الناس، قد امتد بصرنا حتى رأينا قافلة البشرية الحاضرة، وهي تقف حائرة، عند نهاية طريق العلمانية المسدود، وأصبح واضحا عندنا، أن علينا لأن ندخل بشعبنا طريق العلمية حتى نكون للبشرية - قل للإنسانية - طليعة جديدة.. طريق العلمية طريق مفتوح على الإطلاق، وسير الإنسانية فيه سير سرمدي.. فهو يحقق فيه، كل حين، قدرا من إنسانيته، ومن كرامته، ومن عزه، ومن كماله.. وليست لكمال الإنسان نهاية، لأن نهايته عند الله ((وأن إلى ربك المنتهى)) ولا منتهى لكمال الله تبارك وتعالى..
18) إن العلمية لا تستغني عن العلمانية، وإنما تضعها في موضعها، وهو موضع الوسيلة من الغاية، على غرار ((الدنيا مطية الآخرة)).. فمن استغنى بالدنيا عن الآخرة، فقد ضل ضلالا بعيدا.. ومن حاول أن يطلب الآخرة بدون الدنيا فقد ضل.. والقصد القويم هو أن تأخذ من دنياك زاد الراكب، لتسير إلى أخراك.. هذا هو المقصود بقولنا إن العلمية لا تستغني عن العلمانية.. الحضارة العلمانية، المادية الآلية، الحاضرة، حضارة عملاقة، ولكنها بلا روح، فهي تحتاج إلى مدنية جديدة تنفخ فيها هذا الروح، وتوجهها الوجهة الجديدة، التي تجعلها مطية للإنسان بها يحقق إنسانيته، وكماله.. وهذا ما علينا أن نقدمه نحن من الاسلام..إن الطريق العلمي الجديد الذي على الشعب السوداني أن يدخله منذ اليوم، هاديه كتاب الأجيال - القرآن - ودليله محمد، النبي الأمي، الذي جسد القرآن، في اللحم والدم.. فمعرفة الأكوان - العلمانية - ومعرفة الله - العلمية - يجب التنسيق بينهما بعلم، لأن الأكوان إنما هي مطية الإنسان، في سيره إلى الله.. يقول تعالى: ((سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم: أنه الحق.. أو لم يكف بربك، أنه على كل شيء شهيد؟؟)). ويقول: ((خلقت الأكوان للإنسان، وخلقت الإنسان لي)).. وهذا هو معنى قوله تعالى: ((ما وسعني أرضي، ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن!!))..
19) علينا أن نعلم أنفسنا، وأن نعلم شعبنا، وأن نعيد تعليم المتعلمين منا، من جديد، فنخرجهم من الطريق العلماني، إلى الطريق العلمي.. إن علينا لأن ننشئ التربية، والتعليم.. فأما التربية فببعث سنة النبي فينا معاشة.. وهي معنى "العدل": العدل بين العبد والرب، والعدل بين العبد ونفسه، والعدل بين العبد وأهله، والعدل بين العبد والناس، والعدل بين الناس.. وهذا كله وارد في الكتب الجمهورية – "طريق محمد" و"أدب السالك في طريق محمد" و"الرسالة الثانية من الإسلام" و"رسالة الصلاة" و"تعلموا كيف تصلون" الخ، الخ.. وسيكون مجال التربية التعليم الرسمي، في المدارس، والمنابر الحرة، في كل ميادين القرى، المدن، ومنابر المساجد، ومنابر المدارس، والمعاهد، والجامعات، وكل مجاميع الشعب.. وأما التعليم الرسمي سيكون مجاله المدارس، والمعاهد، والجامعات، وهو تعليم يقوم على العلم المادي التجريبي، حتى يتقن المواطن، والمواطنة، المقدرة على تصميم الآلة، وصنعها، واستعمالها، وصيانتها، لكي يكون نافعا لمجتمعه بتسخير العالم المادي لخدمته.. لقد قلنا: إن العلم المادي، والعلم الروحي، قد اتفقا على وحدة الوجود، وذلك يعني أن بيئتنا التي ظللنا نحاول التعرف عليها في الآماد السحيقة بوسيلة العلم المادي، والعلم الروحي، قد ظهرت لنا على حقيقتها، بفضل الله علينا، ثم بفضل هذين العلمين.. إن علينا لأن نعيد توجيه برامج تعليمنا حتى يجد الفرد منا المقدرة على المواءمة بين حياته وبيئته هذه الجديدة، ولما كانت هذه البيئة الجديدة، إنما هي بيئة روحية، ذات مظهر مادي، كما سبق أن قررنا، فقد أصبح على الحي أن يعلم مظهرها ومخبرها - خصائصها وكنهها - وهذا ما يوجب تعلم العلم المادي، التجريبي، والعلم الروحي، كليهما، لكي يتم تواؤم الحي مع بيئته هذه القديمة، الجديدة..
20) لقد أصبح علينا أن نعطي كلمة الديمقراطية: حكم الشعب بواسطة الشعب لمصلحة الشعب معنى جديدا يناسب المرحلة المقبلة من مراحل تطور البشرية المعاصرة..لقد سبق أن قررنا أن كلمة الديمقراطية قد تطورت في معناها عبر ما يزيد على الألفي سنة بتطور معنى كلمة الشعب.. لقـد أصبحت كلمة الشعب في الديمقراطيات النيابية عندنا اليوم تعني كل المواطنين، من رجال، ونساء، منذ أن يبلغوا سن الرشد.. هذا تطور في "الكم" لا يكاد يحتاج إلى مزيد، وإنما يجب أن ندخل، في تطوير كلمة الشعب، "الكيف" بعد أن استوفينا، أو كدنا نستوفي، "الكم".. ذلك بأن الحكم الديمقراطي لا يمكن أن يحققه شعب جاهل كما سبقت إلى ذلك الإشارة.. ولا نعني بالجهل هنا عدم تعليم المدارس، فقد سبق أن بيّنا أن تعليم المدارس، الحاضر، على النهج الغربي وحده، ليس بعلم، وإنما هو علم ناقص - هو علمانية..
هذه مرحلة البشرية، وأمامنا مرحلة الإنسانية. . ومرحلة الإنسانية تطور فوق مرحلة البشرية، كتطور مرحلة البشرية، فوق مرحلة الحيوانية.. ولقد فصّلنا في ذلك في مقدمة الطبعة الرابعة من كتابنا: "رسالة الصلاة" حيث تحدثنا عن مراحل نشأة الإنسان، وقلنا إن له أربع مراحل، في نشأته هذه المباركة.. قلنا هناك:
"لقد تحدثنا عن المراحل الأربع من نشأة الإنسان. تحدثنا عن المرحلة الأولى فقلنا: إن بدايتها في الأزل، حيث برز الإنسان في الجسد، في المادة غير العضوية تلك التي نسميها، اصطلاحا: ميتة - ونهايتها عند دخول المادة العضوية المسرح..
"وتحدثنا عن المرحلة الثانية، فقلنا: إن بدايتها عند ظهور المادة العضوية – تلك التي نسميها، اصطلاحا، حية – ونهايتها عند ظهور العقل.. ويتضح لنا من هذا، أن الشبه كبير بين المرحلتين: الأولى والثانية، فهما معا مرحلة الجسد الصرف، على اختلاف مستوياته، من ذرة بخار الماء إلى أعلى الحيوانات الثديية، ما خلا الإنسان.."
"وأما المرحلة الثالثة فهي تتميز عن المرحلة الثانية ببروز العقل من الجسد، وهو عهد جديد، وخطير.."
وأما المرحلة الرابعة فهي تتميز عن المرحلة الثالثة، بدخول الحاسة السادسة، والحاسة السابعة، في المسرح، وتلك درجة جديدة من درجات الترقي، تصبح بها الحياة البشرية شيئا جديدا، مختلفا عما ألفنا من قبل..
ولذلك فإنا نستطيع أن نقول: إن لدينا ثلاث مراحل لنشأة الإنسان، مرحلة الجسد الصرف، ومرحلة الجسد والعقل المتنازعين، وأخيرا مرحلة الجسد، والعقل المتسقين.." انتهى..
وأما مرحلة الجسد والعقل المتنازعين فهي مرحلة البشرية، منذ بدء الخليقة، وإلى اليوم.. وأما مرحلة الجسد والعقل المتسقين، فهي مرحلة الإنسانية، التي هي قبلة البشرية الحاضرة، منذ اليوم، وليس لها منها بد..